السبت ١٢ أيار (مايو) ٢٠١٨
الانتخابات العراقية بين
بقلم كريم مرزة الأسدي

اليعقوبي والرصافي والشبيبي والجواهري

ما أتعس الليلة يا بارحة

1 - الشيخ محمد علي اليعقوبي (1895-1965م) - كتبتُ ثلاث حلقات عنه وعن طرائفه ومواقفه:الانتخابات النيابية (البرلمانية) الشغل الشاغل للانسان، وللمجتمع بقياداته الدينية والسياسية والعشائرية، وانا اتكلم على مستوى العراق وبخصوصه، وحين قامت في عشرينات القرن الماضي لأول مرة، استعد الشعراء لها، ووجدوها الفرصة المناسبة لنقد الاوضاع السائدة، وابراز الذات الشاعرة، وهل تعتقد ان الشاب المتألق الشيخ محمد علي تفوته هذه اللقطات؟ اذا اجبت بنعم، فاذن انت في خطأ مبين!! ففي بداياتها نظم مقطوعة، تلاقفتها الالسن، ونشرتها صحيفة (الرعد)، فشاعت في البلاد بين افواه العباد:

للانتخابات قـــــــــامت
معـــــاركٌ ومعامعْ
لكلّ حزبٍ هـتـــــــافٌ
تستك منه المسامعْ
فللشباب طمــــــــــوحٌ
و(للشيوخ) مطامعْ
سوق الضمــــائر فيها
مابين شارٍ وبائــــعْ
ذرائعُ القـــــــوم شتى
والمال بعض الذرائعْ
وليس يــــــــــربح الا
من رشّحته المـــراجعْ

لم يكتفِ اليعقوبي بهذا، ولا ندري بتورية (الشيوخ)، هل عنى شيوخ الدين ام شيوخ العشائر! وكل مدعبل عند الناخبين جوز! ولو كان من طين جامد، ولسان صامت، فكان يرى الاعضاء كتماثيل منحوته،وهياكل مصنوعة، لذلك أرتجل حين سئل عنهم ببيتين قائلا:

أرى البرلمان ونـــوابه
سكوت به سكتة الأخرسِ ِ
تماثيل ينحتها الإنتداب
وتعرض في قاعة المجلس ِ

وهل تتصور أنّه سكت عند هذا الحد؟ كلا! بل تابع أمر المجلس، وعقد جلساته،وإكمال نصابه، وأهمية قرارته، لإيقاف الخراب، والمطالبة بالحساب، نظم قصيدة نشرتها الصحف، وتداولها الجمهور استهزاء بالأمور، إقرأ وتذكر:

أرأيت في بــغداد مجلسنا الذي
أخذت مقاعدها به النــــــوابُ
نصبت على تلك الكراسي التي
فيها هياكل كلّهــا أنصــــــابُ
نجحوا وأسباب النجــاح كثيرةٌ
في الانتخاب، وبئست الأسبابُ
رضيت نفوسهم بنيل مرارهـــا
وجميع أبناء البلاد غضـــــابُ
ماضرّهم، وقصورهم فيما ازْ
دهت معمورة، انّ البلاد خـرابُ
سيطول موقفهم اذا ما حوسبو
حيث الجرائم ما لهنّ حســـــابُ
ومن الأمور المستحيلة انّـــــه
ينجو القطيع، وحارسوه ذئـــابُ
لا درّ درّ مجـالس ٍ أعضاؤها
سيّان إن حضروا بها،او غابوا

ليس بعيدا عن السياسيين، فالشيخ يحمّل هؤلاء المسؤولية الكبيرة في تردي الأوضاع الأقتصادية، وتفشي الفساد الأداري بين صفوف المجتمع، هو لايحتمل الضرر الواقع على غيره منهم، فكيف الحال اذا مسّه الضرر مباشرة، وبشكل مبين من موظف مستهين، أحكي لك: تم توزيع قطع اراضي في النجف على علماء الدين أبان حكومة الدكتور فاضل الجمالي، وعند مراجعة شيخنا إحدى دوائر بغداد المختصة لتنفيذ القرار، استغفل الموظف المسؤول الخطيب المشهور، وكان يجهله لجهله بالأمور، فأعطاه رقماً وهمياً لا أساس له، وعند ذهابه للنجف لغرض تسجيل القطعة باسمه لدى الدائرة العقارية، أخبره الموظف النجفي لا وجود للرقم المزعوم في سجلات القيد المرسوم، وما هذه الاّ حيلة، فعاد خائبا الى بغداد، ولكن توجه الى مكتب رئيس الوزراء، وكان الرئيس نفسه قد أصدر أمراً -في نفس الفترة- بغلق دور الدعارة في محلة الصابونجية البغدادية، دخل الشيخ الجليل على الدكتور الجمالي، استقبله الرجل استقبالاً حافلاً، يليق بمن مثله، وطلب منه الجلوس، رفض الشيخ اليعقوبي هذا العرض، وقال له أقرأ عليك هذين البيتين:

قالوا ببغداد الجمـــــالي قد محى
منازل قد كانت بهنّ العواهرُ
فإنْ طهرت تلك المنازل لم تكن
لتطهر من ابنائهنّ الدوائـــــُر
وعندك الجواب، ما كان الحساب!

ومما يثير الاعجاب،تناوله قضية إحالة القاضي الشرعي التمييزي، الشيخ محمد بن الشيخ طاهر السماوي (1292-1370 هج\1876-1950م) على التقاعد، بأمر صادر من السيد محمد الصدر رئيس محكمة التمييز العليا في حينه -أصبح السيد رئيسا للوزارة ولمجلس الاعيان... مرات-، وليس بناء على ذيل قانون انضباط الموظفين، فصرخ الشيخ القاضي (ما ضربني الذيل،ولكنه الصدر)، فتلقف الشيخ اليعقوبي صرخته مضمناً مورياً... قائلا:

قل للسمــــــاوي الذي
فلك القضاء به يـــدورُ
الناس تضربه الذيول
وانت تضربك الصدورُ

تورية الذيول والصدور توضحت من مقدمة الحديث، أمّا القضاء فهو تورية عن المنصب الوظيفي العدلي، وليس القضاء والقدر كما يتوهم بعض القراء.

رحم الله ما فات على شاطئ الفرات، الماء يجري، والنفوس تغلي، امّا ما هو الآن الحال، فانّه لم يمر في يومٍ على بال!!

2 - معروف الرصافي (1874م ننفرد بهذا التاريخ - 1945 م)) كتبت ثلاث حلقات عنه من شموخه حتى استكانته:

كان الرصافي يتمتع بمنزلة اجتماعية رفيعة، وقام بتدريس طلعت باشا وزير الداخلية،وكان هذا العمل على مايبدو هو سبب في اختياره نائباً في مجلس المبعوثان (النواب) العثماني عام 1912م وذلك عن لواء المنتفك، ونستنتج من شعره انّه كان عضواً فعّالاً متكلماً يبدي رأيه بجرأة، حتى انه يستهزأ من نواب بغداد الصامتين في المجلس (هو محسوب على نواب المنتفك)، فعندما يهجو رجلاً مغروراً جاهلاً يشبهه بنواب بغداد قائلاً:

وشـــــامخ الأنف ما ينفكّ مكتسباً
ثوب التكبّر في بحبوبة النادي
قد لازم الصمت عبئأً في مجالسه
كأنما هو من نــواب بـــــــغدادِ

كان شاعرنا الرصافي قد عركته الدنيا وعاركها،وقلبته وقلبها، وزاد على نضوجه شموخه النفسي، وثورته العارمة حتى بلغ قمة القمم، وذروة الجرأة في قصيدته التي تلاقفتها الأجيال، ورددتها الألسن من يومه الى يومنا، ونعتها بـ (حكومة الاغتراب):
أنا بالحكومة والسياسة أعرف
أألام في تفنيدها وأعنف
سأقول فيها ما أقول ولم أخف
من ان يقولوا شاعرٌ متطرف

ثم يمسك الرصافي بقلمه المعول، ليضرب هيكل الدولة المصطنع من قمة رأسه الى درك أساسه،ليجعله عصفا مأكولا، وهباءً منثورا، كأن لم يكن شيئاً مذكورا:

علم ٌودستورٌ ومجلس امــةٍ
كل عن المعنى الصحيح محرفّ
اسماء ليس لنا سوى الفاظها
امّا معانيها فليس تــــــــــــعرف
من يقرأ الدستور يعلم أنه
وفقا لصك الأنتداب مصنّف
من ينظر العلم المرفرف يلقـه
في عزّ غير بني البلاد يــرفرف

ولا تخفى استعارته (للعلم) ويعني به الملك، ليصب جحيمه عليه،،والملك يغض الطرف عنه، ولا يبالي منه حكمة وحنكة، بدليل الآبيات التي اعقبت البيت الاخير، اذ انه يواصل بلا هوادة تمزيق الصورة المزيفة بنظره للديمقراطية:

من بات مجلسنا يصدق أنه
لمراد غير الناخبين مؤلف
من بات مطرد الوزارة يلقها
بقيود أهل الاستشارة ترسف

ولا نستطيع ان نواصل معك اتمام القصيدة،ذ يدعو فيها للثورة،ويهدد بزحف الجيوش، ويوعد بطول الحساب، ونتف اللحى، إن كانت هنالك ثمّة لحى يحسب لها حساب،ونختمها بما ختمه:

إن لم نماحك بالسيوف خصومنا
فالمجد باكٍ،والعلى يتأفف

والحقيقة ان الرصافي قد مهد لهذه القصيدة بعدّة قصائد سبقتها، منها (كيف نحن في العراق)، يسخر فيها من الدولة والانكليز، ويشبه معاهدة (10 / 10 / 1922 م) بالقيد الذي يوضع في يد الاسير، وما الاسير الا شعب العراق!

أيكفينا من الدولات أنّــــــــــــا
تعلق في الديار لنا البنـــود
و إنّا بعد ذلك في أفتقــــــــارٍ ٍ
الى ما الاجنبيّ به يجــــود
وكم عند الحكومة من رجال
تراهم سادة، وهم العبـــيد
أما والله لو كنـــــــــا قروداً
لما رضيت قرابتنا القرودا!

ثم لماذا؟ هل تريد ان ازيدك من تصنيفات شاعرنا الجريء، أم أتوقف عن سرد قصة (غادة الانتداب)،أعتقد انك معي قراءة، ومع الرصافي شاعرية وتخيلاً، فمن تخيلاته العجيبة الغريبة، تشبيهه للحكومة بفتاة كخضراء الدمن، ظاهرها جميل، وباطنها خبيث، والعياذ بالله. ويواصل الرصافي الشامخ قذائفه بكل عنفوان وجرأة، بلسان ولا أسلط، وقساوة ولا أعنف،و بسخرية ولا أهزأ، وبأسلوب ولا أسهل، يحفظه القاصي والداني،و يفهمة العام والخاص، ويجعل لعنة الله على الظالمين، فلا داعي للتخيل والتبسيط فكل ما فيها صعب بسيط، سهل ممتنع، فهذه (الوزارة المذنبة):

اهل بغداد أفيقوا من كرى هذي الغرارة
ان ديك الدهر قد باض بـبـغــداد وزاره!
هي للجاهل عزّ، ولذي العلم حـقـــــاره
حبّبت للوطنــــي الـحـرّ ان يــهجـر داره
كم وزير ٍ هو كالوزر على ظهر الوزارة
ووزير ملحق كالذيل في عجز الحمــارة
أمع الذلة كبر ا، أم مع الجبن جســـــاره
كيف لا تخشون للاحرار في البطش مهارة

على ما يبدو لنا ان الملك اخذ الشاعر بحلم الداهية، وحقد البعير، فالسياسة فن الممكن، والشعر فن اللاممكن، الشاعر يطلب المثالية، والسياسي يتشبث بالواقعية، ولا نطيل، المهم، شاعرنا لم يسلم من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين على جرأته الغير معهودة، سواء في قصائده السياسية، او في ثورته الفكرية (فصارع خصوما ًأشّداء تألبوا عليه، وأثاروا الرأي العام مرات عديدة، وهم في كل مرة يثيرونه فيها، يضربون على وتر الدين، وهو وتر حساس جداً، يثور الناس أذا سمعوه)، حتى ان البعض أفتى بكفره، وخروجه عن الدين، ووقف معه في شدته الشيخ عبد الوهاب النائب، والشيخ مهدي الخالصي، لذلك عند وفاة الاخير في مشهد ودفنه هناك (12 رمضان 1343 هـ / 6 نيسان 1925 م)، رثاه بقصيدة رائعة فضح فيها الالاعيب التي أدّت الى ابعاد العلماء الاعلام عام (1923)، وهم الشيخ الخالصي، والسيد أبو الحسن الموسوي، والشيخ محمد حسين النائني، المهم ألقاها في الحفل التأبيني الذي أقامه نادي الاصلاح في بغداد:

أدهق الدهر بالمنية كأسه
من قديم ٍ، وطــاف يسقى أناســــــه
انا أبكي عليه من جهة العلـ
م، واغضي عن خوضه في السياسه
لا لأنّي أراه فيها ملومــــــاً
بل لأني أعيب فعــــــــــــل الساسه
ليس في هذه الهنات السياسيا
ت الا ّ ما ينجلي عن خساســــــــــه
قد أبت هذه السياســـة الا
أن تكون الغشاشــــــــة الدّساســـه

من هنا بدأ يدرك شاعرنا بوضوح ان اللعبة لم تكن سهلة قط، ولابد من دفع الثمن، والثمن باهض وباهض على حساب شرف سمعته، وحط ّ كبريائه، ولقمة خبزه، واذا زاد فهو كافر مرتد وهناك من يصفق،وهناك من يردد عن جهل عابر، أو علم مقصود، لذلك اخذ شاعرنا يتأرجح صعوداً وهبوطاً، يأخذه الجزر مرة، ويعيده المدّ اخرى، فوجدت بذور القنوط في نفسه الكبيرة مكمناً...

لنرجع الى سيرة حياته مرة ثانية، ونرى ما حلّ بشاعرنا، أذ تركناه في (أيلول 1923) موظفاً هامشياً في وزارة المعارف، وفي السنة نفسها سافر الى الأستانة على الايعود الى العراق يائساً مكسور الجناح، وبقى هناك سبعة أشهر ولم يقاوم، فعاد مضطراً الى العراق عن طريق بيروت 1923:

آب المسافر للديارٍ
على اضطرار في إيابه
لو كان يجنح للإياب
لما تعجل في ذهابه!!

وفي هذه السنة أصدر جريدته (الأمل) التي صدر العدد الاول منها في 1/ 10 /1923 ولم يصدر منها سوى ثمانية وستين عدداً، وتوقفت عن الصدور، وبقى مدة بغير عمل حكومي، وعندما ألف ياسين الهاشمي وزارنه سنة 1934،وكان الشيخ الشبيبي وزير معارفها، أعيد الرصافي الى الوظيفة، واصبح مفتشاً للغة العربية حتى عام 1927، ثم نقل الى تدريس اللغة العربية وآدابها بدار المعلمين، وفي سنة 1928 استقال ولم يعد الى التوظيف، ولكن لما تولى عبد المحسن السعدون رئاسته الثانية في (14 / 1 / 1928 م)،أستطاع ان يقنع الملك بترشيح الرصافي لمجلس النواب،وفي (19 / 5 / 1928) صار لأول مرة عضواً فيه،وبعد ان مرت عليه أيام عسيرة جداً،لا يجد فيها ما يلبسه الا العتيق البالي،فخاطب السعدون يشكي حاله قائلاً:

وليس العري من ثوب معيباً
لكاسي النفس من حلل الإباء
ومــــــا ضرّ المهند فقد جفن ٍ
اذا ما كان محمود المـــضاء
فأن لم تــــدرك الايام عريي
بثوب منك يــــاغمر الـــــرداء
لبست قرار بيتي في نهاري
ولم اخلعه الا في المســـــاء!

ومهما يكن من أمر، تعدّ الايام النيابية الاولى من أسعد أيامه، جددت لديه الطموح للمضي قدماً نحو كرسي الوزارة، ولكن يصح على طموحه المثل الشعبي المعروف (عرب وين، طنبوره وين)، كان شعر الرصافي لا يمكن له ان يسعى بصاحبه الى أعتاب الوزارة، فمن الحال المحال الجمع بين الماء والنار، والشيء ونقيضه،فلا يوجد أي انسجام بين رغبته وسلوكه (أقصد الشعري)، فما ان جاء المستر (كراين)،وأقيمت حفلة كبرى لتكريمه، ودعي الرصافي اليها، وهو نائب حتى نسى كل آآماله، فوقف في الحفل، وألقى قصيدة رائعة تفضح الحكم القائم وتعريته:

جئت يامستر كراين
فانظر الشرق وعاين
فـهــو للغــرب أسيرٌ
أسر مديون ٍ لدائـــــن
غاصباً منه المواني
شاحناً فيه السفائــــن
حافراً فيه المــعادن
نابشاً فيه الدفائــــــن!

وما ان نشرت معاهدة (19 / 7 / 1930 م) حتى انقض عليها كالمارد الجبار دون ا أي حساب للعواقب، ساحقاً بقدميه العاريتين كل طموحاته الوظيفية وآماله المستقبلية:

كتبوا لنا تلك العهود وأنما
ضعوا بها قفلاً على الأغلال
شلّّت أكف موقعيها أيـّهـم
حلّت عليهم لعنة الأجيـــــــال

فتحت له أبواب الانتخابات النيابية لمجالس أربعة اخرى، في (1/11/1930 عن لواء العمارة)، و (8/3/1932 عن لواء بغداد)، و (8/8/1935 عن لواء الدليم)، وكذلك في (22/12/1937)، وللإنصاف والحق مرة ثانية،إن الشاعر بلغ أعلى الرتب السياسية والاجتماعية في عهدي الملكين فيصل الأول، وابنه غازي (2)،لذلك عندما توفي الملك فيصل الأول (8/ أيلول /1933)، رثاه في قصيدة،كأنها وثيقة اعتراف بحنكة الفيصل وشجاعته وسداد رأيه، إقرأمعي بعض ما قال فيها:

قضى بدر المكــــارم والمعالــــي
وحيدرة المعارك والمـغازي
بنى مجــــداًعراقيـــــــــاًجديـــــداً
فأسسه عــــلى المجد الحجازي
وسار من السياسة في طريـــــق
بحسن الرأي معلمـــــة الـطراز
فما ترك الجهود بلا نجـــــــــــاح
ولا فرصا تمر بلا انتــــــهاز
اذا اعتزم الأمور مضى وأمضى
وإن سل المهند قــــال: مـــاز!

ومهما يكن،، وكانت في أوائل عام 1933 ضاقت به الأمور المالية، وضجر من صخب بغداد، وألاعيب ساستها، فهاجر الى الفلوجة بدعوة من (آل العريم)، وعاش مكرماً معززاً بينهم، وبقى في الفلوجة حتى (أيار 1941)،عندما دخل الجيش الانكليزي الى المدينة الآمنة، و بعد فشل ثورة رشيد عالي الكيلاني حيث تركها الى بغداد عائداً، وكانت حينذاك تحت سيطرة الوصي عبد الاله ومن خلفه نوري السعيد، فنزل ضيفاً في بيت صديقه السيد (خيري الهنداوي)، ومعه خادمه (عبد) حتى عثر على دار بجوار بيت صديقه، ثم انتقل بعد ذلك الى دار في محلة (السفينة) بالأعظمية، وهي الدار التي توفي فيها، وكان الرجل في عامه السابع والستين، عندما نزل بغداد (1941)،ولكن لم تهده السنوات العجاف، ولا صراعات الأيام ودسائسها، بل ظلّ شامخاً بقامته العملاقة، ولم تجرأ سنواته السبعون على النيل من هيبته ووقاره ورزانته، وفي خلال هذه الفترة الزمنية هجا نوري السعيد هجاءً مقذعاً، وخصوصاً بعد اخفاق ثورة الكيلاني:

نوحي على المجد التليد
يانفس والحكم الرشيد
نوحي على أبطالـــــــه
وكماته الغرّ الاســـــود
عصفت بهم ريح الطغاة
وهدّهم حكـــــم السعيد

وفتح الرصافي دكاناً صغيراً قرب بيته لبيع السجائر فكسدت سوقها، وظل الرصافي يعيش مرارة العوز، و عذاب الفاقة، حتى باع الفرش والسجاد، ومقتيات بيته المتواضع ليستعين بثمنها على العيش، حتى رق ّ عليه أحد المعجبين بشعره ويدعى (مظهر الشاوي) فأجرى عليه راتباً، وسبب مأساته، ان صح التعبير – خلاصتها:

عاهدت نفسي والأيام شاهدةٌ
أن لا أقــرّ على جور السلاطينِ
ولا أصادقُ كذ ّّّاباً ولو ملكاً
ولا أخالطُ ُ أخوانَ الشياطين

فما كان الرجل قادراَ على كتم صوته، أو يهادن الآخرين، وللقول ثمن، وللجرأة ضريبة، وللخصومة أعداء، وأرى أنّ الدهر وضعه في ظروف أرحم بكثير مما سيأتى بها له ولغيره لو عاصروا سلاطين مَنْ جاء مِنْ بعد وبعد - يا بئس ما رأينا -!!

و إليه نعود، والعود أحمد، ففي سنة 1944 وهو في عامه السبعين، يصارع الشيخوخة والأمراض والعلل، أثيرت حوله ضجّة كبيرة تتهمه بالكفر والالحاد، اثر صدور كتابه (رسالة التعليقات)، وتدخلت مديرية الاوقاف العامة لحسم الامر، فطلبت من العلامة (فهمي المدرس) أبداء الرأي في كتابه، وبعد دراسته قال: (وبالاجمال لم يظهر لنا كتاب تعليقات الرصافي ما يمس حرمة الدين، بل ظهر انه قوي الايمان بالله ورسوله، راسخ الاعتقاد بما جاء القرأن، ومن كفرّ مسلماً فقد كفر) وبالمناسبة للرصافي سبعة عشر مؤلفاً تركها للأجيال، ثم لبى نداء ربه صباح الجمعة (16/3/1945) واحسبه كان يردد:

ويل ٌ لبغداد مما سوف تـــذكره
عنّي وعنــها الليــالي في الدواوين
لقد سقيت بفيض الدمع أربعــها
على جوانــب واد ٍ ليــــس يسقيني
ماكنت أحسب انّي مذ بكيت بها
قومي، بكيت على من سوف يبكيني

رحم الله الرصافي، ورحم تلك الأيام،بكينا عليه، فمن الذي سيبكي علينا يا ترى؟!!!

3 - الشبيبي الكبيرالشيخ محمد جواد (1864 - 1944م)) كتبت عنه ثلاث حلقات، طرائفه ومواقفه:

من قبره يناجينا ويرسم صورة لعصرنا:

وانتقل بك الان الى هذه المقطوعات والنتف الاخرى، فمن وكان الشبيبي يسجل لنا فيها احداث هذا العصر، وليس احداث عصره،فمن قرصاته النقدية لمواقع المسؤولية،ومن سخرياته اللاذعة -ونحن نسخر معه -،وكما تعلم الناس اجناس،والنواب كما لاتعلم اصناف..!ومن اصنافهم من ليس له أذن تسمع، ولا فم يردع، ومعنى هذا القول،ايها المسؤولون ليشبع من يشبع،ولا حاجة لكم بالبرقع، فليس هنالك من يد تصفع،أقرأ وتمتع:

ونائب يملآ الكرسي قلت لـــــه
ماذا السكوت؟ تكلّم أيّها الصنمُ
الحامل الرأس لم نسمع له اذن
والصاقل الوجه ما في صفحتيه فم

وله موقفه مع الريف المظلوم،والوطن المنهوب، يعلن نقمته،فتعلو صرخته،ولكن هل من مجيب لسؤال نجيب؟:

الله بالوطن الذي فيه الذبــــاب علا وطنطنْ
يا ماضغين خراجه من مغرس زاك ومعدنْ
أتلفتموه،وقلتموا منا الدمار،وانت تضمن
فسلوا البواخرهل غدت من غيرهذا النهب تشحن
وسلوا القوافل ما على تلك الظهور،وما تبطن
وسلوا المناصب هل بها من أهلها أحد تعنون

وشيخنا يرى ان القحط ليس بقحط الارض،وقلة الخصب،وانما بقحط الرجال،وعدم شغل

المنصب الخالي،وهذا هو حال عراقنا الحبيب اليوم
أجيالنا الماضون عزّ خضوعهم وسكوتهم لمصارع الاجيال
درجوا،وأبقوا بعدهم أفعالهم عبروا لاسمـــــــاء بلا أفعــال
تركوا البلاد،وخصبها مستوعب م،،،،ا بين أجواز الى أجيال
والخصب ليس بمسمن سكانها ان كان محفوفا بقحط رجــال
وا حسرتا خلت البلاد،فهل لها من شاغل هذا الفراغ الخالي

ولا ريب ان الشبيبي،لابد له ان يتطرق الى الصراع الازلي بين القوي والضعيف في وطن لا يستند على قانون نافذ،ولا دستور ثابت،فالى الله المشتكى
كان الضعيف اذا مد القوي يدا
لظلمةٍ ردها مدفوعة بيد
واليوم ظل ضعيف القوم مضطهدا
وارحمتاه لمظلوم ومضطهد
كم شجة ارضخته وهو معتدلٌ
كما تعاقب طراق على وتد
يبيت مضطربا في موطنٍ قلقٍ
كّـــــــأنّه زئبق في كف مرتعد

نعم كم من طارق تعاقب على طرق وتدنا الصابر صبر يعقوب وما زلنا نردد، صبرا جميلا. وهل هنالك موطن قلق كعراقنا الحبيب، انه زئبق في يد مرتعش! ويقول شيخنا الجليل::

واضيعة الامال بعد مناصبٍ
حفظت مقاعدها لغيرة كفاة
من كل كأسٍ يستجد لنفسه
حللا ولكن من جلود عراة
يامفقر العمال ان بك غيرهم
سببا لاثراء البلاد فهات

وهل هناك اكثر بلاغة من منصف للعمال من البيت الاخير فهات! ولك هذه الابيات الاخيرة من جارة القصر وجارة الكوخ! فيا لسعادة الاخيرة ويالبؤس الاولى:

اجارة هذا القصر نوحك مزعجٌ
لآنسة فيه اكبــت على العزف
ادرت الرحى في الليل يقلق صوتها
وجارتك الحسناء تنقر بالدف
وجاورت هاتيك القصور شواهقا
بدار بلا بهو وبيت بلا سقف

صور من الدنيا الدنية،الصراع بين الاضداد،والتفاوت ما بين الناس،صولة القوي على صراخ الضعيف،واحتجاج الفقير على ثراء الغني،نعم الدنيا بكل متناقضاتها ما انفكت تشغل بال المصلحين،وتثير مشاعر المحتجين،لهم أن يناضلوا لما يعشقون،اويقفوا كما يشتهون،فالحياة لا تبالي بهذا،ولا بذاك،لها موقفها...وكفى...!!

4 - الجواهري محمد مهدي (1899م - 1997م)، كتبت عنه خمس حلقات مع قصيدتي في رثائه، تحت عنوان: على أعتاب ذكرياتس:

الجواهري عاش ثائراً كالبركان في معظم حياته الشعرية،وعلى ذلك النهج تستمر حممه لاهبة على عصبة الحاكمين الذين حاولوا مساومته في أوقات سابقة على عضوية في مجلس النواب، أو الاستيزار... وحين فشلوا في مساومته والنيل من عزيمته، راحوا ينفثون غضبهم، وينفذون ما يستطيعونه من أذى ومحاصرة وتجويع له، ولعائلته. وها هو يصرّح بصرخة مدويّية دون حدود بمواقفه، كاشفاً المزيد من الحقائق، متحدياً ومذكراً بنفسه، لمن قد لا يعرف، هاك ما قذفته الأيام على لسانه بمناسبة تكريم عميد كلية الطب الدكتور هاشم الوتري سنة 1949 م بحضور الوصي على حكم العراق عبد الإله شخصياً، أيّ بعد عام ونيف فقط على وثبة كانون الثاني العراقية المجيدة عام 1948، نعم يتفجر الجواهري برائعة وطنية جديدة، هزت مختلف قطاعات الجماهير الشعبية من جهة، ونخب الحاكمين والسياسيين من جهة أخرى، على حد السواء...:

لقد ابتُلُوا بي صاعقاً مُتَلهّباً
وقد ابتُليتُ بهمْ جَهاماً كاذبا
حشَدوا عليَّ المُغريات ِ مُسيلة ً
صغراً لُعابُ الأرذلينَ رغائبا
وبأنْ أروحَ ضُحىً"وزيراً"مثلَما
أصبحتُ عن أمْربليلٍ"نائبا"
ظنّاً بأنَّ يدي تُمَدُّ لتشتري
سقط َ المتَّاع، وأنْ أبيعَ مواهبا
وبأنْ يروحَ وراءَ ظهريَ موطنٌ
أسمنتُ نحراً عندَه وترائبا
حتى إذا عجَموا قناة ً مَرَّةً
شوكاءَ، تُدمي من أتاها حاطبا
واستيأسوا منها ومن مُتخشِّب ٍ
عَنَتاً كصلِّ الرّمل ِيَنْفُخ غاضبا
حَرٍّ يُحاسِبُ نفسَهُ أنْ تَرْعَوي
حتَّى يروحَ لِمنْ سواه مُحاسِبا
ويحوزَ مدحَ الأكثرينَ مَفاخراً
ويحوزَ ذَمَّ الأكثرينَ مثـــــالبا
حتى إذا الجُنديُّ شدَّ حِزامَهُ
ورأى الفضيلة َ أنْ يظَلَّ مُحاربا
حَشدوا عليه الجُوعَ يَنْشِبُ نابَهُ
في جلد "أرقط َ"لا يُبالي ناشبا
وعلى شُبولِ اللَّيثِ خرقُ نعالِهم
أزكى من المُترهِّلينَ حقائبا

وكما بذكرالشاعر نفسه في بعض حديث ذي صلة: "... كان الجو السياسي محتدماً، وكنت أشعر أن الواجب يقضي بأن أؤكد موقفي"، ومع موقفه الذي خطّه شعوره الواعي واللاواعي أبان لحظات الإبداع الإنسانية، رسم لنا ما يجب أن يكون عليه نائب الشعب لخدمة الجمهور، وكشفَ المستور عن المساعي المحمومة لتنصيب المأجور كنائب للشغب، والأمر لمَن غلب، وإن كان مِن لُعب....!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى