الأحد ٢١ آب (أغسطس) ٢٠٢٢

تباريح الوجع على أعتابِ قرطبة

خالد بريه

عندما قدِمَ شاعرُ الأندلس "ابن زيدون" إلى مدينةِ قرطبة فاتحًا بجوارِ المعتَمِد ابن عبَّاد، بعد سنواتٍ طويلةٍ من خروجه شريدًا متخفيًا، عَرجَ إلى منزلِ "ولَّادة بنت المستكفي"، لم يستطعْ صبْرًا عنها؛ ضَجَّ قلبه بشوْقٍ ثائر، وعاوَده الحنين إلى تلكمُ الأيام الخوالي، وقد كان بينهما (وُدٌّ وغرام)، سَطَّره ابن زيدونَ في قصائده الشَّهيرة!
قَدِمَ ابن زيدون يجرُّ خطاه المتعثِّرِة بالشَّوْق، ضَاقَ به العمر النَّافر عنها، لم يكن مُقامه في هاتيكَ البلاد بمقام، لم يبتعِد لكنَّه أُبعِد، وطالتْ بينهما شُّقْة البَيْن، وقرح أثر البكاء محاجِر العيْن، وكذا قضَت السّنون بينهما بصرامةٍ تركت أثرها في قلبيْهما، وفي غمرةِ حيواته التي عاشها بعيدًا، شعر أنَّ وجوده بات جسدًا لا روحَ فيه، فلا يليقُ بالذي خفَّ طبعه أن يُثْقِل بالبُعْدِ على من أحب، ولذا، أحكمَ عليها في قلبه، فعاشت ساكنة تنضحُ بين شَوْقٍ وشوقٍ بذكرى عامرة، وتُضْرِم الجمر بأدنى شرارة في أحشائه!

وقفَ ابن زيدونَ قبالةَ منزلِ ولَّادة، وراحَ يتأمَّلُ المكانَ المثْقَل بشواهدِ الذِّكرىٰ الآفلة، أخَذَ يسترجعُ اللحظةَ المشهودة التي التقيا فيها؛ حينَ نَظَرَ إليها عن غيرِ قصْدٍ فأصابَ السَّهْم فؤاده بالعمْد، لكأني أسمعُ صوتَ أبي الوليد بنغمةٍ باكية "يا نظرةً أثَّر سهمها بالفؤاد، تركتني أهيمُ من الغرامِ في ألفِ واد، تلكَ التي أسَرَتْ فؤادي وسَرَتْ، وجارتْ عليَّ لما أجرت دموعي وجَرَتْ، وليسَ لي صبرٌ على حلو حديثها الشَّهي، والنَّظر إلى طلعة وجهها البهي، ومطارحتها نوادر الآداب، ومغازلة عيْنَيْها بما يفتحُ لمحاسنِ أغزالي الباب. ثمَّ.. ثمَّ ذابَت حوائلُ البُعْد، وتلاشت، ورُفِعَتْ أستارُ الحُجبِ بينهما، ورأى كل واحدٍ الآخرَ؛ كأنه النِّصفُ الذي أكملَ صورةَ البدر، والقَدَر الذي طالَ انتظاره، وقد كان. وما حَملَ ابن زيدون على الذهاب إلى قرطبةَ وقد استبدَّ به الضَّعف، ووخَطَ الشَّيبُ رأسه، إلا أن يراهما قبلَ رحيله، أعني: قرطبةَ المكانَ والقلب!

رأى بأمِّ عينيه الضَّعيفتيْن قرطبةَ، دهشة العمران، منازل الصِّبا، مراتع الطفولة، ومجالس الهوى والشَّباب، وأمانة الأيامِ التي تركها وراءه منذُ رحيل، لكنه لم يحظَ برؤيةِ قرطبة القلب، لقد تمنعت عنه، فعادَ يجرُّ أذيالَ الحرمان، وما هو يومئذٍ حيٌّ يعيشُ في حاضره؛ ولا آملٌ يفكِّرُ في هوىً عابر، ولكنَّه ذكرى بلا رجاء، ولهفة ما لها انقضاء. ولم يلبث بعدَ ذلكَ أنْ فارقَ الحياة!

في غرفتها، كانت "ولَّادة" تنشدُ أبياتًا صَدَرت عن فؤادٍ صَادَره الجوى. وبعينٍ أضعفها فرْطُ الدموع، راحت تسرحُ في الفضاءِ الممتد، تسألُ نفسها: هل يفي النَّديم بوعده؟ فيُدْني لزيارتي مَنْ أتجرَّع آلام بُعْده، أو نسيَ ذاكَ الوعدَ لبُعْدِ الشُّقَّة، أو رأى أنَّ القيامَ به يشقُّ عليه بتحمُّلِ المشقَّة؟!

وما هي إلا هنيْهة حتى نَمَى إليها الخبر، أنَّ ابنَ زيدونَ على البابِ يقف! لمْ تصدِّق.. أكلُّ تلكَ الأيام، وبعد كلِّ هاتيكَ السِّنين، يأتي إلينا، يذكُرُنا، ويخصُّنا بزيارةٍ لحظةَ وصوله أرضَ قرطبة؟

نهضتْ بخفةِ المحبِّ إلى المِرآة، فرأتِ الحالَ غير الحَال، لقد مضتِ السِّنين بنضْرةِ الحُسْن، وغضَّنت الأيام جبينها، وخفتتْ مشارقُ الأنوارِ من وجنتيْها، وعملتِ الحوادثُ عملها، لم تعد ولَّادة كما عرفها ابن زيدون الذي عَقلَ فؤادُها هواه، ورانَ على قلبها تعشُّقُ محيَّاه.

ثمَّ ارتمتْ على سريرها خائرةَ القوى، تبكي، تندبُ الحبَّ القديم، وتنادي ظمأ الفؤاد، وتعشو في ليل الوجْد ولا تجد على النَّار هدى، وتنعى رحيلَ الشَّمس التي كانت تطلعُ من مفرقِ جبينها، وها هي الشَّمسُ تلملمُ عباءتها بصمت، طغى الغروب بهيبته، وانطفأ كلُّ شيء.. انقطعَ الأمل، وفاجأتِ النَّوى بالنَّوائب، وأمطرت عليها سُحُبُ الرَّحيل، وغدا لشأنِ الدُّموع بمنشآتِ الجوى شؤون.

خرجتِ الجارية بوجهٍ غائمٍ تعتذرُ من ابنِ زيدون، وقد حفِظت آخر ما تمْتَمت به ولادة: "إنَّ ولهي بأبي الوليد حال دونَ كلّ مطلوب، وشغل أفكاري بما يمرُّ عليها لم يحل به في عيْنَي محبوب، فلا تكلفيني ما هو فوقَ طوْقي، ولا تحمِّليني ما يخدشُ روحي النَّائمة في قلبه"، قالت - الجارية - بصوتٍ خفيض: "لم تحتملْ ولَّادة لقْياك".
نهضَ ابن زيدون نهوضًا مثقلًا يودِّعُ المكانَ بصمتٍ مُمِض، كانَ يأملُ في لحظةٍ أخيرة أن يراها، يسكِّنُ لواعجَ النَّفس، ولهيب الشَّوق، ويسكتُ صوتَ الذِّكرى، منذ تناءتْ بهمُ الدِّيار. لكنه فهمَ سرَّ تمنعها، وخرج.

أدركَ أبو الوليد أنَّ "ولَّادة" تكادُ تموتُ حسرة؛ لأنها لم تخرجْ للقياه، لكنَّه كانَ يدركُ بنباهتِه، أنها أرادت أن تُبْقي على صورتها المتوهجة في قلبِه، تلكَ الحسناء التي لم ير امرأةً تدانيها، الفاتنة التي استطالتْ بجمالها، وعلتْ بسموِّ خصالها؛ فأغوتِ الأدباءَ والشُّعراء، وكانت حديثَ المجالس، ومطمعَ الوزراء والأمراء، أرادت أن تبقي تلكَ الصورة التي تفتَّقَ عنها شعْره، وكتَبَ فيها ما سارت بخبره الرُّكبان، وتلاهُ العشَّاقُ والخلان على تطاولِ الأزمان، وباتَ يُصْدَحُ به ترنُّمًا في مجالسِ الوُدِّ والأُنسِ والتبسُّطِ كوردٍ مقدَّس، ولم تزده الأيامُ إلا حضورًا وبهاءً.

رحَل ابن زيدون وولَّادة تسكنُ قلبه؛ متوهجةً تتواثبُ في مطارفها الموشاة، لا تنالها الأيدي على طولِ السرى، وجهد السَّهر، وكدِّ الطريق. مزهرة لم تَعْتَرِها تصاريفُ الخريف، ومشرقة أبدًا، لا غروبَ يطمر صورتها الخالدة في قلبه، رحَلَ وفي نفسه ذكرى لولَّادة، وقصائدُ لم تُخْلق، وحبٌّ لم ينطفئ، وشيءٌ من أملِ اللقاء.
دونكم هذه البكائية المدهشة لابن زيدون:

أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا
حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا
مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ
حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
غيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فَدَعَوا
بِأَن نَغَصَّ فَقالَ الدَهرُ آمينا
فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا
وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بِأَيدينا
وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا
فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا
يا لَيتَ شِعري وَلَم نُعتِب أَعادِيَكُم
هَل نالَ حَظّاً مِنَ العُتبى أَعادينا

خالد بريه

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى