الاثنين ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٦
" الكرنفالات الفكرية "
بقلم مروة كريديه

بين نخبوية «المثقف» وتوصياته «المقدس»

لعل إحدى أهم مشاكل المثقف اليوم هي علائقية، وعلاقته بالمجتمع بالدرجة الأولى

ينهال علينا مثقفي اليوم وأنصاف المثقفين وغير هم، بوابل من المقالات والكتب والتحليلات الفكرية واللافكرية، حتى أمست عروضهم الكلامية اليومية، شأنها شأن الحالة الفنية وحال «الفيديو كليب» ذلك أن الفن هو احد مفردات الثقافة، ولا يمكن أن ننعت الفن «بالهابط» ونقدس المثقف «بالراقي» ونهلل للعالِم بـ«الفاضل» فالبنية الثقافية متكاملة، والفن وغيره من الممارسات المجتمعية, تدخل ضمن البُنى الانتربولوجية لمجتمع الكائن البشري شئنا أم أبينا، وتعكس صورته والمخيل المجتمعي الذي يحكمه.

ويدخل علينا السادة «المفكرون المحترمون» إلى الكرنفالات الثقافية التي اتفقوا أن يسموها «مؤتمرات»، بأوراق بحثية يمطروننا بها، وبسيل عارم من المفاهيم المتنافرة والمتناقضة والمتناحرة والمُخَلّطة والخليطة والمهجنة والمدجّنة والمولّدة (ولا عيب في ذلك)، هذا عَدا الُمتَرجم والمنسوخ والمَسلوخ والمسروق، شأن هذه السلع الفكريّة شأن بقية السلع التجارية وغير التجارية التي أغرقت مستهلكي هذا العصر بكثرتها كمًّا وكيفا ومضمونا وأسلوبا.

ونخرج من هذه «المؤتمرات العظيمة» كالسكارى الخارجين من «نادي ليلي» عند انبلاج الفجر لا نعي شيئا، مما طُرح وانْطرح، ويعقب هذه المؤتمرات «الفارهة» التي غالبا ما تنعقد في فنادق «خمسة نجوم» أو أكثر، وترصد لها ميزانيات ضخمة، كونها تعالج القضايا «الساخنة» و«الباردة» و«الفاترة»، ويشارك بها «رموز الثقافة» من أهل الفكر العظام...

ويعقب هذه «الاحتفالات الفكرية» والعروض «المؤدلجة»، ما يعرف بـ«التوصيات» التي تقدم للحضور الكريم على أنها نصوص «مقدسة»، هي «الحلول» الناجحة والناجعة لأزماتنا الفكرية، وإنقاذ فريد من نوعه لثقافة البشرية جمعاء.
عادة ما تدخل هذه التوصيات الكريمة «المباركة» أدراج المكاتب في الوزارات الفخمة وتؤرشف في مكانز الأنظمة الالكترونية «المتطورة» غير انه و«الحمد لله القدير» لا ترى النور في معظم الأحيان على أرض الواقع.

يرافق كل هذه الوقائع «ضجة إعلامية» صاخبة ناحبة، فتنعجق الشاشات، وتحشر المقالات حشرا وتكثر «المقبالات » واللقاءات الجانبية التي تشبه «الرقص الثنائي» على قرع الطبول.

ويجد الفرد نفسه في سوق فيه من كل ما هبَّ ودبَّ وعَرج، وكُلٌّ يُسوّق لفكرته وأفكاره عبر وسائل الاتصال والإعلام المتاحة والمباحة...

والحدث الذي تَشهده الإنسانية، من تحولاتٍ سريعةٍ، والإيقاع المتسارع للأحداث دفع ببعض المثقفين الى اللحاق بسرعة بالسُوق لترويج مادتهم الفكريّة، فباتوا يَلهثون أمام هذه المتغيرات محاولين تقديم «المنتج الفكري الأكثر حداثة وتطورا» والأكثر توافقًا مع احتياجات السوق الفكرية العالمية...

هذا واقع وليس عيباً...فالمثقف كغيره من أصحاب المهن وإن اختلف «المنتج»، فالمثقف يقدم منتج «فكري» والميكانيكي يقدم منتج «آلي»... وهكذا... لذلك فالمثقف قد «يتاجر» وقد «يسوّق» وقد «يعلن» عن منتجه الفكري... وقد يجد لذلك «الدعاة» و«الرعاة»...

وطبقة المثقفين هي شريحة كبقية الشرائح المجتمعية الأخرى منها «الجيد» ومنها «السيئ» منها «الصالح» ومنها «الطالح» منها «المرتشي» ومنها «المسّوق»، منهم أصحاب «مواقع » ومنهم أصحاب «منافع»، منهم «المحترف» ومنهم «المتطفل» ومنهم «الهاوي»...

لذلك فهو قطاع إنتاجي كبقية القطاعات, ليس مثاليّاً أو فاضلا بل هو بؤرة صراعات وساحة لصراع السلطات بعضها دامي وان كانت السلع المتنازع عليها سلعًا فكرية أو رمزية.

كل ما تقدم هو وصف للمشهد ليس إلا، ولكن الملفت للنظر أن معظم المثقفين بكافة فئاتهم وشرائحهم يلتقون حول «نقطة محورية» هي «القاسم المشترك»: وهي أنهم يُقدمون أنفسهم على أنهم «رُسل» و«قديسين» و«مصلحين» وأنهم «نخب» مع بروز صارخ «للنزعة الفوقية»، لذلك فإنهم يضفون على منتجهم الفكري «القداسة»...

ولعل إحدى أهم مشاكل المثقف اليوم هي علائقية، وعلاقته بالمجتمع بالدرجة الأولى، فلطالما نَصّب «المثقف » نفسه «رسولا للأمة» وانه «المنقذ»، أو «القائد» أو «طلائعي» فمسح المثقف نفسه بمسحة طوباوية، وأضفى بعض المثقفين على أنفسهم هالة من «القدسية» الأمر الذي رمى بهم خارج أرض المجتمع الواقعية، فنرجسيتهم من جهة والنظرة النخبوية التي يمارسونها بشكل مباشر أو غير مباشر من جهة أخرى نفتهم اجتماعيا، وجعلت «المثقف» بعيداً عن أرض الواقع فأضحى يُقدم للجماهير أفكاراً لا تجد لها مكانا إلا على الأوراق وأرفف المكتبات، إذ انه لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع ولا يمكن جعلها برغماتية عملية... هذا من جهة كما أدى ذلك إلى إحباط المثقف نفسه من جهة أخرى، والى هامشيته العملية، وهذا يفسر ما آلت إليه معظم مشاريع النخب في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين التي باءت بالفشل إن لم نقل كلها، بحيث تبرأ أصحابها منها وأخذوا ينكشون وينبشون ليبرؤوا أنفسهم من تهمة زرعها.

ولطالما قَرع مثقفنا العربي آذاننا بالنقد الدائم للسلطات من جهة وباعنا شعارات النبل والإخلاص والقومية من جهة ثانية، غير انّه كان عاجزاً عن حلّ مشاكلنا، وفي الوقت الذي كان يطلب فيه من السلطات «الحرية» كان يمارس هو «القمع» الفكري في حقنا من خلال ممارسة حقه «النخبوي» المقدس.

لقد استطاع مثقف اليوم أن يجمع بين «مفاهيم التسويق» و«أنويته النخبوية»، في حين انه من المفترض ومن الأجدى أن تكون أفكاره ومضامينها ورموزها هي البرغماتية، فالمفاهيم لا يُمكن أن تُقدَّم على شكل مُعطيات، بقدر ما هي فضاء للتداول والتبادل يجب على الأفراد بكافة شرائحهم المساهمة في خلقها أو توسيعها.

والحقائق ليست هو ما نقوله أو نُدلل عليه بل لا بد من أن نصنعها صناعة مجتمعية بحيث تصبح عملة قابلة للتداول في سوق الأسهم العملية، كما لا بُد من أن يُترجم عبر علاقات جديدة مع الشعوب والمجتمعات ومع الأفكار نفسها ومع الأشياء والأحداث.

لذلك فإن المثقف لا يمكن أن يترجم ما يدعو إليه عمليّا ما لم يتخلى بالدرجة الأولى عن «أنويته النخبوية» وينزع عقدته الفوقية ويتنحى عن منصبه «المعنوي» وعن وصايته الفكرية.

لأننا كشعوب باختصار سقطنا «رهائن» عقائد مقدسة ومشاريع مستحيلة، ودفعنا ثمن نرجسية مثقفنا الذي نَصّب نفسه ناطقًا رسميّاً باسم الأمم والشعوب، تارة في مواجهة «السلطات» وتارة في مواجهة مشاريع «الاغتراب».

و إننا نأمل من مفكرينا الاكارم أن يقدموا لنا مفاهيم اقل «ضخامة» وأكثر «رشاقة»، بحيث تنطلق قدراتهم الفكرية القادرة على التجديد الخلاّق في عالم المفاهيم بشكل يمكنهم بتكوين فعال في المشهد الفكري الكوني.

لعل إحدى أهم مشاكل المثقف اليوم هي علائقية، وعلاقته بالمجتمع بالدرجة الأولى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى