السبت ٣ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم عبد الجبار الحمدي

النظارات السوداء

ما انفكت الملمات، ترافقه في سرابيلها التي حملت كل تمزقات الذنوب المدلهمة، في ليالي عقيمة، رافقه العديد من هم على بينة من الأمر، وإنه لا يتعدى زمن عابر، صقلت الأيام أظافرها ولونتها بالسواد، تجهيزا في طعن أبدان آن لها أن تتذوق عذابات الآخرين، الذي اعتاد ان يراهم كبسولات لأمزجة متغيرة، قد تعني لنفسها بعض من الإنسانية، أما له فهي درجات رقي لنيل متطلبات، دعت الأحلام كل من يشترط أن يحقق حلمه على حساب الغير، واشترطت أن يدفع الغرامة التي يحددها الوقت، وعليه أن يوقع على وثيقة الأنا ولا شيء مهم ، كان من المسارعين على التوقيع في تلك الحملة التي بصم بأصابعه العشرين عليه، لمجرد أن يتذوق طعم الأبهة والعظمة، في وقت أزفت الشمس واختلفت مواقيتها في الأفول والظهور، فأمست وأصبحت على وجوه متغيرة في لحظات مغيب الضمير، لم تكن تكترث لكل هذا، ولكن مع تصادمات الرؤى باتت الغشاوة تطغي على العيون، لم تلبس في يوم من الأيام نظارة سوداء قاتمة، لتحيا في ظلام دامس تختفي وأفعال شنيعة، ترمي إلى هوة سحيقة كل الأبرياء، الذين انتظروا شروق شمس جديدة، لكن آنّا للشمس من ظهور، بعد أن تغيرت مواقيت الأزمان واختلاف أفلاك بدوران مجرات، سكنتها عفاريت إنسية بحجة التطور والحداثة، ورامت ترشق كل من دونها بتدني أجناس متخلفة، لم يطل انتظاره، بعد ان سمع طرقا وصوتا ينادي على أسمه في اعتلاء منصة الشهود، بحضور هيئة من محلفين لبسوا النظارات السوداء، للبت في قرار بعد سماع الشهادة، أما الدفاع فقد بان ضعيفا هزيلا، عصفت مجريات الأحداث حوله وألبسته رث الحديث، بعد أن ألجم فمه وكوي لسانه وكُسرت بعض أسنان لتغيير مفردات في مخارج لفظية، كان المدعي العام واثقا من نفسه وقد أحاطها بعدد من المصفقين في قاعة المحكمة، نظر حوله مستغربا! لقد طلب للشهادة ولكن عن أي شيء ؟ وما هي القضية ؟؟ من المتهم بين هذا الجمع ؟!!

التفت إلى الناحية الأخرى ليجد القاضي قد لبس ردائه الأسود ونظارته السوداء، والى جانبه تلك المطرقة، التي حكم بها على الكلام المباح بطرقة واحدة، رفع رأسه إلى ما كان خلف القاضي، وإذا بامرأة تحمل ميزان العدالة، وهي تغطي عيناها في عدم رؤية تقويض عدالة بحق من سيحاكم، نادى الحاجب محكمة .... نهض الجميع، كان المنظر مهولا بالنسبة له، فالجميع يقف باستقامة إلا هو والمحامي، ولكن .. أين هو المتهم ؟ سمع فجأة أن الدعوة الموجهة هي ضد المتهم ..... وإذا باسمه ... صرخ ماذا تقول ؟ّّّّ!!!! أنا ... متهم كيف ذلك ؟ وما هي تهمتي !! أني رجل أعيش على الهامش، تغربلت دون البشر فأسقطت من بين ثقوب، إلى عالم لم يكن لمثلي الحق العيش فيه، وجاءت اللحظة من الزمن بعد أن راودني شبه حلم في أن أكون ما أشتهي كغيري من البشر، طموح مشروع هذا ما تعلمته حين أنهيت دراستي الجامعية، لكن أجدني اليوم بين مطرقة قاض وعدالة عمياء، مع رجال لبسوا النظارات السوداء للبت في حكم، دون أن أدرك أنني أنا المتهم، عذرا ولكن ما هي تهمتي ؟ وكيف أطلب للشهادة ومن ثم أتحول إلى متهم ! ضرب القاضي بتلك المطرقة فأجهز على كل حجة أو عذر، سكوت ... سكوت ... لا يمكنك التحدث دون إذن من المحكمة، عفوا سيدي القاضي، نعم .. ماذا تريد أن تقول ؟ لقد سمعت من ينادي على أسمي للحضور في شهادة، وأجدني الآن متهما دون معرفة ما هي التهمة ولماذا ؟؟! قال القاضي : أتقصد أنك لم تقترف ذنبا، ولكن كيف تفسر شبه الحلم، وتوقيعك على ورقة الشرط إن تحقق حلمك على حساب الغير.

ولكن يا سيدي هناك من الغير مثلي الكثير، وما أنا إلا طامع بتغيير مصير، يبدو أنك حذر وذكي للغاية، أو إنك حمار وحشي في زمن الأسود، إن الغير الذي وقعت عليه في الورقة هم صفوة المجتمع مثلنا، أصحاب النظارات السوداء، هل فهمت الآن، وكونك وقعت فهذا يعني أنك قد دخلت في حلبة المتآمرين على الصفوة، وهذه هي تهمتك، ومن ثم أشار للدفاع أن يقدم الشهود، فقال سيدي القاضي حضرات المحلفين، إن شاهدي هو المتهم نفسه، وعليه سأوجه له بعضا من الأسئلة إن سمحت عدالة المحكمة، القاضي .. نعم لا مانع ولكن أوجز، فقال للمتهم .. لماذا اخترت أن يكون لك طموح وسمحت لنفسك أن تحلم ؟ قال المتهم .. في الواقع وبعد أن رُكِنَت كل مصائرنا في زاوية ضيقة، ولم نعد نحسب كالبشر، سولت نفسي بأن تحدثني بالبحث عن فرصة حلم، وجاء في ذلك اليوم وقتا يبيع طموحات وأمل، فسارعت ودون أن تفكير مسبق، أن أحظى بفرصتي ، فكان أني وقعت على تلك الورقة، ولو كنت أعلم بما سيحدث لما وقعت، فما أنا إلا إنسان مل الانزلاق على أشواك قنافذ، ورأيت أن الفرصة ربما تكون قد سنحت لي، فوقعت في مطب لا أدري كيف الخروج منه، فعلق المحامي .. لعلك تعني أنك نادما على فعلتك، أجل سيدي المحامي، وألتفت إلى القاضي والمحلفين وكل الحاضرين، نعم أنا نادم جدا، فالحياة ليست لأمثالي، وما قصدت أن أحط من شأن السادة الصفوة، أو محاولة التشبه بهم، أو النيل منهم ، ولكن الشيطان شاطر، أنتفض المدعي العام وقال ... هذه هي الحقيقة سيدي القاضي وسادتي المحلفين، يعني ان هناك من يدفعهم إلى مثل هكذا أفعال وأعمال، ولعل شاطرهم الشيطان هذا، قد رسم وتغلغل بين مفاصل المجتمع ليبث دسائسه، ووقف عجلة المسير التي خطتها الصفوة للأجيال المستقبلية، هز القاضي رأسه بالإيجاب، فقال المحامي .. لا يا سيدي القاضي .. إنما قصد بالشيطان الشاطر، هو تلك النفس التي أمرته بفعل السوء، وكما قال تعالى في كتابه الحكيم (النفس أمارة بالسوء ( وها هو يعترف أن نفسه حدثته بتلك الفعلة، وعليه يجب أن تحاكم نفسه، لا هو وجسده الذي ارتدى الأسمال حياةً أبدية، عنوانا أنه ليس من الصفوة، غاصت نفسه بانهيار في عمق محيط مظلم، فقد تاه بين محامي الدفاع والمدعي العام، وقاض يجلس وخلفه امرأة تحمل ميزان عدالة عمياء، فجأة صاح .. سأقول الحقيقة، مهلا أنصتوا لي، لقد كنت من بين الكثيرين الذي سحقتهم أقدام المتشحين بالنظارات السوداء، بعد أن دفعوا فيها ثمنا كبيرا، وهذا ليس عيبا أو مقصورا على فئة دون أخرى، ولكني أرى أن العيب فيكم، فقد وئدتم الحرية وأصبحت مغلولة بالقيود، مذ كان الوأد مُشرعا بدستور لكم والدليل خلفكم ، فهاهي العدالة بيد امرأة ألبستموها العصابة لتمسي عمياء، خزيا من أفعالكم المشبوهة، أما طموحاتي وأشباه الأحلام، التي فكرت في تحقيقها، ما هي إلا براعم فتيه وُأدت من قِبِلِكم، ولكنها ستبقى أطيافا تقلق منامكم والمستقبل الذي تنشدون، وستكون أحلامكم سوداء كنظاراتكم، وأنتم تعلمون ذلك، لذا لبستموها لتورية أعينكم خوفا من كشفها زيفكم والرعب الذي تحيون، لذا فليكن حكمكم كما ترون، فلست عابئا به، وعليكم أن تتذكروا أن الحياة فلك دوار، فلا يبقى كل شيء في مكانه، وبسرعة صوت المحلفين، بأن يكون عقابه الموت كسابقيه، الذين فكروا بالأحلام، التي هي جريمة في عصر المتاهات والنظارات السوداء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى