الجمعة ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

المكتـب الجديد

اتفق الأصدقاء العشرة على تأسيس مكتب حزبي جديد في مدينتهم الصغيرة، فقرروا أن يسموه مكتب " النزاهة " وخططوا أنهم قبل ذلك سيجتمعون في المقهى لتوزيع الأدوار وإسناد المهام، بعد نقاش طويل وجدال عنيد حددوا الرئيس ونائبه وبقية أعضاء المكتب الجديد، وفي اليوم المعلوم اتفقوا على أن يحضر كل واحد منهم ومعه ستة من أصدقائه أو من أفراد أسرته على أن يوصيهم بالتزام ما اشترطه عليهم من القواعد وهي أن يصوتوا إذا صوت ويسكتوا إذا سكت... حتى إذا اجتمعوا بحضور رئيس الحزب الكبير أو نائبه أو الرئيس الجهوي... أو أحد نوابه الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى... تلوا آيات بينات من الذكر الحكيم وألقى الرئيس الذي يفترض فيه أنه أكثرهم بلاغة وأتقنهم لقواعد السياسة والحذلقة... كلمات يملأها الكثير من العطف والحنان... عبر فيها عن الحب الذي يكنه لهؤلاء المناضلين الأحرار ولمنطقتهم الجغرافية المباركة... تلاه في الحديث عضو صنديد من صناديد المكتب القديم، ومما قاله في ذلك اليوم المشرق : يا سيدنا الرئيس، إن البلاغة العربية والبلاغة اليونانية وبلاغة السند والهند... واختصارا : إن البلاغات كلها تعجز عن التعبير عما نكنه لكم (بصيغة الجمع) من التقدير والاعتزاز والمحبة والاحترام... لما صدر منكم من التكريم والتشريف لنا ولمدينتنا إذ تواضعتم وقررتم أن تزورونا في هذه المدينة التي أعتبرها جنة خضراء (رغم ما فيها من نفايات، فالأعمال إنما هي بالنيات) واسترسل في قوله : نحمد الله تعالى الكريم أنكم تطوعتم لتشرفوا على تأسيس هذا المكتب الجديد، المكتب الذي نطمح منه أن يرفع مدينتنا إلى مصاف المدن العالمية، كباريس ولندن... وطوكيو... ولم لا واشنطون... وتمنى الصنديد أنه لو كان ـ حينئذ ـ شاعرا كأبي الطيب المتنبي لقال في حق رئيسه الكبير قصيدة عصماء... تعالت الهتافات من القوم الذين حضروا... فهم يحبون رئيس حزبهم ويحبون من يحبه ويثنون على من يثني عليه...

أخيرا قرروا أن يبدأوا التصويت...

قال قائل منهم : من يرشح نفسه ليكون رئيس المكتب الجديد ؟ بدأوا يتهامسون : يا ربنا ما أثقل المسؤولية الملقاة على عاتق من يتحمل منا هذه الأمانة العظمى... ساد صمت قدر له أن يدوم بضع دقائق... السياسة هكذا، فلا شيء يخلو من تخطيط ولا شيء يخلو من تدبير... هتف أحد العشرة المبشرين بالانتماء إلى المكتب الجديد : نريد... " فلان " (ملاحظة : " فلان " مفعول به ينبغي أن يكون منصوبا لكنه قرر أن يبقى عالي الرأس حيث لا ينصب هو وأمثاله)... ولا أحد غير " فلان "... هتف الجميع على لسان رجل واحد... فليكن الأمر كما ترى يا أخانا، انتفض " فلان " كالصقر وبصوت جهوري ينادي : لا...لا.... أنا لا أطيق هذه الأمانة التي ألقيتم على كاهلي... أنتم لا تدرون ما أقاسيه وما أعانيه حين أعجز عن تحمل مسؤولية أسندت إلي... يا إخواني لقد سبق لي أن تحملت مسؤوليات جساما في أماكن أخرى... وظروف قد تكون أكبر من هذه أو أصغر.... وأصدقكم القول إن قلت لكم إنني ما توليت أمانة من الأمانات إلا طلقت النوم واتخذت السهر والهم والغم... و... زوجات لي... لهذه الأمور مجتمعة أقول ولسان حالي أظهر من أن أخفيه : إنه ليسوؤني أن أرفض لكم طلبا ألححتم به علي، وما كان لي إلا أن أجبر بخاطركم وأحقق أحلامكم، فأنا منكم وإليكم... لكني ما ظننت أنكم جميعا تقبلون بي رئيسا للمكتب الجديد... قال قائل منهم (غير الذي قال أول مرة) فلنصوت جميعا وليرفع منا من يوافق على " فلان " أصبعه أو يده كاملة غير منقوصة... رفع التسعة الباقون أصابعهم مؤيدين ومع كل من التسعة رفع ستة من الذين أحضرهم معه من الحي أو الدرب أو الدوار... أصابعهم، بعد أن رفع الستة الذين أحضرهم الرئيس الجديد أصابعهم... يا الله... أغلبية مطلقة... أول رئيس يحصل على نسبة مائة في المائة في التصويت في جنوب الكرة الأرضية، (حيث لا شيء مثل ذلك يحدث في غير هذه المنطقة)... ابتسم رئيس الحزب الكبير... حرك رأسه أعلى وأسفل... مشيرا إلى الرئيس الصغير... : أن أقبل علي... قبله وعانقه وقام الآخرون يحذون حذوه... مبتسمين مهللين بالنصر... باركوا له هذا النصر الذي حققه... وحمدوا الله تعالى على هذه النعمة التي أسبغها عليهم... ونوهوا بالمنجز الكبير الذي حققوه لأمتهم... فما أقل الزعماء... وما أنذر العظماء في هذا الزمن الرديء... الحمد لله على كل حال... قبلات هنا ومجاملات هناك وتحيات من كل حدب وصوب... نبههم الرئيس الكبير الذي اعتاد الناس منه الحكمة وقول الصواب...يا أيها الإخوة... ما زال أمامنا عمل شاق وطويل... علينا أن نختار الأعضاء الآخرين... وعلي أن استمتع بالفندق الفخم الذي هيأتم لي في مدينتكم الغراء حتى أدرك جمال الطبيعة التي حباكم الله تعالى بها... أنتم يا أعزائي تعلمون أن نائب الرئيس منصب لا يقل أهمية عن منصب الرئيس... وأنا أريد منكم وبالحكمة التي عهدت فيكم أن تقترحوا نائبا فذا عبقريا وسندا متينا للسيد الرئيس الجديد... ثم اشترط عليهم الرئيس الكبير أن من يقترح النائب الأول هو كل من يريد أن يكون كذلك، أي أن يقترح من يريد أن يكون نائبا نفسه، عوض أن يقترحه الآخرون، وعلل ذلك بأن هذه المسؤولية جسيمة من جهة وتغيير الطريقة أمر محمود من جهة أخرى، فضلا عما لذلك من مزية تجنبنا إحراج بعضنا البعض... رفع أحد الحاضرين يده عاليا، مقترحا نفسه... لم تر مع يده يد أخرى، كيف يحدث هذا والأمر مدبر بليل في المقهى المعلوم... تكررت عملية التصويت... فكان الستة الذين قدموا مع النائب الأول أول من رفعوا أيديهم... وتلاهم الذين من بعدهم والرضا يملأ الحناجر والقلوب... واستمرت العملية بسلاسة ولطف... إلا أن أحدهم رفع يده طالبا الإذن بالحديث... أذن له السيد الرئيس... قال المتكلم بلسان فصيح :

ـ أولا أرحب بالسيد الرئيس وأحيي الإخوة الحاضرين.... أود أن أذكركم بأن مكتبنا الجديد إذا تأسس هكذا سيخلو من العنصر الأنثوي... ونحن ـ تعلمون ذلك ـ من أنصار المرأة ومن المدافعين عن حقوقها... هذه مسألة... وثمة مسألة أخرى وهي أنني أقترح أن يتطوع لمنصب المقرر أستاذ للغة العربية أو على الأقل طالب جامعي يحسن اللغة العربية... فكثيرا ما تكتب التقارير بلغة ركيكة تعطي صورة سيئة عنا وعن مستوانا... هتف الجميع مؤيدين... صدقت يا أخانا... تناقشوا حول المسألة الأولى واقترح أكبرهم سنا أن يتصل كل من له أخت أو زوجة أو قريبة... آنس فيها ثقافة أو خيرا أو أي شيء... أن يتصل بها... على أن يتم استعمال الهاتف النقال ويكون الحضور حالا... ورتبت الأمور على أن يتولين مناصب مستحدثة لهن.

لقد كان المكتب المقدر له أن يتأسس يتكون من رئيس وثلاثة نواب وأمين " مال" ونائب واحد ومقرر ونائب واحد وأربعة مستشارين، وبما أنهم لم يكونوا غير عشرة أشخاص، قرروا ـ طبعا وهم في المقهى ـ أن يضيفوا اثنين من عامة الناس، إلا أن التغيير الذي اقترحه العضو الفصيح يقتضي ألا يتغير توزيع المهام المتفق عليها في المقهى مع إضافة مناصب جديدة، بحيث حققت ما كانوا قد تمنوه : نائبة رابعة للرئيس ونائبة ثانية للأمين ونائبة ثانية للمقرر ومستشارة رابعة... المهم :... ينبغي ألا يسحب البساط من تحت قدمي أحد العشرة، أما العدد الإجمالي فليس مهما... فالأمر في نهاية المطاف مسألة شكلية... اطمأن الجميع للمسار الديمقراطي الذي اتخذته الأمور منذ البداية... ونوهوا بالنزاهة التي سادت الأجواء وختموا الجمع العام بقراءة آيات بينات من الذكر الحكيم، وتناول كؤوس الشاي وقضم الحلوى.... وودع بعضهم بعضا متفقين على ألا يلتقوا إلا في المناسبات المهمة (الانتخابات مثلا...) وآنئذ سيقولون : نحن قوم لا محيد لنا عن النزاهة... ودعوا الرئيس الكبير... وتفرق الجمع المبارك إلى لقاء يوم معلوم....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى