السبت ٣١ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم إدريس لكريني

المدونون العرب وقضايا المجتمع

تنامت ظاهرة التدوين بشكل مكثف ولافت في السنوات الأخيرة؛ بالموازاة مع التطورات التي طالت مجال التكنولوجيا الحديثة عموما وحقل الأنترنت على وجه الخصوص؛ وأضحت هذه المنابر تتطور بصورة متسارعة دخلت من خلالها عالم المنافسة إلى جانب مختلف القنوات الفكرية والثقافية والإعلامية.. التقليدية.

وقد أسهم توافر مجموعة من العوامل والشروط في هذا التصاعد والتطور؛ فعلاوة عن وجود قوالب جاهزة تقدمها بعض المواقع المهتمة بهذا الشأن لمرتاديها.. وعدم تكلفتها المادية.. إضافة إلى إمكانية فتحها – المدونات - بأسماء مستعارة تسمح بمقاربة المواضيع ونشر الأفكار بجرأة وموضوعية؛ بعيدا عن أي إكراه أو ضغط موضوعي أو نفسي.. فإن هذه التقنية تتيح إمكانيات تواصلية وإبداعية جمة..

وضمن هذا السياق؛ أكدت بعض الإحصائيات أن عدد المدونات بلغ إلى حدود شهر سبتمبر/ أيلول 2007؛ ما يناهز 106 مليون مدونة بلغات مختلفة؛ وهو رقم مرشح لمزيد من التطور والارتفاع.

وفي المنطقة العربية التي تعيش عددا من الإكراهات والمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. تزايد الإقبال على إحداث مدونات تعنى بمختلف الشؤون والقضايا والاهتمامات..

ولعل التساؤلات التي تظل مطروحة أمام هذه المعطيات هي: ما هي الإمكانات والفرص التي تتيحها المدونات في منطقتنا العربية الذي تعاني معظم أقطارها من مجموعة إكراهات ومشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية.. مختلفة؟ وكيف يمكن استثمار هذه التقنية الواعدة لخدمة قضايا الوطن العربي في عالم يتطور بسرعة فائقة؟ وكيف يمكن تطوير أدائها في هذا الصدد؛ وتجاوز مختلف الإشكالات والصعوبات التي تواجه مسارها السليم؟

إمكانات مذهلة في محيط مأزوم

نظرا لحيويته وأهميته؛ لقي التدوين إقبالا واسعا في المنطقة العربية؛ حيث برزت العديد من المدونات التي تهتم بمختلف القضايا والشؤون(ثقافية، علمية، سياسية، اجتماعية، رياضية، فنية، بيئية؛ تاريخية؛ دينية؛ تربوية، شخصية، إبداعية..)؛ إلى الحد الذي اعتبر فيه البعض أن هذه الإمكانية انتقلت من مجرد هواية ظهرت لأول مرة بالولايات المتحدة في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم؛ إلى قوة ضغط حقيقية في السنوات الأخيرة.

وهكذا مكنت التطورات الحاصلة في مجال التدوين من تجاوز احتكار الدول بقنواتها الإعلامية والتربوية والثقافية للمعلومة والأخبار ووسائل التعبير بصفة عامة.. بل إنها أضحت في الواقع منافسا حقيقيا لهذه القنوات؛ وهو ما تؤكده نسبة التردد والمقروئية المتزايدة يوما بعد يوما لعدد من هذه المدونات؛ التي أتاحت إمكانيات فائقة في التواصل بين مختلف الأشخاص في مختلف المناطق؛ وتبادل الأفكار بصدد عدد من القضايا؛ بعدما أسهمت في تكسير الحدود الجغرافية والاجتماعية والسياسية بين الدول لتعزز تواصلا أكثر نجاعة وتطورا..

ولعل ما يمنح هذه المدونات مصداقية في نظر مرتاديها؛ هو استثمارها لهامش الحرية الذي تتيحه الشبكة العنكبوتية للمعلومات؛ وعدم الخشية من مقص الرقابة الحكومية الذي لم يعد قادرا على التحكم في هذا المجال المنفلت؛ مما يمكنها من طرح مواضيع وقضايا سياسية واجتماعية وشخصية.. جريئة؛ لا تجد طريقها للمتلقي عادة إلا من خلال هذه التقنية بأسلوب مبسط وساخر أحيانا؛ عكس التقنيات التقليدية التي طالما تغلق أبوابها أمام طرح عدد من هذه القضايا؛ أو تقاربها في أحسن الأحوال بنوع من التحفظ أو الانحراف أحيانا؛ بالنظر للرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسها؛ أو بفعل ضيق هامش التعبير والحريات داخل معظم البلدان العربية..

إن ما يؤهل المدونات للقيام بأدوار طلائعية مستقبلا؛ ويسهم في ازدياد انتشارها وتأثيرها في المنطقة العربية؛ هو اهتزاز ثقة المواطن في مختلف المنابر الإعلامية التقليدية بشتى أشكالها المرئية والمكتوبة والمسموعة؛ المندرجة سواء ضمن القطاع الخاص أو العام.. التي لا تعبر بالضرورة عن همومه وانشغالاته الحقيقية؛ بحكم الضغوطات المختلفة التي تتعرض لها.. في الوقت الذي تستفحل فيه المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل ملحوظ داخل معظم الأقطار العربية..

فهي – المدونات - تسمح في جانب هام منها برواج مجموعة من الأفكار والمعلومات المتعلقة بقضايا قريبة من نبض المجتمع، وتعكس مشاكله الحقيقية بشكل غير منمق أو منحرف؛ مما يجعلها تصل بسرعة إلى المتلقي الذي يشعر من جانبه بمصداقيتها وجديتها..

كما أن الإمكانية التي تتيحها المدونات عادة؛ فيما يخص التعليق على الأخبار والمقالات والدراسات والإبداعات..؛ هي مدخل هام يمكن أن يسهم في تعزيز هذه التقنية؛ ويسمح ببلورة نقاشات فكرية جادة وعميقة تطرح الرأي والرأي الآخر بشكل أكثر وضوحا وجرأة وموضوعية.. ويتيح بذلك تكريس ثقافة الاختلاف وتطوير الأفكار على درب الخروج بخلاصات هامة؛ يمكن أن تسهم في حل عدد من الإشكلات والمعضلات بمختلف مظاهرها وأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..

إن المتتبع لفضاء التدوين يكتشف أنه أضحى مجالا للنقاش والتواصل والحوار المستمر؛ كما أصبح يتسم بالجرأة؛ إلى الحد الذي جعل البعض يعتبره بمثابة طفرة تحررية نوعية بعد التحول الذي أحدثته القنوات الفضائية في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة.

وهذا ما سمح للمدونين من تنظيم حملات تضامنية مع مختلف الشعوب المظلومة؛ ومع ضحايا الاستبداد والقمع في مختلف المناطق العربية والعالمية أيضا؛ وحملات تحسيسية أيضا مكنت من الوقوف على مجموعة من القضايا العادلة(حملات ضد تهويد القدس، حملات ضد الرسوم المسيئة للرسول(ص).... كما أسهمت العديد من المدونات في فضح عدد من مظاهر الفساد السياسي والتهميش الاجتماعي.. وأكدت نجاعتها في الوصول بتوصياتها ومطالبها وحملاتها إلى صانعي القرار على اختلاف مستوياتهم ومجالات اهتمامهم..

وقد حظيت قضايا عربية كبرى باهتمام المدونين من قبيل القضية الفلسطينية، والاحتلال الأمريكي للعراق، والتحولات السياسية في لبنان..

هذا بالإضافة إلى قضايا إقليمية ودولية حيوية كالملف النووي الإيراني، تداعيات أحداث 11 شتنبر 2001 والتحولات السياسية والاقتصادية في أوربا..

تحديات كبرى

إن ما يعزز من مصداقية المدونات العربية ويفتح آفاق المراهنة عليها في عالم سمته التطور والتسارع؛ هو مدى قدرتها على استيعاب وفهم المحيط العربي بإمكانياته وتحدياته؛ وانفتاحها المستمر على المشاكل والقضايا الحقيقية للمجتمع والتفاعل معها بشكل إيجابي على طريق مواجهة العديد من الإكراهات المجتمعية.. وتكريس الإصلاح المنشود على مختلف الواجهات والصعد..

ففي الوقت الذي استوعبت فيه العديد من دول العالم في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا دروس المرحلة وحجم التحديات التي أصبحت تفرضها التحولات الدولية الراهنة (مخاطر العولمة بكل تجلياتها، أهمية التكتل، الديموقراطية، التربية والتعليم..) وانخرطت بحزم وإرادة قويتين في قطع خطوات مهمة وثابتة على طريق التنمية الشاملة والديموقراطية الحقيقية؛ تعيش العديد من الأقطار العربية وبحكم الطوق المفروض على أي إصلاح أو تغيير حقيقيين؛ شبه ركود تعكسه الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية المستمرة؛ والتي لا تخلو في عمقها من تداعيات دولية خطيرة.. من جهة؛ وكذا تنامي مظاهر التهافت على المنطقة العربية في شكل مشاريع "إصلاحية" ملغومة؛ أو في شكل تدخلات زجرية مقنعة أو مباشرة(احتلال العراق وما تمخض عنه من آثار كارثية محليا وإقليميا، أزمة دارفور، الأزمة السياسية في لبنان..) بالإضافة إلى تزايد الصراعات العربية الداخلية؛ البينية أو الإقليمية (مأزق القضية الفلسطينية بصفة خاصة، والصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة، قضية الصحراء في المغرب، الاقتتال في الصومال..).

وأمام هذه المعطيات يجد المدونون أنفسهم وجها لوجه مع واقع عربي صعب يفرض كثيرا من التحرك والعمل الدؤوب..

ويعتبر وضع مبادئ واتفاقات عامة تنظم وتؤطر حقل التدوين الذي يزداد إشعاعا وإقبالا؛ على طريق التنسيق والتواصل والتعاون بين مختلف المدونين(باحثين، مفكرين، علماء، مبدعين، طلبة؛ مهنيين..) الذين يجمعهم هاجس التغيير والانعتاق.. أمرا ملحا وضروريا؛ لما يمكن أن يسهم به في تأسيس عمل تدويني جاد وملتزم بقضايا مجتمعه؛ وكفيل بتخليق هذا الفضاء الحيوي، وقادر على استثمار الإمكانيات الفعلية التي يتيحها؛ سواء في تأطير وتنشئة وتنوير المجتمع؛ أو الضغط على صانعي القرار باتجاه بلورة قرارات أكثر مصداقية وقربا من الشعوب..

ويكتسي هذا التنسيق والتعاون أهميته وضرورته بالنظر لعدد من الاعتبارات؛ فالتدوين يفتح آفاقا مذهله ومتسارعة على مستوى التطور والابتكار..؛ مما يحتم وضع عدد من الضوابط والمبادئ التي تمنع من تحوله إلى سلاح عكسي؛ يكرس الفوضى والصراع والميوعة والتعتيم والاعتداء على حريات وحرمات الآخرين..

وضمن هذا السياق؛ يطرح مضمون ومحتوى المدونات مجموعة من التساؤلات فيما يتعلق بصحة ومصداقية ما يتضمنه من معطيات وأخبار ومعلومات..، ومدى انتسابها بالفعل لأصحاب المدونات التي تنشرها، ومدى التزام هؤلاء بأصول الأمانة العلمية والإعلامية في نقل الأخبار والمعلومات بالدقة المطلوبة والالتزام بذكر مصادرها..

ومما يؤكد حيوية وملحاحية التنسيق والتعاون في هذا الشأن؛ هو أن عددا من المدونين تعرضوا بفعل مقاربتهم بشجاعة لملفات حساسة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والحقوقية.. ببلدانهم إلى عدد من التضييقات؛ بلغت إلى حد شطب المدونات وتعريض أصحابها للمتابعة القضائية والسجن (تونس؛ مصر؛ الإمارات العربية؛ البحرين..).

ولعل العمل على إحداث مدونات عربية بلغات أخرى(الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية..)؛ يمكن أن يسهم في فضح الأوضاع التي ترزح تحتها الشعوب العربية داخليا وخارجيا.. ويتيح إمكانية التواصل مع مختلف الثقافات والشعوب الأخرى وتصحيح الصورة القاتمة التي يحاول البعض تقديمها عن العرب والمسلمين..

وعلى العموم، فالحضور الذي ميز المدونات العربية في السنوات الأربع الأخيرة لا زال بحاجة إلى مزيد من التطور والعطاء؛ انسجاما مع حجم التحديات العربية المطروحة والإمكانات والفرص اللامحدودة التي تتيحها شبكة الأنترنت في وقتنا الراهن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى