الأربعاء ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧

النّضالِ في الشعر العربي الحديث

علي أبو بكر سليمان

النّضال في الشعر الفلسطيني الحديث: (عز الدين المناصرة أنموذجاً)

في أوائل القرن العشرين ظهرت ملامح المؤامرة الكبرى من لدن الأوروبيين ضد دولة فلسطين، وعلى امتداد أربعين سنة خاض جميع أبناء المجتمع الفلسطيني معارك كبيرة ومستمرة ضد "الهجرة اليهودية والانتداب البريطاني، اللذين يسعيان لإقامة كيان صهيوني في فلسطين"، حصل النضال الجماهيري المستمر ولاسيما في مراحل النشأة والتحدي والقتال المسلح ثم عملية الانحسار، ولقد مثلت الحرب والنضال منعطفاً نوعياً حاداً في التاريخ الفلسطيني المعاصر، وكما مثلت في هذه المرحلة نقطة التحول في الحركة الشعرية في فلسطين، وحيث لعبت الحركة الشعرية الفلسطينية دوراً ريادياً ومهماً في عملية تعبئة الشعب وتبصيره ببعض المكائد والمخططات التي تحيط به لكي ينظم صفوفه، وحيث أدت أيضا دور المحرك للنضال الجماهيري ضد المحتلين البريطانيين والغزاة الصهاينة، وذلك لوقوعه موضوعياً في خندق معارك المجابهة اليومية بتأجيج مشاعر جميع الشعب الفلسطيني من جهة، وتحريك هممهم نحو النضال المسلح والتحرير والعودة من جهة ثانية، وفضلاً عن التسجيل الحي لكل هذه النضالات الشعبية، وفقا لقوانين الشعرية. وقد قال كامل السوافيري في هذه الزاوية: "ولا نكاد نعد شاعرا ولا شاعرة ممن أوجدتهم الكارثة لم يصور واقع فلسطين التصوير الحقيقي (الشعري) بكل جانب من جوانبها". وعن طريق انخراط مجموعة كثيرة من الشعراء العرب بوجه عام والفلسطيني المعاصر بوجه خاص في الصفوف الأمامية للمناضلين ضد مغتصبي فلسطين.

فإن شعر النضال الفلسطيني لم يكن أبداً ظاهرة طارئة على الحياة الأدبية والثقافية الفلسطينية، لأن حركة النضال الفلسطيني كانت قد قدمت على الصعيدين: (الثقافي والمسلح)، نماذج مبكرة وجديدة ذات أهمية قصوى بوصفها علامة أساسية من علامات النضال العربي، وحفل التاريخ الفلسطيني بعد مرحلة النكبة من عام 1948 إلى عام 1968م، بظاهرة النضال الأدبي والثقافي والمسلح على السواء، وإذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها الشعب الفلسطيني قد أنتجت أسماء من طراز عزالدين القسام مثلاً، فإن شعر النضال الفلسطيني قد أنتج قبل ذلك أسماء مجموعة من شعراء الطراز نفسه، وما زال المجتمع العربي الحديث يفرز لنا أسماء شعراء كبار من مثل: (إبراهيم طوقان، وعبدالرحيم محمود وأبو سلمى)، قبل 1948، فضلاً عن (عزالدين المناصرة ، ومحمود درويش) وغيرهم كثيرون بعد (1948).

 من الواضح أن حركة شعر النضال الفلسطيني في القرن العشرين شكلت محوراً مهماً من محاور الأدب العربي المعاصر، ومن أوسع الأركان الشعرية التي يدور في رحابها، ولا شك أن الشعر النضالي يمثل عملية التصدى لكل أنواع الاحتلال، وسلاحاً مشروعاً من أسلحة المعركة التي خاضها الشعب الفلسطيني ضد المحتلين البريطانيين والغزاة الصهاينة في اللأربعينيات القرن العشرين، وبحدوث نكبة دولة فلسطين في عام 1948م، أصيب الكيان الفلسطيني بهزة قوية من لدن المستعمرين، وفي ظل هذه العاصفة القوية نهض الأنسان الفلسطيني للدفاع عن وطنه ومقدساته وحقه المشروع، ولعل عملية استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وبشاعة فعل الصهاينة تجاه الشعب الفلسطيني، وتراكم المأساة والأزمات المستمرة للشعب الفلسطيني في القرن العشرين، وفي النهاية كل هذه الأجواء أسهمت بشكل مباشر في إظهار الشعر النضالي بعد عام (1964)، وبعد ما أصبح يشغل حيزاً واضحاً من أشعار مجموعة من الشعراء المعاصرين، مثل: (سميح القاسم، وفدوى طوقان، ومحمود درويش، وعزالدين المناصرة) وغيرهم من الشعراء الملتزمين بقضايا شعبهم ووطنهم، وليس من الغريب ملاحظة الشاعر المقاوم الفلسطيني وهو "يجمع بين مصيره ومصير أمته ويتحمل السجن والنفي والاضطهاد ليقوم في وجه أعداء شعبه"، فالشاعر "عليه أن يصنع مصيره بيده ويكون داعيا إلى التحرر والاستقلال وملتزماً بقضايا مجتمعه، ويرفض الاحتلال ويعتز بوطنه ويحن إليه، ويعبر عن رفضه للواقع المرير الذي يعانيه الشعب الفلسطيني وداعياً إلى عملية النضال من أجل العدل والاستقرار، ومن بين هؤلاء الشعراء استطاع (الشاعر عزالدين المناصرة) أن يصور التحدي عبر المراحل المختلفة، وبإمكاننا أن نقول إن المناصرة هو ابن الشعب الذي يدرك معظم إصرار مأساة الشعب الفلسطيني، ويعلن إيمانه دائماً بأن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو (النضال المسلح) لتحرير الوطن من سياسة الاغتصاب من لدن الاحتلال، وتحرير الشعب من الاوضاع المأساوية والواقع المأزوم، ويعد المناصرة من أولئك المناضلين الذين يمثلون مصالح النضال ضد مغتصبي فلسطين في شعرهم، ولعل (جفرا) عند المناصرة الرمز الأكثر شعبيةً للثورة الفلسطينية المعاصرة بعد عام 1964م، والجفرا في عقيدة المناصرة هي عملية اندغام الوجدان بنكهة التراب في فلسطين، أو بعبارة أخرى بمعنى الوطن السليب، ولا شك أن (الجفرا) تمثل تحدياً حقيقيا الاحتلال، ويجدر بالذكر أن الجفرا، ورد في كثير من أشعار ودواوين المناصرة.

 منذ عام (1964) دخل (المناصرة) عضواً في (الاتحاد العام لطلبة فلسطين- فرع القاهرة)، وكان مرشحا لقيادة الاتحاد عام (1966). وفي عام 1967، تلقى (دورة عسكرية) في جامعة القاهرة. أما في المرحلة اللبنانية للثورة الفلسطينية، فقد شارك في معارك عسكرية ( معركة كفر شوبا، 1964)، (ومعركة المتحف- بيروت، آب 1982). وكان قد قاد بنفسه (معركة المطاحن- جنوب بيروت)، 1976 ضد ( إسرائيل)، و(المتأسرلين) في لبنان، فهو يتشابه مع ( عبد الرحيم محمود) الذي استشهد عام 1948، ومع كمال ناصر، 1973 وهما شاعران.

 ومن دواوين المناصرة: (ياعنب الخليل)- ( بالأخضر كفناه)- (جفرا)، حيث صدرله (أحد عشر ديوانا) من الشعر الوطني الحداثي المقاوم.

دلالات جفرا في شعر عزالدين المناصرة، (1976)

جفرا... المرأة... الوطن (النّضال)

قدم الشاعر في مجموعة من شعره باسم جفرا بعملية (الخلط بين صورة المرأة والوطن والنضال) بشكل مباشر، وبهذا تطورت هذه الأغنية من مواضيع الغزل إلى أغانٍ نضالية جديدة تمجد المناضلين والثوار، وتطورت أيضاً من ظاهرة عشق أزلي إلى منارة للرافضين، وجاءت عملية المزج من قبل المناصرة لأسباب عديدة ومقنعة، أهمها على الإطلاق التوازي مع تطور القضية الفلسطينية وتوالي كفاحها بعد نكبة عام 1948م، وجاء المزج عند المناصرة بشكل دقيق حتى إنك لا تستطيع الفصل بين صورة المرأة والوطن والنضال في شعره، وهذا ما نلاحظه في كلام المناصرة بهذا الشأن: "فقد زين المرأة بنباتات الوطن البرية وغير البرية، وحملها هموم الوطن ومآسيه، كما وسم الوطن بسمات المرأة حتى غدا كل منهما يدل على الآخر"، ولكن لم يأت "هذا المزج مزجاً عشوائياً، وإنما جاء عن وعي وقصد، فالأرض عنده هي الأم الأولى التي جلبته للحياة، وأمدته بالغذاء، كما منحه الوطن التاريخ المشرف الضارب في القدم والمتسم بالأصالة والعراقة، وأمده النضال الجماهيري بالأفكار الفريدة أمثال (الفداء والتضحية) في سبيل الوطن بشكل واضح، أو بعبارة أخرى نلاحظ في أغنية الجفرا أن الشاعر جعل صورة المرأة رمزاً حقيقياً للوطن والأرض والنضال الجماهيري، ومن هنا يمكن أن نقول إن استخدام كلمة الرمز في الشعر عند المناصرة دليل واضح على عمق ثقافته من ناحية، ودليل على عمق نضجه الفكري من ناحية أخرى، وقد قال الشاعر في هذا المجال:

ترسلني جفرا للموت، ومن أجلك يا جفرا
تتصاعد أغنيتي الكحلية
منديلك في جيبي تذكار
لم أرفع صارية إلا قلت فدى جفرا

ويقول المناصرة:

جْفرا ظلت تبكي في الكرمل، ظلت تركض في بيروت
وأبو الليل الأخضر، من أجلك يا جفرا
يشهق من قهر طلقته... ويموت!!!

جفرا... أنثى الغزال-(المعنى اللغوي):

وردت كلمة جفرا بمعناها اللغوي السخلة وتعني أنثى الغزال من خلال مجموعة من شعره، ومن الضروري إدراك أن جفرا وهي المرأة الفلسطينية المخطوفة عند الحاجز العسكري الصهيوني من قبل مجموعة الصهاينة في أواسط القرن العشرين من جهة، والمصلوبة في التابوت من جهة ثانية، كما جاء في قصائد عزالدين المناصرة: "وهي السخلة التي ترعى في حقول فلسطين، وهي أمه، وهي فلسطين المحتلة، وهي الثورة الفلسطينية المطاردة في المنافي، وهي رمز للحياة والجمال"، وكما يقول الشاعر من خلال قصيدته، وهي قصيدة غنائية:

جفرا أمي إن غابت أمي
جفرا الوطن المسبي
الزهرة والطلقة والعاصفة الحمراء
جفرا – إن لم يعرف مَنْ لم يعرف – غابة زيتون
ورفيق حمامٍ وقصائد للفقراء.

جْفرا أغنية شعبية وتراثية:

لقد استخدم الشاعر كلمة جفرا من خلال مجموعة من شعره دالة على الأغنية الشعبية والنضالية الفلسطينية في أواسط القرن العشرين، كما يقول المناصرة في هذا الشأن من خلال قصيدته المشهورة بعنوان (نص الوحشة:)

سأرتب عاداتي
وفق تقاليد المنفى
لكن... سأُطعّم أطفالي بأغاني الجفرا وظريف الطول
حتى لا يضبطني مشعل منكسراً، محني الرأس
في هذا المنفى المشلول
سأعلم نفسي قبل الفجر
مواجهة اليوم التالي.

فقد وجه الشاعر نفسه مضطراً للعيش في المنفى والتأقلم معه حتى يستطيع أن يحيا حياته، ولكن بشكل عام "هذا التأقلم لن يضعف صلته بالوطن الأم وارتباطه به، ولن يصل إلى حد الانسجام والاندغام بوطن المنفى، ولن ينسيه آلامه ومآسيه في المنافى، فلا تزال صورة المنفى عنده قاتمة سوداوية (سأرتب عاداتي في هذا المنفى الموحش، يا الله، كم هو موحش)"، ويؤكد الشاعر "على ضرورة تعليم الاجيال الفلسطينية التي ولدت في المنفى بعيدا عن أرض الآباء والأجداد التراث الفلسطيني الشعبي، فالشاعر سيعيش هو وأسرته في المنفى يتنقل من منفى إلى منفى آخر، ولكنه سيرسخ أغاني الجفرا بما تحتويه من دلالات نضالية في أذهان شبابه" في فلسطين.

النّضال في الشعر العراقي المعاصر: محمد مهدي الجواهري أنموذجاً

يعد الجواهري من أعظم شعراء العرب في القرن العشرين، وعملاقا من عمالقة الشعر العربي والعراقي المعاصر، ولا شك أن الشاعر في شعره رجل الثورة الذي التزم بقضايا: القومية والوطنية والإنسانية بشكل عام، وانتصب مناضلاً في سبيلها، ويهاجم سياسة ومخططات الاستعمار الأجنبي وعملائهم من بعض رجال الدولة في العالم العربي والإسلامي في صراحة جريئة وعنيفة، ويثور الجواهري في حياته، إذا شاهد الجماهير ثائرين، وينفصل الجواهري، إذا برقت أمامه بارقة تمرد أو نضال ضد الاستعمار الغربي والحكام المستبدين آنذاك، ومن هنا بإمكاننا أن نقول: إن الجواهري ضمير الأمة والشعب، لأنه دائماً يرضى حيث ترضى الجماهير ويغضب لغضبها، ويقول فليح الركابي: "ومن يريُد أن يقرأ تاريخ العراق السياسي والاجتماعي والفكري في القرن العشرين، فليقرأ شعر الجواهري، لأنه يجسد بصدق الأحداث الجسام المتقالبة التي مرت على العراق، ولا شك أن "الجواهري من الشعراء القلائل الذين استخدموا شعرهم في الانتفاضات الوطنية وفي التظاهرات، ورددت قصائده في المعتقلات والسجون كهتافات وأناشيد ثورية ضد السجان، وهذا ما تردد من جماهيريته التي ضاهت في بعض الأحيان جمهور القادة السياسيين"، وليس من الغريب أن نقول إن الحساسية السياسية غلبت بشكل عام على شعر الجواهري بوضوح، ولا سيما ذلك المشهور والذائع من أشعاره: إرادة الاستقلال السياسي والحرية والحياة الكريمة وحق الشعب في الوجود الكريم.
ظل الجواهري ملتزماً بتوجهه الشعري الخاص الذي بدت ملامحه المميزة منذ أولى قصائده التي نشرت في عام 1921م وفي أعقاب الثورة العراقية، وإن تطور وتعمق واغتنى عبر الخبرة والتجربة والنضال، دون أن يؤدي بعض ما عاينه من تحولات سياسية وفنية إلى التحول عن الشكل التقليدي للعقيدة العربية، ودون أن يتنازل عن الوظيفة النضالية للشعر تجاه الوطن والأمة، وبهذا ً التوجه الصارم مثل الجواهري نموذجاً لا يشترك معه فيه سوى الشاعر اليمني (عبدالله البردوني) يكسر القاعدة النقدية التي استقرت منذ الخمسينات، والتي تحتم التلازم بين نضالية الموقف السياسي أو المضمون، ونضالية الشكل الفني، وكان المقصود آنذاك شكل الشعر الحر.

قد ناضل الجواهري في سبيل ثلاثة أوجه للحرية في القرن العشرين: أولاً: الحرية القومية، ويسمى في هذا الشأن بشاعر القضية الوطنية، ثانيا: القضية القومية، ويسمى في هذا الشأن بشاعر القضية القومية، ثالثاً: الحرية الإنسانية، ويسمى في هذه الزاوية بشاعر القضية الإنسانية، بسبب نضاله ضد الظلم والطغاة من لدن بعض الأنظمة الديكتاتورية في العراق والعالم العربي والإسلامي من جهة، وضد سياسة اغتصاب الاستعمار والهيمنة الأجنبية بكل صوره وأشكاله في بعض البلدان العربية في هذه المرحلة من جهة ثانية.

أولاً: شاعر القضايا (القومية والإنسانية)

من يقرأ ديوان الجواهري بإمعان، فسيجد أنه ربط بشكل واضح بين النضال، وعلى مستوى الإنساني، فهو دائماً سلك الخط الإنساني أو حقوق الإنسان في مدرسة السياسة والأدب المعاصر، وانتصب مناضلاً فاعلاً في سبيلها، ومن الواضح أن الجواهري صاحب ضمير إنساني حي، ويمثل أيضاً رمزاً إنسانياً فاعلاً، أو بعبارة أوضح فهو إنساني مكافح، أسهم دائماً بشعره القيم في الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته وحريته قبل أن ينشغل بنفسه أو بتوافه الوجود أو الحرية، ومدافع عن الاستقلال لجميع الشعوب غير العرب في العالم العربي والإسلامي، مثل الشعب الكوردي وغيرهم كثيرون، فلذا امتزجت الإنسانية بالالتزام وبعملية مكافحة سياسة ومخططات الاستعمار الغربي والظلم والاستبداد في هذه المرحلة.

فعلى المستوى القومي، لا شك أن الجواهري شاعر قومي مناضل، وشاعر عروبي أصيل ومنفتح على الإنسانية وقضاياها الحديثة بشكل كامل، وقد وردت مجموعة من أفكار الجواهري القومية من خلال بعض قصائده المعروفة والمختصة بجميع الأقطار من العالم العربي كل على حدة، فمن هذه القصائد ما يلي:

لقد نظم الجواهري حول (جمهورية مصر العربية) قصائد كثيرة، ومنها: قصيدة (سر في جهادك، وإلى الشعب المصري، والدم الغالي، وفي مؤتمر المحامين، وبورسعيد) وغيرها كثير، قصيدة (سر في جهادك) من قصائده القومية المعروفة، التي نظمها في مدينة دمشق في عام 1936م، ويقول الشاعر في مطلعها:

إن الجهاد صحيفة مخضوبة
جمدت عليها للشعوب دماء

يشجع الجواهري في هذه القصيدة كل أبناء الشعب المصري على مواصلة عملية النضال ضد العدو الحقيقيـ ويرى الشاعر أن الموت في ظل الظلم خير من الحياة، وقد وقد اختار الجواهري هنا أن يكون تعبيره بصيفة الجملة الاسمية التي تفيد الديمومة والثبات، وجاءت الجملة مؤكدة بـ(إن) ليؤكد أن الجهاد مخضّب دوماً بالدم، وهذه هي حالة الدائمة بدوام الدهور وقد برع الجواهري باستخدامه الجملة الاسمية المؤكدة بـ(إن) في هذا السياق.

لقد نظم الجواهري حول الصحارى المغاربية مجموعة قصائد كثيرة، ومنها: الصحراء، والجزائر، والصحراء في فجرها الموعود، وغيرها كثير، وكما يقول الجواهري من خلال قصيدته بعنوان (الصحراء في فجرها الموعود)، في بعض أبياتها:

من مبلغ السادة العميان أرهقهم
حرمانهم، وتعـاصــت فيهم العقَدُ
عموا ومذ بصروا بالدرب مشرعة
صموا فما افتقدوا شيئاً ولا وجدوا

يتحدث الجواهري في هذه القصيدة عن عمى بعض الزعماء العرب، وصممهم وتنازلهم عن نصرة الشعوب العربية بوجٍه عام، وتحذيرهم من مغبَّة لزومهم الصمت المستمر والتأكيد على لزوم النضال الدائم ضد العدو الحقيقي للشعب العربي، ولقدا ختار الجواهري (البحر البسيط) لحالة من إيقاع جميل، ونغمة بديعة، ولو نظرنا إلى البيت الثاني لوجدنا تناغماً وتناسقاً بين ألفاظه، ونلحظ الجناس بين (عموا) و (صموا)، وهذا البيت متناغم وكلماته متوافقة في التقطيع العروضي، فلننظر: (عموا ومذ بصروا)، كيف تتوافق وتنسجم في بداية الشطر الثاني مع: (صموا فما افتقدوا) ففي الإيقاع: تنسجم وتتوافق (عموا) مع (صموا)، و(ومذ بصروا) تتوافق في التقطيع العروضي مع (فما افتقدوا)، ونلحظ كذلك وجود جناس بين (افتقدوا) و(وجدوا)، كل هذا يجعل من هذه الأشعار موسيقية متناغمة تتراقص الكلمات تراقصاً يقع على الأذن موقعاً حسنا.

الناظر إلى أغلب الأشعار السياسية للجواهري في القرن العشرين، يرى أن شعره شعر تغيير لا شعر تعبير، وشعر نضال ومقاومة ومغالبة، لا شعر توصيف وتشخيص، وشعر إجابات مقتحمة ملتحمة، لا شعر تساؤلات معلقة، وشعر وطني وقومي وإنساني أصيل، لا شعر ديني ومذهبي وعنصري.

ثانياً: شاعر القضية الوطنية:

على امتداد معارك الشعوب في العالم العربي والغربي من أجل تقدمها وتحررها الوطني، وقف الشعر العربي الحديث في هذا المجال بشكل مباشر كواحد من أسلحتها الفعالة، وحين نتحدث عن دور الشعر المعاصر بوصفه سلاحاً للمعارك، "فإننا لا نستخدم تعبيراً مجازياً من باب التشبيه والمبالغة لإبراز أهمية الشعر ودوره، ولكننا نقرر حقيقة مثلها هذا الشعر في النضالات المتعددة للشعوب"، ويكفي أن نذكر هنا بـ"أن طائرات الحلفاء قد قامت بإلقاء قصيدة أيلوار فوق فرنسا، وذلك من أجل تأجيج حرب المقاومة الفرنسية ضد الغازية الألمانية" في أثناء الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين.

أصبح العراق من نصيب الاستعمار البريطاني في أوائل القرن العشرين، ووقع تحت وصايتهم وانتدابهم، وفي ظل سياسة الانتداب البريطاني آنذاك، أصبح العراق ساحة معركة حقيقية ضد الاستعمار البريطاني وعملائهم من رجال الدولة، ويتوحد الصوت الشعري في خضم هذه المعارك التحررية الوطنية، "لقد خرج الشعر إلى المعركة، بل عاش فيها يقودها وينفخ فيها من روحة"

ويجدر بالذكر أن للشعراء حضوراَ بارزاً في ساحة هذه المعارك النضالية الوطنية في مجال توعية وتشجيع كل الشعب العراقي في عملية النضال المستمر ضد الاستعمار البريطاني، وظهر هذا الدور للشعر والشعراء في ثورة العشرين في العراق بشكل واضح، وظهر الجواهري في طليعة شعراء هذه الثورة ضد الاستعمار البريطاني آنذاك، ويعد الشاعر من أعظم المشاركين فيها بمجموعة من قصائده النضالية الوطنية، واقترن شعر الجواهري دائما في نزعته الوطنية بمكافحة الإستبداد والظلم والاضطهاد والاستعمار الغربي، وكما يقول فرحان اليحيى في هذا الشأن: "قد اتضحت الوطنية، وتحددت معالمها في عصرنا الحاضر، منذ بدأ الظلم والاستبداد يسيطران على البلاد العربية، ومنذ أن فرّق المستعمر بينها ووضع لها الحدود الجغرافية المصطنعة، وجعلها منفصلة عن بعضها البعض"()، وحسب اعتقاد اليحيى "بدأ الشعور الوطني يتضح في النفوس، ويتأ جج في الصدور، ثم الشعور ما لبث أن تفجر غضبه في وجه المستعمرين، وثورة على الطاغين"()، فلذا امتزجت الوطنية بمفهوم الالتزام وبمكافحة الاستعمار والاستبداد وبالالتزام تجاه القضايا الوطنية الكبيرة أيضاً.

ثورة العشرين في العراق

عاش الجواهري في زمن مخاض الحوادث السياسية التي عصفت بالعراق والعالم العربي والإسلامي، فتطلب منه مواقف تجاه كل الحوادث التي حدثت في بلاده، أمثال: ثورة العشرين في العراق ضد الاستعمار البريطاني وعملائهم من بعض رجال الدولة "كيف يكون الجواهري غير ذلك وهو سليل عائلة عراقية وعربية مناضلة، اشتهرت بوطنيتها ومواقفها الكفاحية المعروفة جيداً من النجف وفي عموم العراق، فوالده – رحمه الله – كان من الوطنيين الأحرار الذين قاوموا الاستعمار البريطاني"، في أوائل القرن العشرين في العراق، ومن هنا نستطيع القول إن ثورة العشرين من أكبر الثورات في تاريخ العراق المعاصر، واندلع نتيجة تصرفات الاستعمار البريطاني تجاه أبناء الشعب العراقي فيتلك الحقبة، وشكلت تلك الثورة الكبيرة نقطة انطلاق في عملية تكوين وتطوير الوعي السياسي الحديث عند قطاعات واسعة من الشعب العراقي، ولا شك أن الجواهري في طليعة شعراء النهضة في عام 1920م في العراق ضد الاستعمار البريطاني، ولقد شارك الجواهري بشكل فعال في ثورة العشرين مع قطاعات واسعة من الشعب العراقي في مدينة بغداد فأذكى شعره الوطني والحماسي فيها حماس الشعب، وألهب مشاعرهم.

عندما استولى الاستعمار البريطاني على العراق في أوائل القرن العشرين، لم ييأس الفقهاء وعلماء الدين في العراق ولم يستسلموا، بل استمروا في عملية تشجيع الجماهير على النضال والثورة ضد الاستعمار وخاصة في ثورة العشرين، وكما يقول الجواهري من خلال قصيدته بعنوان (رثاء شيخِ الشريعة) للتي نظمها في عام (1920م):

أين ما لهذا الدينٍ ناحت منابرة وقل خفية أين استقلت عساكره
يرثي الشاعر في هذه القصيدة الشريعة، ويعد نضاله نضال جميع فقهاء وعلماء الدين في العراق، وواجبه واجب أساسي لهم ويكون المسار الصحيح للشريعة، وفي مطلع هذه القصيدة نجد الجواهري جاء بأسلوب الاستفهام في الشطر الأول وأتى باستفهام في الشطر الثاني، وهذان الاستفهامان هنا أفادا التعجب والتحزين، فالشاعر يُحرك مشاعر المتلقي، من خلال الاستعارة المكنية (ناحت منابره)، فالتصوير يؤدي دوراً عند الجواهري في تحريك المشاعر والعواطف عند المتلقي.

علي أبو بكر سليمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى