الخميس ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٢
حسين عبد الرازق رئيس تحرير مجلة توقفت بعد 10 سنوات

المشروع السياسي لليسار لم يتراجع

لقد ولدت المجلة في ظروف بالغة التعقيد، فمن ناحية كان الاتحاد السوفيتي قد اكتمل سقوطه، وهو التجربة اليسارية والاشتراكية الأم في العالم، ومن هنا استغرب المثقفون والقراء أن تصدر مجلة في هذا المناخ تحمل اسم "اليسار" لكن حسين عبد الرازق فعلها، وعاشت المجلة حتى 120 عدداً كاملة. ومن ناحية ظهرت المجلة وعايشت ذروة حرب الخليج الثانية، مما حدا بالبعض الى توقع فشلها، لكن المجلة اختطت لنفسها طريقاً وسارت عليه، الى أن توقفت أخيراً، تحت ضربات تراجع القوى العقلانية بشكل عام في العالم، وعدم وجود الدعم المالي الكافي لاستمرارها، فكان قرار التوقف لإحدى المجلات الشهرية الجادة، حول ظروف توقف المجلة وتضاؤل وجود التيار اليساري في مصر بشكل عام، كان هذا الحوار مع رئيس تحرير "اليسار".

توقف المجلة هل يعني انتهاء مشروعها السياسي والثقافي؟
 لا أستطيع أن أقول إن مشروع المجلة سياسياً وفكرياً وثقافياً انتهى بتوقف المجلة، لكن التوقف يعني أننا فقدنا منبراً ومطبوعة مهمة، توقف المجلة يأتي في وقت توقفت فيه منابر أخرى، هنالك بشكل عام مشكلة تواجه المطبوعات الجادة.

كما أنني أريد أن أوضح أن هذا ليس أول توقف، بل هو الرابع لليسار منذ إصدارها كإحدى المطبوعات التي يصدرها التجمع، وقد كانت هناك فكرة بأن يكون لدى المجلة قدر من الاستقلال عن بقية مطبوعات الحزب، على أساس أن تكون منبراً لكل اليسار المصري، وليس "التجمع" فقط ، وتلاحظ ذلك من خلال تأمل مجلس مستشاري المجلة، فهو يضم كتاباً من التجمع وآخرين من خارجه، ففيه ماركسيون وناصريون.. الخ، لم يكن لدينا استقلال ذاتي فكري فقط، بل أيضاً استقلال مالي وإداري، في المراحل الأولى لم تكن هناك مشكلات كثيرة، كان هناك مندوبو إعلانات كثيرون يأتون لنا بالإعلانات – غالباً – من القطاع العام، استمر هذا الوضع منذ مارس 1990 الى منصف 1995، في هذه الفترة توقف ورود الإعلانات، وبدأنا نعاني. الإعلانات تأتي ومعها أوامر نشر، ثم لا يدفعون لنا، وعليه فأنا مطالب بدفع ضريبة الإعلان، وبدأت المتاعب، مما أدى الى عدة أشياء:

الأول، نقلنا المقر من خارج الحزب الى داخله، كمساهمة من الحزب وفرت علينا الإيجار.

الثاني، الكمبيوتر وأدوات الطباعة اشتراها لنا الحزب وبدأنا نطبع من خلالها مجاناً، ورغم هذه المحاولات، اضطررنا للتوقف في نوفمبر 1995، وكنا في عدد أكتوبر قد أعلنا عن التوقف، وفي تصورنا أنه توقف نهائي، وأننا لن نصدر مرة أخرى.

لكن المفاجأة كانت الإلحاح الشديد الذي أدهشني من القراء وشخصيات يسارية في مصر والعالم العربي، بضرورة الاستمرار، ووجدت أن هؤلاء لهم حق عليّ، ويجب عرض الأمر عليهم، وأنه لا ينبغي أن أتخذ قرار التوقف منفرداً، فنشرت إعلاناً في جريدة "الأهالي"، وأتى حوالي 40 أو 50 شخصاً كلهم – أو أغلبهم – شخصيات يسارية من اتجاهات مختلفة، ظهرت في هذا الاجتماع فكرة طرحها وفاء إدريس، وهي فكرة "أصدقاء اليسار"، مفادها أن تتكون مجموعة من الناس المحيطين باليسار ، ويتم جمع مبالغ سنوية أو شهرية كمحاولة لإعادة الإصدار، وكان الحاضرون مستعدين، الفكرة كانت جديدة ومغرية، وبدأنا في جمع التبرعات وأدباء وفنانين، دائرة واسعة مكنتنا من الصدور مرة أخرى في يناير 1996، معتدين في الأساس على جماعة "أصدقاء اليسار" وتبرعاتها كل سنة.

في عام 1988 بدأنا مرة أخرى نواجه بعض الصعوبات، فأخذنا قراراً برفع السعر الى ثلاثة جنيهات، مما أثر على التوزيع، وأن أسهم في تنمية الموارد قليلاً، الى أن اضطررنا الى التوقف في منتصف عام 1996، وفكرنا في حل بديل خلال شهري التوقف (مايو يونيو 99). ومع إلحاح الأصدقاء مجدداً، صدرنا فصلياً بدلاً من الصدور شهرياً، وصدرنا بالفعل في يوليو 99 واستمرينا بهذه الصيغة لمدة عام الى شهر مايو 2000، لكن الإصدار الفصلي مع رفع السعر أثر بشكل كبير على التوزيع ، فحاولت البحث عن صيغة جديدة، وهي تأسيس مجموعة كبيرة من الاشتراكات في العالم العربي، وبين العرب الموجودين في أوروبا وجمعنا مبلغاً قررنا بعده الصدور شهرياً ابتداء من يناير 2001 الى سبتمبر من العام نفسه، وتحملت وحدي في هذه الفترة كل أعباء المجلة حتى أنني تجرأت لأول مرة في حياتي وقمت بالإخراج الصحفي للمجلة. وصرت أنا رئيس التحرير ومدير التحرير وسكرتير التحرير والمسؤول المالي والإداري. حتى لم أعد أحتمل بدنياً القيام بهذا الدور، ولم أستطع الانتظام في الصدور، وشعرت بأن المجلة تحريرياً لم تعد بالشكل الذي كنت أريده، والمسألة أنني لست وحدي المكلف برفع راية اليسار، وأن عشر سنوات من محاولة أن يكون هناك منبر سياسي وفكري لليسار صعبة، دون أن تكون هناك جهة أو هيئة مسؤولة تقف وراءنا.

خلال هذه الفترة لعبت اليسار دوراً مهماً جداً، أبرز شيء يشعرني بالرضا، أننا أدرنا حواراً بين جميع الفصائل اليسارية سواء باستكتابهم أو بمشاركتهم ، صحيح أن هناك من لم يشارك، وهو من لم يكن مستعداً في الأساس للدخول في أي حوار، وهذه مسألة تخصهم، كما أدرنا حواراً ديموقراطياً مع قوى أخرى غير يسارية، سواء كانت تنتمي الى الحزب الوطني أم الى التيار اليساري. لقد كنا المجلة السياسية الشهرية الوحيدة في العالم العربي، مما يشعرني بالحزن من أن اليسار المصري عجز عن تبني مجلة تمثله.

هل أنجزت المجلة عبر مسيرتها عشر سنوات، ما صدرت من أجله والى أي مدى؟
 حققنا الكثير مما كنا نصبو إليه، فبجانب إدارة حوار بين مجموعات يسارية من خارج التجمع دون قيد وبحرية كاملة، فإن المجلة طرحت قضايا تهم اليسار المصري والقوى الديموقراطية بوضوح وجرأة تفتقر إليهما مطبوعات أخرى، كما أن المجلة كمطبوعة معارضة تجاوزت الى حد كبير ما كان يسمى خطوطاً حمراء في مطبوعات أخرى، نعم حدث نوع من التسامح معها على أساس أن تأثيرها محصور في قطاعات معينة، وليس لها انتشار ضخم مثل المجلات الأسبوعية، كنا نناضل من أجل الديموقراطية والعقلانية والعدل الاجتماعي والاشتراكي، وأعتقد أننا أدينا هذا الدور الى حد كبير، لا أقول 100% فهذا ما لا يستطيعه أحد، لكنني حاولت والتاريخ سيقيم التجربة برمتها.

لو استمرت المجلة كيف سيكون خطابها السياسي في مثل هذا الموقع، لأن البعض اتهمها بأنها لم تجدد كثيراً في خطابها، بمعنى أنها لم تضع في سياستها المتغيرات العالمية سياسياً، وظلت ثابتة على خطاب كررته كثيراً؟
 لا يمكن تجاهل ما جرى في العالم، ولا ما يجري من تغيرات حادة، لكن كان هناك موقفان: الأول هو موقف الانقلاب والتخلي عن كل ما كنا نقوم به باعتبار أن هذا تجديد، وهناك الموقف الآخر – وهو ما اتخذناه في اليسار المجلة – وهو رؤية التغيرات والتعامل معها والتجديد دون أن يتحول الأمر الى "استربتيز"، لأننا نؤمن أن هناك مستقبلاً للاشتراكية، ونؤمن أن الاشتراكية ليست نموذجاً أو قالباً واحداً، والتجمع بشكل عام كان رافضاً لفكرة النموذج أو القيادة .. الخ، وبالتالي لا أعتقد أننا أخذنا موقفاً جامداً، لكننا كنا نرفض موقف التخلي.

هل تراجع أفكار اليسار في الشارع أثر في تعثر المجلة؟
 المطبوعات الجادة لم يعد لها نفس التألق والرغبة، كما كان الأمر في السابق ، لقد كنا نجدف ضد الاتجاه العام، ليس الاتجاه العام يساراً أو يميناً، إنما لم يعد لدى الناس الرغبة نفسها في قراءة الموضوعات التي تتسم بالبحث والجدية والعمق، الغلبة الآن للسطحية والتفاهة والنمط الاستهلاكي.

يقول البعض أن المجلة كانت تعبر عن فصيل يساري راديكالي، فهل توقفها يعني تلاشي هذا الفصيل، أو على الأقل تغيراً في مضمون خطابه، باتجاه المهادنة أو الاختفاء التكتيكي؟
 المجلة لم تكن تعبر عن فصيل معين، كنا نعطي لكل الفصائل داخل التجمع ، ولا أعتقد أن إذا كان هناك اتجاه راديكالي داخل التجمع أنه تراجع لا .. إنه موجود ويعبر عن نفسه داخل الحزب وخارجه، لكن طبعاً المجلة كنافذة لهذا التعبير الراديكالي لم تعد موجودة، مع العلم أننا كنا ملتزمين في كل ما نكتب، قدر الإمكان كأعضاء في التجمع، بما تقرره السياسة العامة للحزب.

كانت المجلة في سنتيها الأخيرتين تقترب من بعض منظمات حقوق الإنسان، خاصة مركز المساعدة القانونية، بنشر وثائقها وبياناتها، فهل تم ذلك للخروج من المأزق المالي، أم توسيعاً لنطاق العمل اليساري السياسي؟
 هذه المنظمات لم يكن لها أي دور في التمويل، لكن دور هذه المنظمات من وجهة نظر مستشاري تحرير المجلة، كان دوراً مهماً وإيجابياً، وعليه فلا بد من الدفاع عنها، وإفساح المجال أمامها، خاصة أنها تعرضت لعملية تشهير ظالمة قادتها بعض الصحف الصفراء الخاصة وبعض الجهات الرسمية، وأثبت الواقع أنها كانت حملة خاطئة، وأن هذه المنظمات هي التي لعبت الدور الأساسي مع المنظمات العالمية، والجمعيات الأهلية فيما حدث في ديريان في جنوب أفريقيا، في مؤتمر مكافحة العنصرية، والقرارات التي صدرت دعماً للنضال الفلسطيني، وضد إسرائيل والصهيونية ، وهي في الأساس كانت تهاجم من هذه الزاوية، زاوية أنها لا تأخذ موقفاً حاسماً ضد إسرائيل، وضد الصهيونية، لأنها تتلقى تمويلاً من الخارج، لكن اكتشف الناس والعالم كله، وبالذات القوى العقلانية والشريفة في مصر أن هناك أيضاً عالماً غريباً مختلفاً، وأن الجمعيات الأهلية، ومنظمات حقوق الإنسان في العالم الغربي لها مواقف واختيارات مختلفة عن الحكومات لأنها مجتمعات ديموقراطية.

لكن يقال إن اليسار استقوى بهذه المنظمات من أجل توسيع عمله النضالي وأنها ساعدته في عمله؟
 هي ساعدت كل المناضلين من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان، وجود هذه المنظمات دعم كل من يدافع عن الديموقراطية ونحن جزء من هذا النضال.

من المعروف أيضاً أن اليسار له تحفظات كثيرة على بعض منظمات المجتمع المدني، وأنت عضو مجلس أمناء مركز المساعدة القانونية كيف تفسر هذا الأمر؟
 أولاً مركز المساعدة القانونية، بعد قانون المنظمات الأخير، لم يعد موجوداً بصورته القديمة، وانقسم الى جمعية المساعدة القانونية، وقبل أن يسجل نفسه طبقاً لهذا القانون، ومجموعة أخرى، وهي المؤسسة للمركز، رفضت التعامل بهذا القانون، وأشهرت نفسها من خلال شكل آخر وهي مركز هشام مبارك للقانون، في هذه الفترة لم يعد هناك مجلس أمناء لا هنا ولا هناك، وفي الفترة الأولى عندما كان مركزاً موحداً سواء حينما كان يديره هشام مبارك أم جاسر عبد الرازق من بعده، كان هناك عدد كبير من المفكرين والمثقفين اليساريين أعضاء في مجلس أمناء هذا المركز، ودور مجلس الأمناء هو التوجيه العام، وأعتقد أن مركز المساعدة تحديداً لعب دوراً مهماً، بالذات مع نقابة الصحفيين في معركتها ضد قانون اغتيال حرية الصحافة ، وفي قضايا التعذيب وقضايا أخرى كثيرة.

ينادي التجمع منذ فترة بالتنسيق بين الأحزاب، وأنت من تولى عبء هذا الأمر، لماذا فشل هذا التنسيق في رأيك؟
 لجنة التنسيق بدأت بعد انتخابات 1995 وما جرى فيها من تزوير وتدخل، في هذا الوقت اجتمع رؤساء الأحزاب وطرحت فكرة عمل جبهة بين الأحزاب والقوى السياسية التي حضرت هذا الاجتماع في مقر حزب الوفد، وهي التجمع، والوفد ، والعمل والناصري والأحرار والإخوان المسلمين، في هذا الاجتماع كان هناك اتجاهان : الأول غالب ويدعو الى أن نعلن جبهة، وهذا الاتجاه عارضه التجمع تحديداً، لأن الجبهة كانت تتطلب الاتفاق على برنامج وعلى كل القضايا السياسية والاقتصادية، وهذا غير متوافر، ولا يمكن توافره، والاتجاه الآخر وهو الذي تبناه التجمع، وهو اتجاه إقامة لجنة تنسيق دائمة هدفها توفير المناخ لإجراء انتخابات حرة ونزيهة ضمن العمل من أجل تحقيق الديموقراطية ، بعد اتفاق رؤساء الأحزاب على هذا الخط العام، كل حزب انتدب أحد قادته ليمثل الحزب في هذه اللجنة الدائمة، ومثلت أنا حزب التجمع، بدأنا الاجتماع كل أسبوعين، واستطعنا خوض تجربة نضال ديموقراطي واسع، ووصلنا الى عقد مؤتمر الديموقراطية، الذي اتخذ قرارات مهمة وحضره كل رؤساء الأحزاب.

أين المشكلة إذن ولماذا حُلت اللجنة؟
 المشكلة بدأت في عام 1999 نتيجة لسببين: الأول الموقف الذي اتخذه حزب العمل فيما يتعلق برواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" والأزمة الشهيرة التي صاحبتها، والذي كان يمثل من وجهة نظر بقية القوى الديموقراطية المشتركة في اللجنة، موقفاً معادياً للديموقراطية ولحقوق الإنسان وللإبداع ولحرية الرأي والتعبير، هذا الموقف من حزب العمل، أثار خلافاً، لم يناقش داخل اللجنة، نعم، لكنه أحدث شرخاً في العمل المشترك، لأننا فوجئنا بحزب يقف موقفاً معادياً تماماً للديموقراطية، ويتناقض مع ما وقع عليه في هذا الخصوص، هذا الأمر انعكس على نشاط اللجنة، والإخوان رغم أنهم لم يأخذوا موقفاً علنياً، لكن اتضح موقفهم المعادي للحريات في هذه الأزمة، ثم تطور الأمر الى أن انسحبنا من مؤتمر أقامته الأحزاب كلها في مقر حزب العمل.

الشيء الآخر عندما حل موعد الاستفتاء لإعادة ترشيح رئيس الجمهورية، بدا أن كل الأحزاب راغبة كل حزب على حدة في أن يحدد موقفه بعيداً عن التنسيق من خلال اللجنة، وعملياً هذا ما أدى الى انفراط عقدها، وجاءت انتخابات عام 2000 لتتأكد عدم رغبة الأحزاب في التنسيق، فلم أدع اللجنة للاجتماع منذ ذلك الحين، ولم يكن هناك أحد راغباً في الدعوة الى الاجتماع وانتهت التجربة رغم أنها كانت مهمة وناجحة وإيجابية ولعبت دوراً في النضال الديموقراطي في مصر.

الأهرام العربي -العدد 268
مصطفى عبادي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى