السبت ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
«سوبوربيكون»(2/2017):
بقلم مهند النابلسي

المجتمع المثالي والسلوك العدائي!

هو مجتمع ضواحي مثالية، يتكون من منازل ملائمة متماثلة، وحدائق جميلة بأسعار معقولة، وهذا المكان مثالي للاسر "المتوسطة الدخل" التي ترغب بتنشئة اولادها في بيئة صحية اجتماعية جميلة، وفي صيف العام 1959 يحدث ذلك تماما مع اسرة "لودج" ظاهريا، ولكن تحت السطح الهادىء يوجد واقع مزعج، فالزوج والأب "غاردنر لودج"(مات ديمون) يتحرك في اجواء تآمر ظلامية وباطنية شريرة، تحفل بالخيانة والخداع والعنف...هذا هو ملخص قصة الفيلم الجديد الشيق "لجورج كلوني"، التي تتحدث عن اناس "سيئين" اتخذوا خفية خيارات خاطئة وكارثية:

*كتب الاخوة "كوان" قصة فيلم عصري معقد ومترابط مع الماضي العنصري البائس لأمريكا، وهو ربما يسترجع خطاب "ترامب" الشعبوي حول جعل امريكا عظيمة مرة اخرى، كما يسلط الأضواء ثانية على فحوى الحلم الأمريكي المثالي وامكانية تجديده...ابدع كل من "ديمون ومور"بأداء دورهما الغامض المريب (قامت "جوليان مور" بأداء دوري الام المقعدة والخالة الخائنة)، حيث تبدأ القصة بطيئة وهادئة، لتتطور لتصبح ثقيلة وحافلة بالتوتر والهياج وعناصر الجريمة المتداخلة، وصولا للنتيجة الماساوية المتوقعة، وهو فيلم شيق ومسلي، ويعلق في الذهن.

*بعد فترة وجيزة من مقتل الام، يدخل ابن لودج الصبي الصغير نيكي(نوح جوب) فجأة للمنزل، وينتبه لضجيج هادىء مشبوه في الطابق سفلي، ويفتح الباب بحذر، فيرى مشهدا اباحيا، لا يجوز لطفل في سنه ان يراه ابدا، حيث يشاهد خالته ماغي(جوليان مور)، مثنية على طاولة مع سروالها الداخلي حول كاحلها، في حين يؤرجح والده "خفاشة بينغ بونغ" مترددة باتجاه أردافها العارية...ويصاب بصدمة، ولكن بالرغم من ذلك تصر الخالة "ماغي" على لعب دور الام والحفاظ على واجبها الاجتماعي لتماسك الاسرة في هذه الظروف الصعبة.

*لا شك أنه فيلم انيق بمشاهد جميلة، وابدع "مات ديمون" كعادته بتقمص الشخصية (كما في فيلم "جيسون بورن" الحركي)، كما يذكرنا اداء جوليان مور باداء "كيم نوفاك" في "دوار" هيتشكوك الخالد (فيرتيغو)، ولا اوافق اراء معظم النقاد الذين هاجموا اخراج كلوني، بل اعتبرته قصة سينمائية معبرة تدور على خلفية نزوح اول اسرة سوداء للعيش في "اسكان مثالي" في نهاية خمسينات القرن الماضي، كما ان الصداقة البريئة بين الصبيين كانت معبرة وذات دلالة، وقد لعبها باتقان كل من "نوح جوب وتوني اسبينوزا"، باختصار انه ليس فيلما سيئا البتة ولكنه ليس الأفضل، كما انه بالاضافة لبعده التشويقي الغامض، فهو فيلم مناهض للعنصرية بامتياز وباسلوب فني راقي، بعيد عن الخطابة الاملائية، كما يحتوي الفيلم على مشاهد ابداعية منها طريقة مقتل محقق التأمين ووضعه بسيارته في مكان ناء لاخفاء الجريمة، ومن ثم عودة ديمون العاجلة على دراجة صبيانية للمنزل وبموازاته سيارة "القاتل" المافيوزي السمين المتنفذ، ثم اكتشافه لمقتل الخالة "ماغي"، مع كل من القاتل الآخر النحيل والخال، ثم بطريقة تناوله للسندويشات والحليب المسمم وهو يهدد ابنه الصبي ويخيره بأن ينفي معرفته بتفاصيل ما جرى لكي يقبضا تعويض التأمين ويهربا لجزيرة في الكاريبي والا...، ثم لطريقة صراع قاتل الخالة النحيل مع الخال المخلص، فيما يبقى الصبي تحت السرير يسمع "ضجيج صراعهما الضاري" متلصلصا ومرعوبا وكأنا نتابع الصراع من خلاله، ليفاجىء بمقتل كليهما، أحدهما بالرصاص والخال بطعنة نجلاء في الظهر، قبل أن يعطيه هذا الأخير المسدس ويخفيه في دولاب الملابس ليحمي نفسه من اجرام والده المتوقع، كل هذه اللقطات المدهشة المرسومة بنفس اسلوبية "هيتشكوك وبولانسكي" تجاهلها معظم النقاد بلا سبب.

*ثم لماذا يظهر رجل التامين "اوسكار" فجأة بشارب "كلارك جيبل" وسحنته الكاريزمية، ويتحدث بلباقة اولا ثم يصعد من لهجته فيتحدث مهددا عن الاشارات الحمر ومزاعم الاحتيال التأميني؟ كما لماذا لا يتعرف ديمون ولا شقيقة زوجته على المشبوهين "القاتلين" عندما يصطفون في خط المشبوهين في المركز الشرطة، حيث يقتحم الصبي المنصة فجأة ويتعرف عليهما؟ فيما يقدم الأب للصبي حججا غريبة لعدم تعرفه عليهما؟

*يظهر "مات ديمون" هنا بشخصية "غاردنر لودج" الغامض، الذي يعتقد رئيس الشرطة بالخطأ أنه يهودي، فيما ينفي هو ذلك مدعيا انه من طائفة مسيحية أقلية، لودج يعاني من غزو وحشي لمنزله مساء يؤدي لوفاة زوجته المعاقة (بسبب حادث سير قديم)، كما يحدث شيء عنصري فظيع في سوبرماركت الضاحية الوحيد "لتطفيش" العائلة السوداء الوحيدة، كما أن هناك أشياء مريبة وغامضة ومتداخلة تحدث في منزل "لودج" أهم كثيرا من تداعيات سكن وبقاء العائلة السوداء في الضاحية أسفل الشارع، في اشارة تاريخية لما حدث في العام 1959، الفيلم الذي عرض اولا في مهرجان البندقية السينمائي (2017) (في "نظرة ما")، يشير بجرأة وذكاء لمسيرة الحرية والحقوق المدنية، ويلمح للتشابه العصري بالرغم من مضي العقود، انه فيلم يبتعد عن "الكوميديا السوداء"، ليدخل لدهاليز الشر والجريمة الخفية، كما يسلط الضؤ على عناوين العزل والجدران والظلام"، في اشارة ذكية لواقع الحياة في أمريكا "دولة الأحلام والمستقبل"!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى