المطران أسادوريان والباحث كحَّالة
صدر عن دار نعمان للثقافة بلبنان كتابٌ جديدٌ مِن إعداد الباحث الباريسي جوزيف إلياس كحّالة عُنوانه "الحياة على الرغم من الموت، سيرة المطران جورج أسادوريان ومسيرته".
يقعُ الكتابُ في 190 صفحة ويتضمَّن صورًا تمثِّلُ مراحلَ من حياة المطران. وقد قدّمت له الكاتبة الصحافيّة نهاد طوباليان (ص 7-12)، سارِدَةً تاريخَ معرفتها وذكرياتها مع المطران أسادوريان عندما كان كاهنَ رعية في مدينة بيروت، بُعيدَ انتهاء الحرب اللبنانيّة في خريف العام 1991.
مقدِّمَة كحَّالة
جاء في مقدِّمة كحَّالة (ص 13-17)، في صراحة تامّة وبعيدًا عن المجاملات الكلاميّة: "ليس من السهل أن نوجز، في صفحاتٍ معدودات، حياةً زاخرةً بجليل المآثر ومجيد الأعمال... كما ليس من السهل أن نسرد في كلماتٍ مسيرةَ حياةٍ كاد الموتُ أن يسلبها وتصبح في عالم الغيب...". أجل، بمِثل هذه الكلمات البسيطة سهَّلَ الكحَّالةُ دُخولَ القارئ في صلب الموضوع، وكأنّه يقولُ له: "إنَّنا أمام شخصيَّة قلَّ نَظيرُها في البساطة والتواضع".
وفي واقع الأمر، فإنَّ كحَّالة، كما يذكر، لم يحظَ أوَّلَ الأمر بلقاء المطران أسادوريان، مع أنَّهما كانا يعيشان في باريس، مدينة النور، لكنَّه سمع عنه الكثير من خلال الأعمال الإنسانيّة التي كان يقوم بها. وكان يسألُ نفسَه: هل يُعقل أنه ما زال في عصرنا كاهنٌ يعملُ بهذا النشاط على الرغم ممَّا عاناه من مرضٍ كادَ يودي به!
أسَّادوريان والسَّرديَّةُ المؤلِمَة
أمَّا اليومَ، وكقارئٍ جالَ في الكتابَ الذي أعدَّه الباحث كحّالة، أجدُ نفسي أمام حقيقة كل ما سمعه كحَّالة عن هذا المطران، في سردٍ بأسلوب بسيط خالٍ من التعقيد. حتى إنَّني، في بعض الصفحات، ظننتُ نفسي جالسًا مع المطران أستمعُ إليه يروي المراحلَ الصعبةَ التي عاشها، سواء في الحرب اللبنانيّة أو في مرضه الذي كاد أن يحصدَه وينقلَه إلى عالم الغَيب والنسيان، وكيف كان يتسابق مع الزمن ويعارك المرض والموت بالصلاة والتعبّد الى عذراء سيّدة لورد، وكيف طلب منها مساعدته في تقبّل مشيئة الله، وأن ترافقه خلال الأيّام الصعبة (ص 110).
وينقلنا الكتابُ في الصفحة 112 إلى سرديَّةٍ مؤلِمَةٍ على لسان المطران الذي يقول: "بدأت أستعدُّ لتهيئة جنازتي، فاشتريتُ النعش، وقمت بكتابة دعوة النّعي. كان هدفي من ذلك أن أنظِّم بهدوءٍ رحيلي عن هذه الحياة. حتّى إنّني ذهبت الى محطّة إذاعيّة في مدينة بيروت لأقوم بتسجيل عظة دفني لبرنامج صوت المحبَّة". يا له من كلام رهيب ينقله لنا الكحّالة بكل براعة وأمانة لا مثيلَ لها؛ لا بل يا لها من قوَّة إيمان عميق وراسخ يتربَّع في قلب المطران أسادوريان!
التَّسامحُ والغفران
من الكتاب أيضًا، في الصفحة 81، وعلى لسان المطران: "خلال زيارتي الرعائيّة، قمت بزيارة عائلة مكوّنة من أربعة أولاد... وعند مغادرتي المنزل، أصرّ الابن الأصغر، وكان عنصرًا في الميليشيا المسيحيّة، أن يرافقني إلى سيارتي. وعندما اقتربنا من السيّارة، رأيت عمَّتي تعبر الشارع، وكانت قد فقدت ابنها قبل أربع سنوات، وكان، هو الآخر عنصرًا في تلك الميليشيا. لم يكن مرافقي الشاب يعرف أنّني أكون ابن شقيق تلك السيّدة، فحدّثني قائلاً، أترى هذه السيّدة، أنا من قتلَ ابنَها. فسألته في أيِّ ظرف جرى الأمر؟ فأجابني أنّهما كانا يلهوان بسلاح الكلاشنيكوف، وعن طريق الخطإ انطلقت رصاصة وأردتِ الفتى قتيلاً. ويتابعُ المطران كلامَه ليعلنَ أنّها تلك المرة الأولى التي يبوحُ فيها بهذا السرّ الذي خبَّأه في قلبه لسنواتٍ طوال؛ ذلك أنَّه يرى أنّ الحبّ أقوى من الكراهية، والغفران أجمل عمل يقوم به الإنسان في العالم. نعم، إن المطران أسادوريان يعطينا من خلال هذه الحادثة درسًا في التسامح والمحبَّة. وهذا ما يؤكِّده المطرانُ عَينُه في مقالةٍ له تحت عنوان "الرحمة والتسامح جوهرة الحياة"، نشرَها الباحثُ كحّالة في الصفحتَين 177-178 من الكتاب، حيث يقولُ الحَبرُ: "التسامح في المسيحيّة من جواهر المؤمنين، ومن خلاله تتجلَّى الروح وترتفع. إنَّ الصبر والمغفرة يكشفان عن الروح المسيحيّة، ليس بالكلام فحسب، بل بالأفعال أيضًا".
محبَّةٌ واحترامٌ للبطريرك كسباريان
نرى جليًّا، بالانتقال إلى الصفحات 180-182، المحبَّةَ والاحترامَ اللذَين يكنُّهما المطران أسادوريان للبطريرك الراحل يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان، إذ يقول في وصفه البطريرك: "من الصعب جدًّا عليّ اختصار البطريرك كسباريان بكلمات وسطور، فقد كان خميرة صالحة زرعت على رأس الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، وأزهرت معه حبًّا وعطاءً لرعيَّته وللبنان.. حبُّه اللامتناهي لأبناء رعيَّته كان مثالاً يُحتذى به، وكان الحبُّ يُساعدُه على مواجهة الصِّعاب والأحداث الَّتي عصفت بلبنان. كما كان مثالاً لتجسيد كلمة الله على الأرض، تلك الكلمة التي حملها وراح يوزِّعها محبَّة وسلامًا".
أدبا القصَّة والسِّيرة في حلَّةٍ قَشيبَة
أخيرًا، هو كتابٌ شيِّقٌ فيه ما فيه من دروس الحياة في الرَّجاء والمحبَّة والتسامح، دروسٍ تُسردُ علينا في منهجيَّة مبسَّطة جمعت بين أدب القصة وعلم البيوغرافيا.
نشكر الباحث المؤرِّخ جوزيف الياس كحَّالة الذي أجرى الأحاديث الطوال مع صاحب الترجمة المطران جورج أسادوريان، وأطلعنا على هذه الشخصيّة المتواضعة التي تعمل الخيرَ بطريقة خفيَّة عملاً بقول المسيح: "لا تعلم شمالك بما صنعت يمينك" (متَّى 6 : 3). كما نشكر دار نعمان للثقافة، بشخص صاحبها الأديب ناجي نعمان، إذ قامت بنشر هذا الكتاب القَيِّم بحلَّةٍ قَشيبَةٍ لِتعرِّفَنا بصاحب السيرة المطران جورج أسادوريان.