السبت ٦ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم بوعزة التايك

امرأة من الزمن الضائع

امرأة لم تذق طعم الراحة في حياتها. خدمت الناس وهي صغيرة وخدمتهم وهي مراهقة وكهلة. منذ خروجها من رحم أمها وهي لا تفتأ تخدم الآخرين من دون مقابل. تخجل من أن تظهر تعبها أو مرضها. الكل نائم وهي تفكر في ما ستقوم به في الغد. الكل يأكل وهي تخجل من مد يدها إلى الطعام خوفا من أن تأكل لقمة أحد. الكل يشرب وهي لا تقرب لا الماء ولا المشروبات الغازية لأنها لا تنهل إلا من عرق جبينها.

قضت سنوات مع جدتها لأمها التي توفيت فور ولادتها. والدها مات وهي في الرحم. ماتت جدتها فتكفلت بها إحدى خالاتها. ماتت خالتها فتكفل بها أخوها الوحيد وآواها في البيت تخدمه وتخدم أطفاله. مات أخوها تاركا وراءه أرملتين وتسعة أبناء فشمرت عن سواعد صبرها وجهادها وقدرها وخرجت إلى أدغال الحياة لمساعدة الأرملتين والأطفال التسعة. ولما بلغت الأربعين تزوجت والدي وهو في الستين من عمره. فكانت له مدة ثلاثين سنة نعم الزوجة ونعم الخادم ونعم الملاك إلى أن توفي رحمه الله سنة 2005.

كل هذه المدة كان لها برنامج واحد. تستيقظ لصلاة الفجر، تذكر الله ثم تستعد لخدمة والدي. ولن أنسى ما كانت تقول له بعد أن يكون قد تعشى وتناول دواءه: سيدي الحاج، تعشيت؟ فيجيبها: نعم. أخذت دواءك؟ نعم. حينها تحييه تحية عسكرية قائلة: الآن انتهت مهمتي. لم يبق لي إلا حق الله. فتغادر إلى غرفة النوم حيث تصلي صلاة العشاء وأربعة نوافل والشفع والوتر ثم تعود صوب والدي تجلس بجانبه لمشاهدة الأخبار وشتم الإسرائيليين والدعاء عليهم بالفناء.

كانت دائما تتوضأ قبل النوم. سألتها ذات يوم لماذا تتوضأ؟ فأجابتني: لكي أكون طاهرة إذا داهمني الموت وأنا في عز النوم والليل!

هذه السيدة النبيلة التي لم أر في حياتي أنبل وأنظف منها أصيبت بمرض "الزهايمر" بعد وفاة والدي.

لم أتركها والله شاهد علي ولو دقيقة لمصيرها. عملت كل ما في وسعي لأكون في مستوى ما قامت به مع الآخرين ومع والدي وضيوفه الكثر. فعل فيها المرض فعلته فلم تعد تصلي وحتى حاجتها أصبحت تقضيها كيفما اتفق.

في بعض المرات لا تتذكر حتى والدي. أصبحت غائبة كليا. لكن الغريب في الأمر أنها لم تنس ذكر الله. تبدأ الأكل باسم الله وتنهيه بالحمد لله وحينما تلج فراشها تشهد أن لا إله إلا الله. وكلما وضعت الطعام أمامها لا تقربه إلا بعد أن تطلب مني مشاركتها. فجأة غابت يوم 6 يناير 2009.

أرادت ابنة أختي ذات يوم أن تخفف عني فطلبت مني السماح لها بالمكوث عندها بضعة أيام. فقبلت على مضض. قضت عندها ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع غادرت ابنة أختي البيت للعمل تاركة أرملة والدي مع زوجها موصية إياه بأخذ الحذر وألا ينسى إقفال الباب عند خروجه. لكنه نسي ولم يقفلها. ولما عادت ابنة أختي من العمل وجدت الباب مفتوحة وصوت يردد: لم أعد أطيق العيش في دنياكم وها أنا ذاهبة إلى موعدي مع القدر.

صدمة ابنة أختي كانت قوية. أما أنا فقضيت يومين وأنا أبكي وأتحدث إليها عن طريق السحب.أين أنت الآن أيتها القديسة؟ أ بين أنياب كلاب الشوارع أم وسط مزابل المدينة ؟ أ تتسولين الرحمة من قلوب الحجر أنت التي رحمت اليتامى والفقراء؟ أ تعيشين تحت القناطر أم بين المقابر؟ أ تتوسدين رصيف القسوة أم صدر الكلب المسعور؟ أين أنت يا " منانة " العظيمة يا منانة المؤمنة التي لم يمنعها " الزهايمر " من ذكر الله؟

وبعد ثمان وأربعين ساعة عثرنا عليها بجمعية خيرية. وجدتها دورية للشرطة ذات ليلة ممطرة أمام مقر البرلمان في الساعة الحادية عشرة مساء نقية طاهرة لم يمسسها لا متسكع ولا مجرم خطير ولا لص تائه ولا كلب جائع.

بعد هذه المأساة، فكرنا في إلحاقها بإحدى الخيريات على أن أتكفل بالدواء مهما غلا ثمنه. قضينا شهرين في المحاولة. ولما فشلت كل محاولاتنا سألت أحد أطر الجمعية عن السبب. فأجابني بطريقة لا تليق بفاعل خير.

لن أنقل لكم جوابه. أنقل لكم فقط ما قلته أنا."أتحداك أن تحب أمك كما أحب أنا أرملة والدي منانة شفاها الله تعالى".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى