الاثنين ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
قصة قصيرة
بقلم بسام الطعان

انفجار

عند أصيل سماؤه مليئة بسحب رمادية موحية بالمطر، وعلى غير توقع، لا، على توقع، بدأ نبضي يجري كأمواج بحر، انقبض صدري، شعرت بإحساس غريب لم أشعر به من قبل، أردت أن أستنشق الهواء، أن أدخل كمية كبيرة منه إلى داخل قفصي الصدري، علني أتغلب على الانقباض، لكن الهواء أبى أن يدخل إلى رئتي.

بقيت متسمراً في مكاني على حافة الرصيف، أنظر بحسرة وبنظرات ثابتة إلى الموكب الذي يقترب مني رويداً رويداً، كنت أسمع الزغاريد فتبدو لي وكأنها نحيب على ميت فقد حياته وهو في بداية شبابه، وكنت أتألم، انكمش، أصغر، أذوب بدموع غير مرئية، وأغرق في دوّامة جنائزية.
إنه موكب موشى برموش الضوء، لكنه بائس ومضحك في آن واحد، ثلاث أو أربع، وربما خمس سيارات لا أعرف بالضبط، إن حبيبتي التي رفض القدر أن تكون لي، تسـتحق أن يكون موكب عرسها مؤلفاً من آلاف السيارات وليس المئات.

ملأت الرصـيف بجداول من نزيف الارتباك، تاهت أفكاري في رؤى مجهولة، أرادت صـرخة من صرخـاتي الحبيســة أن تخرج إلى الفضاء الحزين، وأراد فمي أن يتمرد، لكني حبست جياد اللســان في خلجات الرعشة، فتحت نوافذ عينيّ، صامتاً بقيت، تمثالاً لحمياً، منهزماً، منكسراً، ولا يرى غير أشباح متحفزة وتنتظر لحظة الانقضاض.

سـمعت هاتفاً من داخلي يقول:(هي إلى النعيم وأنت إلى الجحيم، هي في الهوى وأنت في الهواء). فلم أرد عليه، بقيت عيناي مصوبتين نحو الموكب القاتل، وبغتة تمددت على أريكة الماضي القريب. قالت لي ذات مساء ونحن نأكل الكرز الوردي تحت ضوء القمر:
 لن أغفر لك لو فكرت بغيري.
قدمت لها قلبي وأفرغت في روحها روحي:
 أنتِ شجرتي المثمرة وأنا ربيعك الدائم.
كانت لي الدنيا وامتدادها، الحياة ونضرتها، وبهجتها أيضا، والآن ماذا أقول؟ صارت هادمة لذاتي بعدما أدخلت في قلبي حسرة لن تزول، فهل أغفر لها أم أنتقم منها؟

هكذا حظي في الحياة، كل ما أتمناه لا يتحقق. يبدو أنه لم يعد لي مكان في هذه الدنيا، أليس مؤلماً هذا الذي يجري؟ صحيح أن القدر عاندني وحاربني، لكنني بقيت وفياً لها ولم أتزوج، ولم أفكر بغيرها على الرغم من محاولات أمي الكثيرة، فهي كانت في كل يوم، تأتي بصورة فتاة، تضعها أمام عينيّ وتقول: ما رأيك بهذه؟ إنها ابنة... ثم تتحدث لي عن جمالها وخصالها وأصالة وعراقة عائلتها، أما هي، حبيبتي، فقد لفت من حولي سياجاً من الغم وتركت لي عناقيد لها طعم الموت.

لمن أفصح عن خراب الروح؟ للعاشقين أم للظالمين؟ أم لك أيها القدر؟ كم أنت ظالم وجاهل، ولا تعرف أن الذي يحب بصدق يفعل المستحيل من أجل من يحب، وأنا فعلت، كافحت، حاربت، تعذبت وعذبت، لكنك لم ترحمني، وحولتني إلى ألعوبة وضحية.

صار الموكب على بعد مسافة قريبة مني، وأنا أنصت للبكاء المخبأ تحـت جلدي، وفجأة اندفعت زفرات منكسرة، وعسكر الارتجاف في جسدي، اقترب أكثر، فبدأ فمي يغمغم كنهر جريح، ثبتُ كل نظراتي على سـيارتها، فكدت أتهاوى، رأيت منظراً مؤلماً، حمامة بيضاء ليس لجمالها وروعتها مثيل في العالم كله، تتربع على المقعد الخلفي، وشبح يرتدي بذلة سوداء، وربطة عنق قبيحة، ينظر إليها ويكاد يحضنها، حاولت أن أهجم عليه بكل قهري، لكن الآخر الذي يقبع في داخلي أعادني إلى صوابي، هدهدني، مسح دموعـي المدرارة، وحاول أن يخرجني من انفعالاتي ومن همي الثقيل، ألقيت به على الإسفلت ولم أستمع إلى أنينه، ومع جنون انفعالي، شعرت بدوّار مصحوب بخفقات عنيفة، دوّار كاد يفتك بي، اختلطت الصور أمام عينيّ، ولم أعد أرى سوى ضباب قاتم، أسندت رأسي إلى جذع فكرة خطرت لي، ولكن لا أدري لماذا لم أنفذها.

عزف الموكب موسيقاه الجنائزية، فانتبهت إلى نفسي، وفي لحظة خاطفة، ومــــع مائة دمعة، وألف آهة، هرولت دون مكابح باتجاه سـيارتها وانفجرت، انفجار تناثر فوق الإسـفلت والسيارات، وتسرب إلى الشـوارع والحارات والأزقة معلناً احتجاجه على الظلم الذي لحق بي، ومن بين شظايا الانفجار، يممت وجهي نحوها، وعبر نـظرة سريعة رأيتها تنظر اليّ بانكسار، ورأيت دمعتين صافيتين تسيران ببطء على خديها القطنيين، ولكن يا للغرابة والدهشة، مر الموكب بكل ضجيجه ولم يكترث بي وبانفجاري، سار وهو يعلن انتصاره وكأن شيئاً لم يكن، وظل دمي يركض خلفه ويركض.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى