الاثنين ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم أنس الفيلالي

النقل والمواصلات بالأندلس

خلال عصري الخلافة والطوائف (316 - 483ﻫ)

قبل أن يهنأ الوسط العلمي العربي بتحقيقه ودراسته القيمة لكتاب «أكريــة السفـــن من أهل القرن الرابع الهجري» التي خلقت اضافة نوعية جديدة للبحث العلمي التاريخي، صدر حديثا للدكتو عبد السلام الجعماطي، أستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بجامعة عبد المالك السعدي شمال المغرب، عن دار ابن حزم ببيروت ودار الأمان بالرباط كتاب "النقل والمواصلات بالأندلس خلال عصري الخلافة والطوائف (316-483ﻫ ؛ ويتضمن الكتاب 588 صفحة، مسطرة من القياس المتوسط في مجلد واحد. ويتكون من مقدمة وفصل تمهيدي وأربعة أبواب يشتمل كل باب منها على فصلين اثنين.

والكتاب في الأصل عبارة عن أطروحة أعدها الأستاذ الباحث عبد السلام الجعماطي لنيل درجة الدكتوراه في تاريخ وحضارة الأندلس، وتمت مناقشتها برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 2007، ونال صاحبها ميزة مشرف جدا مع توصية لجنة المناقشة بنشر الأطروحة.

انصب المبحث التمهيدي على دراسة تطور المعارف الجغرافية العربية الإسلامية المتصلة بالنقل والمواصلات، ومعرفة أبعاد الأرض وآفاق البحار والمحيطات وطبيعة السواحل والخلجان.

وقد عمل الباحث في البابين الأول والثاني من الكتاب، على دراسة مختلف الجوانب التي تشكل مفاصل قطاع النقل والمواصلات، بدءا بالبنيات الطرقية البرية والمائية، ثم الوسائل المستعملة في النقل والحملان؛ وإلى جانب ذلك، حاول الدارس تجاوز المنهج الكلاسيكي الذي يحصر التاريخ في خانة ضيقة تقتصر على السرد الحدثي، وتغفل العوامل المتحكمة في مستوى "هيجان السطح" ـ حسب عبارة فرناند بروديل. لذلك كان عليه أن يتعمق في موضوع شبكة النقل والمواصلات ووسائلهما، كما ألحق بكل منهما فصلا وثيق الصلة بهما، فبالنسبة إلى شبكة النقل، كان من اللازم تتبع التطور العام الذي تحكم في حالتها الأمنية. أما وسائل النقل والمواصلات، فلم يكن هناك بد من ربطها بالتقنيات والأساليب التي اتبعت في تحريك دواليبهما، بغية اكتشاف مواطن الخلل التي أسهمت في تراجع المكتسبات التقنية الهائلة التي تحققت خلال عصر الخلافة.

وفي الباب الثالث، أعمل الباحث مجهوده لإعادة تسطير القواعد والأعراف، وصياغة النظام التثميري التعاقدي الذي تبلورت معالمه بالأندلس خلال القرن الرابع الهجري. وينبغي التنويه أن هذه المحاولة كانت سباقة إلى النبش عن تلك المعالم، من أجل فهم وتحليل المنظومة الفقهية التي تحكمت في قطاع النقل بشكل مباشر، سواء تعلق الأمر بما كان يسود بين الناس من قواعد وترتيبات لهذا القطاع، أو ما يخص التطور الفقهي الذي واكب قطاع النقل، بشكل يؤكد الترابط الوثيق بين المنظومة الفقهية والواقع المعيش.

أما في الباب الرابع، فقد حاول الباحث النبش عن فئات عريضة من المجتمع الأندلسي، ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في قطاع النقل والمواصلات، إلى حد أن بعض الخطط وضعت خصيصا لضبط حركة السير بالطرقات، وإلزام مرتاديها باحترام القواعد الفقهية والأعراف الاجتماعية، وحماية حقوق المرتادين للسكك والمحجات، وعلى أرصفة الشحن والحط بالمراسي والفرضات؛ في حين ظلت حشود ضخمة من العمالين في هذا القطاع، تعمل بشكل دؤوب من أجل تحريك دواليبه، مثل الحمالين وساسة الدواب والنواتية وحرفيي معدات النقل بشقيها البري والبحري، فهؤلاء شكلوا المحرك الأساسي للقطاع، وظلوا يؤثرون بكيفية عميقة على مسيرة تطوره.

وأنهى الدارس كتابه بخاتمة عامة ترصد أبرز النتائج التي توصل إليها البحث، سواء ما يتصل بمزيد من الغوص في دقائق الموضوع، أو من باب إماطة الغبار عن حقائق ظلت خارج مجال اهتمام الباحثين، أو تصحيح الكثير من المسلمات الرائجة بين الدارسين عن موضوع النقل وبنياته وأساليبه وقواعده وأعرافه.

كما ذيل الكتاب بملحق يضم جداول للمسافات والأوزان والمكاييل بالأندلس، ومقابلها بباقي ديار الإسلام، لكونها من صميم مباحث الموضوع؛ إضافة إلى مجموعة من الصور والخرائط التي تبين مختلف الشبكات والبنى التحتية والأسس المادية للنقل والمواصلات بالأندلس خلال الفترة موضوع الدراسة.

لقد انتهى البحث في تاريخ النقل والمواصلات بالأندلس خلال عصري الخلافة والطوائف، إلى تحصيل مجموعة من النتائج والخلاصات التي أمكن حصرها بالإثبات أو بالتفنيد. ويجمل الدارس أبرزها فيما يلي:
l أضاف الحكم الإسلامي بالأندلس قسما كبيرا من الطرق والجسور والمرافئ ودور الصناعة إلى هذا الصقع، إلى جانب ما وجد بها قبل هذه الحقبة من مخلفات الحضارات القديمة بالأندلس، وخاصة العصر الروماني.

l ساهم الاستقرار السياسي والتوازن العسكري خلال عصر الخلافة، وإقرار سياسة سلمية متكافئة بين قوى غرب البحر المتوسط في سيادة أجواء مناسبة لانتعاش المواصلات بين أنحائه برا وبحرا؛ في حين تضررت شبكة الطرق بفعل تزعزع الأمن منذ عصر الطوائف، وانتشار الخوف والغصب على مختلف المحاور الطرقية.

l شهد النقل والمواصلات بشقيهما البري والبحري تطورا في معظم مراحل عصر الخلافة الأموية بالأندلس، وهو ما واكبه انتعاش للبحث في تحسين الأساليب والتقنيات المستعملة بهذا القطاع، وفي تحفيز العلماء والعرفاء على تنمية قدراتهم المعرفية والعملية، للدفع قدما بهذا القطاع نحو تجاوز المعيقات التقنية التي طرحتها الحاجات المستجدة بالأندلس في هذا الباب.

تم إثبات مسؤولية الحجابة العامرية عن بداية اختلال التطور العلمي والتكنولوجي المستند إلى حرية التفكير والبحث، وإلى روح الابتكار والتجديد؛ وذلك بسبب موقف المنصور من علوم الأوائل، وفي مقدمتها الفلسفة والمنطق والفلك والكيمياء.

أمكنت إعادة صياغة القواعد والأعراف والاتجاهات الفقهية التي تحكمت في تحريك قطاع النقل والمواصلات وفق نظام التثمير التعاقدي، الذي يعد بحق إحدى الأشكال المبكرة للنظام الرأسمالي في بيئة عربية إسلامية، قبل أن تعمل المدن الإيطالية على وضع اللبنات الأولى لنظام اقتصادي مشابه له خلال العصور اللاحقة.

أشاد الباحث بالدور الرئيس الذي أدته مختلف الخطط والرتب السلطانية المتصلة بقطاع النقل إبان فترات الاستقرار السياسي، وميل أرباب السيف إلى تغليب العدل في الرعية والرفق بالحرفيين والعمالين في الحمل والنقلان؛ في حين بيّن الدارس في الطرف النقيض عوامل اختلال الخطط وتحولها إلى أدوات لحماية مصالح الفئات النافذة في الدولة، والتسلط على باقي الشرائح الاجتماعية وفق منطق الغلبة والقهر.

تم تسليط مزيد من الأضواء الكاشفة على عمالي قطاع النقل وحرفييه، نظرا إلى ما لحق هذه الفئات المهنية من تهميش من قبل القدماء والمحدثين، إذ لم تنل حظها من الدراسة والتصنيف الطبقي والمهني؛ وقد أمكن القيام بهذه المحاولة اعتمادا على ما تحصل بيد الدارس من المصادر، وهي تكشف عن تعدد أصناف العمّالين بقطاع النقل والمواصلات وتمايزها عن بعضها البعض، سواء تعلق الأمر بالقائمين على خدمة أسباب الطريق، أو بحرفيي وصناع معدات النقل البري والملاحة البحرية؛ ومن ثمة خلصت الدراسة إلى عدم مصداقية الحديث عن وحدة الانتماء الطبقي لهذه الفئات.

وخلص الكتاب إلى تأكيد حدوث نهضة ملموسة في قطاع النقل والمواصلات بالأندلس خلال عصر الخلافة وصدر عصر الطوائف؛ وقد شملت أوجه التطور الطارئ في هذا القطاع مستويات عديدة في مقدمتها شبكات النقل البرية والبحرية والنهرية، ووسائل السفر عبرها؛ وبموازاة ذلك تقدمت بعض التقنيات المتصلة بحمل الأجرام الثقيلة في البر وبأساليب الملاحة الفلكية. كما تم رصد التقنين الحاصل في المعاملات بهذا القطاع، سواء ما يتصل بعقود التصنيع والشراء والكراء والشركة، أو ما يخص عقود الاستئجار على نقل الحمولات من البضائع والأمتعة، وما يترتب عن ذلك من اللواحق والالتزامات ضمن ما سمي لدى بعض الدارسين بنظام التثمير التعاقدي. وحاول الكتاب كذلك التماس مكامن الطفرة المنجزة بهذا القطاع من خلال تتبع مختلف التقاليد المكتسبة في ترتيب الدواوين السلطانية المتصلة بالنقل، وفي رصد التطورات التي شهدتها أحوال العمّالين به في البر والبحر وفي ورشات الصناعة وأسواق المعدات والأدوات ببلاد الأندلس الإسلامية.

ولا يسعنا الا الاشادة بكل عمل أكاديمي يضيف للساحة العلمية جديدا نوعيا كما هذا الكتاب، وكما عودنا الدكتور عبد السلام الجعماطي، فيما يخص مبحث الغرب الاسلامي.

خلال عصري الخلافة والطوائف (316 - 483ﻫ)

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى