السبت ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم وديع العبيدي

المنظور الاجتماعي في قصص عمران عزالدين أحمد

دخلت القصة القصيرة جداً مدونة السرد العربي بهدوء على رؤوس أصابعها دون أن تستثير الضجة التي أثارتها موجة الشعر الحر أو قصيدة النثر، ربما لعدم احتفال القارئ العربي بالقصة احتفاله بالشعر وموسيقاه التي تراجعت بالتدريج. وهنا يمكن فتح ثغرة في الذائقة القرائية لاستقطاب الخطاب السردي. ولطالما ربطت القصة القصيرة جداً بلغة الشعر أو اتهمت بالاشراقة الشعرية، التي لا يزال نفر من الكتاب يحتفون بها أمثال علي السوداني من العراق وعبدالله المتقي من المغرب مثلاً. هذا التداخل ليس سوى صورة تبادلية تناظرية لاختزال الحدود بين الأنواع الأدبية والتطلع إلى ما يسمى بالنص المفتوح. النص غير المصنف أو المحكوم في خانة واحدة. النص المتحرر من الضوابط والقياسات والقوالب الروتينية. وصارت بعض النصوص الشعرية تدرج على طول السطر دون قواطع، أو تقطع الجمل السردية أو المفردات والأصوات في بعض القصص في سطور مستقلة متلاحقة وكأنها أبيات من شعر حديث.. ضمن هذا الاستطراد تتميز قصص عمران عزالدين أحمد بانتمائها للسرد قلباً وقالباً وعدم انجرارها في متاهة الشعر، شكلاً أو مضموناً. فلغة السرد لغة نثرية عنيت بالتكثيف والاختزال وتجنب الزوائد والترهل. واهتمت بالمعالجة الواقعية المباشرة بتغليب سلطة المشهد اليومي على سلطة الجنوح للخيال أو استنفار الذاكرة.

ان ظهور وشيوع نمط القص السريع أو القصة القصيرة جداً دالة على عدة أمور تمس الحياة ومعالجاتها المعاصرة. أولا: اقتراب النص من الواقع. ثانيا: تفوق الراهنية الطرية على الواقعية التاريخية التي ارتبطت بها بدايات القص. ثالثا: التحول المفاجئ من الواقعية الاستاتيكية للحياة العربية إلى الديناميكية المعاصرة. رابعاً: اشتداد حدة التناقضات والصراعات الداخلية بين المفاهيم والقناعات والأفكار وأنماط الاستهلاك والتبادل بين فترة الحرب الباردة وما بعدها. خامسا: محاولة القص الامساك بالحدث الطري أثناء وقوعه وهو لما يزلْ ساخناً وعدم انتظار العودة إليه بصيغة الماضي. بمعنى آخر.. ان القص السريع رديف للقصة اليومية (الشعبية) على غرار (القصيدة اليومية) التي استنبتتها شعرية السبعينيات. وهذا ما يمنح القصة حرارة وطراوة مثل رغيف السوق.. ناهيك عن قربها الحميم من الواقع وانفتاح خطابها على كل الأعمار والفئات والطبقات.

قد يرى البعض أن القصص القصيرة جداً والنصوص الشعرية القصيرة جداً والروايات القصيرة انما هي انعكاس لهيمنة الحضارة المادية على حساب الاهتمام بالفنون والآداب أو ازدياد وتيرة التطور وتعقيدات الحياة اليومية وتقلص أوقات الفراغ التي تصنف المطالعة (القراءة الأدبية) في خانتها. ومهما يكن من ذلك.. فأن التجدد والتجديد والابتكار والابداع هو جزء من سنة التطور واستمرار الحياة والحضارة الانسانية. وبدلاً من رؤية الروايات المسلسلة في أجزاء المؤرخة للعهد الوسيط تؤرخ القصة القصيرة جداً لحياة ما بعد الألفين. ان اضطراب مفهوم الاستقرار في الحياة المعاصرة وارتفاع معدل القلق انفسي والوجودي والاجتماعي والسياسي انعكس على العلاقة الكتابية، كتابة أو قراءة. فما من روائي عربي يستطع ضمان انتهاءه من روايته في سقف زمني محدد أو ضمان عدم طروء عوامل جديدة تزيح عناصر الطمأنينة وتنتج إزاحات جديدة في الواقع لا تؤخر أو تعيق استكمال النص أنما تتدخل في تغيير بعض تصوراته واستنتاجاته المسبقة المتعلقة بالراهن. لذلك يفضل الكاتب التعامل مع حفبة ماضية منقضية من التلامس المباشر مع الراهن. كل هذه الاشكاليات اختزلها نمط القصة القصيرة جداً كتابة وقراءة ، مقدمة وجبة شهية وساخنة تبقى رائحتها تدور في الدماغ.

بيد أن القاص عمران عزالدين أحمد يذهب لحد التطرف في تفسير مفهوم القصة القصيرة جداً جداً، فمعظم قصصه المنشورة هنا لا تتجاوز السطرين. تتكون القصة / القطة من جملتين، مثل المبتدأ والخبر أو جملة الشرط وجوابها (الأحياء الراقية ، انتظار) أو السؤال والجواب (حوار -الوطن-)، أو صورة وتعليق (عهد شجرة)، أو الصوت والصدى (يموتون وتبقى أصواتهم). ونجد أن أطول أقاصيصه هي (توبة نصوح) وتكونت من عشر جمل (مقطعات سردية)، بينما تفااوتت البقية بين جملتين إلى ثلاثة أو خمسة. ولتأكيد بنية الشرط في تقنيته اللغوية يمكن ملاحظة استخدام (فاء الشرط) الداخلة في جملة جواب الشرط لزوما أو (جوازاً) رغم اختزال أداة الشرط في بداية الجملة، وذلك كما في قصص [عهد شجرة، الأحياء الراقية، انتظار]، أو تعاقب الاثبات والنفي كما في قصة شجرة (كانت.. فلم..).كما يلحظ التعويل على استخدام أحرف ظرفية (لما ، عندما، قبل، بعد) أو مفاصل سردية مثل (رغم أن، دون أن..، لكن). وقد استخدم القاص جملاً قصيرة اعتمدت جمل المبتدأ والخبر أو الجمل الفعلية القصيرة غير المتعدية، مما يمنح لغة السرد بتعاقبه صورة التيار المتناوب أو طريقة زحف الأفعى المتماوجة.. وهذا يتيح فرصة التقاط الانفاس وتلوين الصوت بين المقاطع بما يناسب جوّ القصة وطبيعة التحول الداخلي في حركة القص.
وظائف القص السريع أو امتيازه

تعمدت استخدام توصيف الأفعى في تصوير حركة القص، ليس لتشابه الحركة التماوجية والتراتبية المتعاقبة وانما الاقتراب من لسعات الأفعى الأبرية الدقيقة. أن أحد أهم وظائف أو مزايا القصة القصيرة جداً هو تحقيق اللسعة أو الوخزة الممثلة في صورة مرسومة بالمقلوب أو كلمة. وهنا تبرز أهمية مفاصل السرد أو انقلاب التعبير في منتصف القصة أو مكان ما قبل الجملة الأخيرة. وفي كل الأحوال تحتفظ الجملة الأخيرة بأهمية استثنائية في منح نكهة القصة وتقريب الغرض والمغزى. ويبقى الكاتب سيد السرد، يتمتع بصلاحية مطلقة في طريقة ومستوى المعالجة الفكرية واللغوية. فبالاضافة لفلسفة التبسيط الشديد التي تتناول فيها أعقد الموضوعات، يبقى النقد الاجتماعي الحاد، المتفاوت بين الكوميديا السوداء والسخرية اللاذعة أهم خصائصها الوظيفية. ففي قصة (الوطن) قد يبدو المغزى تبسيطياً عاديا [(الوطن).. بيت أكبر من بيتنا]. المقصود هنا ليس البيت ولا والوطن، وانما العائلة والمجتمع ، وطبيعة ومستوى العلاقات الاجتماعية التي تشكل مفهوم العائلة. طبيعة العلاقات والانماط السلوكية التي ينتجها المجتمع. فالانسان عندما يحن للوطن الدافئ، لا يحن للشجرة أو الحجر أو النهر المجرد وانما حرارة العلاقات الاجتماعية وصدقها ومقدار اشباعها النفسي، وهي قيم تبخرت واختزلتها انزعة المادية التي فصلت بين الولد وأبيه والمرأة وزوجها وما على ذلك. فالزواج يأخذ صيغة الصفقة والعلاقات و(الصداقات) محمومة بالفوائد الاقتصادية والبزنس. ويلحظ هنا طبيعة الاشخاص التي قدموا الحوار [أم - طفل]. فالأم هي تربة العائلة، بينما الطفل سؤال المستقبل الفاغر. فالجواب هنا قدر ما يتعلق بالأم، فأنه طائلة أبناء الغد والصعوبات التي تواجههم، وبما يزيد من حجم الهوة بينهم وبين بلدهم. ويتداخل نص الوطن مع قصة (الشجرة). التي صرنا نرميها بالحجارة عندما شاخت فامتنعت عن حمل الثمار. فالشجرة كناية عن الوطن، وعن أشياء كثيرة متعلقة بالوطن والأرض والانتماء. بينما تكشف (توبة نصوح) صورة الرياء والنفاق الديني لمن يعظ الناس وهو أولى بالاتعاظ. أما قصة (وصية) فتتناول الخطاب السياسي و الدعائي الأجوف الذي تقذفه مدافع الاعلام بينما يتم مصادرة آخر قطرة ماء أو نفط أو عرق. أو ترسانات الأسلحة والجيوش التي استهلكت موارد الميزانيات العربية خلال القرن العشرين ليتم احتلال بلادها بدون طلقة أو نية للدفاع والحماية. وهكذا تتفاوت قصص عمران عزالدين أحمد في انتقالاتها بين ثنايا همومنا الاجتماعية والمصيرية بلغة هادئة ومبضع ناعم ولمسات دقيقة.

 عمران عزالدين أحمد كاتب من سورية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى