الأحد ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٢١

انسحابُ الأيام فكرة مخيفة

خالد بريه

ينتابني شعورٌ بالرُّعب، ما إن ينتهي عام، ويدخل آخر، أو تُطوى صفحة من عمري، يأتي الرُّعبُ هنا بفعلِ الشعور باللاشيء، والسير واقفًا، وتسرب الأيام، ومضيها الخاطف، وتلاشي الأماني والأحلام..!

"البعد والقرب"، نطلبهما، نخافُ منهما، ثم نشتهيهما. نأملُ في الرحيل، ثمَّ في المساء الأخير نبكي بصمتٍ مكان الخطواتِ الأولى.. نرجو المكوثَ في مكانٍ واحد، ثم نتمنى التطواف بعيدًا، نبكي بُعدَ الغائب، ثم نتململُ من ثقلِ القريب..!

لا نعرفُ ما نريد، يؤذينا البُعد والقرب، ويرهقنا البقاء والرحيل، نبكي على الأماني المتناقضة، وفي غمرةِ كل ذلك؛ يصفعنا رحيل العام، لتتسعَ الدائرة، أي دائرة الرعب التي تتجدد كلما أفلَ عام وبزغَ آخر!

إنَّ حياتنا تعاني من "عنف المتناقضات"، تتأرجحُ بين أقطابٍ عديدة، أقطاب متعاكسة بتعبير "هرمان هيسه"، إذ نتوق إلى الشيء وإلى نقيضه في الآنِ ذاته!

في حالة كهذه، يصبحُ مطمحي أن أملكَ القدرة على تحمل كل هذا "القلق"، القلق من القادم، ثم القلق في القادم عند قدومه، ثم افتعال قادم آخر يجترُّ كومة من المصاعب لا بدَّ لها من قلق!

فكرةُ انسحابِ الأيام المتسارع من رصيدِ العمر؛ فكرةٌ مخيفة! وقائعُ متعددة كانت قبلَ فتراتٍ خلت؛ يتضحُ لنا فجأة؛ أنَّ العمرَ الذي يفصلُ بيننا وبينها سنوات تصلُ إلى "عقدٍ" من الزَّمن! ونحنُ لا زلنا نترنَّمُ بها وكأنها بالأمسِ دارتْ وقائعها!

فجأة؛ تكتشفُ أنَّكَ تقفُ على أبوابِ العقد الثالث/الرابع، ثم تلتفتُ إلى خانةِ الإنجاز؛ فتجدها فارغة المعنى والمضمون، لم نكن نحسبُ حسابَ الانسلال الخفيِّ للأيام، وهنا تُسكبُ الأمنيات المنتظرة في منتصفِ الطريق! كل شيءٍ يأخذُ جزءًا من أعمارنا؛ الانتظار، الأحلام، الأمنيات، المستقبل، الذكرىٰ، وما بقيَ من العُمُر نتقوَّى به للصبرِ على بلوغِ الأشواقِ الممتنعة!

كم من فكرةٍ طرأتْ في الذهن، ثم تُركت، لسببٍ أو لآخر، وبعدَ مضيِّ العمر مسرعًا خلفَ قطارِ السَّائرين؛ ندمنا على تلكَ اللحظات التي أوقفنا فيها عجلةَ البدء، وكم هو كبير ذلكَ النَّدم الذي لا يبرحُ يتركنا، حتى يهوي على رؤوسنا مرةً أخرى!

وما رأيتُ شيئًا مؤلمًا أندمُ عليه؛ كـ ندمي على تركِ شيءٍ بدأتُ فيه ثمَّ انقطعتُ عنه لسببٍ أو لآخر.. وبقدرِ الخياراتِ المتاحة للاختيار؛ بقدرِ النَّدم على تضييعِ فرصةٍ من فرصِ العمر.. كانَ بإمكاني أن أحقِّقَ فيها شيئًا تمنيته، ثم تركته لظرفٍ عابرٍ أو لهمةٍ فاترةٍ أو لتسويفٍ بغيض! و"أنا رجلُ المشاريع نصف المنجزة، ما زلتُ أعيدُ التفكير فيما سبقَ لي وعرفته، أحفرُ في الذَّاكرة كـعمَّال مناجم الفحم، وأبدو غير متأكد من القممِ الجديدة!" بتعبيرِ البرغوثي في الفراغ الذي رأى التفاصيل.

شطرٌ من العمر ينقضي في دكة الانتظار .. بين الأمنيات والأحلام, ومما بدا لي من تجاربِ الأيام, أن دكَّة الانتظار ضَرْبٌ من ضروبِ العذابِ، والاشتياق، والاندهاش، ولهذا، نتائجها تصيبكَ أحياناً بـ شظايا في الروح، وجروحٍ غائرةٍ في القلبِ المتلهِّف، وإن لم تكنْ قوياً بحجمِ الشيءِ المنتظَر؛ كانت سبباً في تيهٍ طويل، وإحباطٍ مُقعِد، وكره للأمنياتِ المستعصمةِ بالبعدِ والغياب!

أن تتمنى شيئاً لا يعني أن يتحقق. أن تحلم، ثم تتبعَ الحلم بإرادةٍ وقوةٍ لا حدَّ لهما؛ يعني أنكَ ستصل وتودعُ دكةَ الانتظار، ويتحققُ ما كنتَ تحلمُ به ذات ربيع. فالأمنيات والأماني تتشكلُ في يدِ الغيب، تقفُ معها عندَ خطٍ معين، تستنفذُ فيه كل الأسباب.. ثم تنتظرُ الهبات التي تحملها رياحُ البشرى في تحقيقِ الأمنيات المنتظَرة.. بينما الحُلم، يتشكَّلُ أمامَ ناظريك، تسقيه بماءِ المثابرةِ والجهاد، تتعهده ما بينَ حينٍ وآخر.. لأنه ببساطةٍ لا يؤمنُ بالانتظاراتِ المدهشة التي قد تأتي وقد لا تأتي.. إيمانه الوحيد، بـ العمل الجاد لبلوغِ المراد، فإذا نالَ المراد وضعَ يده على شيءٍ من الحلم الذي عملَ به وله!

"عندما يضيقُ الإنسان ذرعًا بالظروفِ المحيطة به، ثم يعجزُ عن تغييرها على النحو الذي يرتضيه، فإنه يسترسلُ في أحلامه؛ ليظفرَ في دنيا الخيال بما استحال عليه أن يظفرَ به في عالمِ الواقع!". وما يزالُ المرء في طريقِ العظماءِ، ما بقيَ سائرًا في طريقِ تحقيقِ الحلم المنشود. مجاهدًا, صابرًا, محاربًا في كل تقلبات الأيام التي تحول بينه وبين ملامسةِ الأحلام!

في كل مرةٍ, أختمُ عامي بخيباتٍ كبيرة تلقيتُها، أوجعتني، فنحيتُها، ولا زلتُ أمضي، وصراعُ الخيباتِ والانبعاث يحتدمُ في داخلي، و هأنذا على شَرَفٍ من الأرضِ في طريقٍ لاحِب، وثمة بارقةٌ تلوحُ من بعيد.. ولا زلتُ أتشبَّثُ بأملٍ يأتيني من هنا وهناك، يطفئُ لهيبَ العمرِ المنصرم.

خالد بريه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى