الخميس ١٠ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

تجاهل العارف

من ضروب المبالغة في التعبير أسلوب (تجاهل العارف)، فالمتكلم يسأل عن شيء يعرفه، ولكنه يُظهر للمخاطَب أنه في حَيرة من أمره، ويقصد بتجاهله بيان شدة الشبه الواقع بين المتناسبين، وكأن الأمر أحدث التباسًا عنده، فبدا وكأنه يخلط بين المشبه والمشبه.

إنه نوع من التعجب الذي يصل إلى المبالغة.

يقول أحدهم:

أشهْدٌ في الزجاجة أم شراب؟

هو يعْـرف أنه شراب، وقد شبهه بالشهد على سبيل المبالغة والتعجب، فعندما يسألنا فهو يتجاهل ما يعرفه من حقيقته، وفي تجاهله يؤكد عذوبته وحلاوته.

يقول أبو هلال العسكري في تعريف "تجاهل العارف ومزج الشك باليقين":

هو إخراج ما يُعرف صحته مُخرجَ ما يُشك فيه ليزيد بذلك تأكيدًا"- كتاب الصناعتين ص 396، ويعطي مثلاً من إنشائه:

"لم أدر ما أبصرت: أأبياتَ شعر، أم عقود درّ"؟

إذن فتجاهل العارف هو من المحسِّنات المعنوية، وهو سَوق المعلوم مساق المجهول لنكتة يقصدها البليغ.

(الخطيب القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 530)

دواعي تجاهل العارف كثيرة، ذُكر منها في كتب البلاغة:

التوبيخ:

ومنه قول ليلى بنت طَريف الخارجية في رثاء أخيها:

أيا شجرَ الخابور ما لكَ مورقًا؟
كأنك لم تجزعْ على ابن طريفِ

(الخابور نهر في العراق، وقد افترضت الشاعرة أن الأشجار يجب أن تساقط أوراقها كالدموع بكاء وجزعًا على أخيها، ولكن الشجر بقي كما هو، وفي ذلك مدى استغرابها.
بعبارة أخرى:

الشاعرة تتساءل مضخّمة الحدث، وكأنّها تريد أن توقف دورة الزمن بعد وفاة ابن طريف؟

وتستنكر نضرة الشجر واخضراره إذ كان عليه أن يموت ويضرب عن الاخضرار حزنًا عليه).

المبالغة في المدح أو في الذم:

في المدح قول البحتري مثلاً:

ألمعُ برقٍ سرى أم ضوءُ مصباح
أمِ ابتسامتُها بالمنظر الضاحي؟

(الضاحي- الظاهر للشمس)

ومن الذم قول زهير بن أبي سُلمى:

وما أدري وسوف إخالُ أدري
أقومٌ آلُ حِصنٍ أم نساء

( أرجال هم أم نساء، فهو يتجاهل كونهم رجالاً بسبب تقاعسهم في الحرب).

التدلّه في الحب:

بالله يا ظبَيات القاع قلن لنا
ليلاي منكن أم ليلى من البشرر*

(القاع= أرض مطمئنة عما يحيط بها من الجبال والمرتفعات)
وكقول ذي الرُّمَـة:

أيا ظبية الوَعساء بين جُلاجِلٍ
وبين النقا آأنت أم أمُّ سالم

(الوعساء: الأرض اللينة الرملية، وجلاجل اسم جبل، والنقا- القطعة المحدودبة من الرمل)

الإيناس،

نحو ما ورد في الذكر الحكيم:

وما تلك بيمينك يا موسى؟- طه، 20

التعريض،

كقوله تعالى:

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم من السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وإنّا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين- سبأ، 24.

فالتساؤل سيعلم الكفار أن المسلمين على هدى، وأنهم على الضلالة، فيبعثهم ذلك على الحق.

نلاحظ أن التجاهل قد يكون في أكثر من تشبيه، نحو قول المتنبي:

أريقُك أم ماء الغمامة أم خمر؟
بفِـيَّ بَرودٌ وهو في كبدي جمرُ

وكقول ابن المعتز:

وسكرت لا أدري أمن خمر الهوى
أم كأسه، أم فيه، أم عينيه؟

كنت أشرت في إحدى مقالاتي إلى "الاقتباس الذاتي" في كتابة الناقد، حيث يجيز الكاتب لنفسه أن يستشهد بمادة له، فهذا العسكري وهو يشرح عن "تجاهل العارف ومزج الشك باليقين" يقدم لنا نموذجًا من شعره أكثر فيه من هذا الأسلوب:

أثغر ما أرى أم أقحوانُ
وقدّ ما بدا أم خَيزُران؟
وطرْفٌ ما تُقلِّب أم حسام
ولفظٌ ما تُساقط أم جُمانُ
وشوقٌ ما أكابد أم حريقٌ
وليلٌ ما أقاسي أم زمانُ

وبالطبع فهذه الأسئلة فيها مبالغة في الوصف ، وتدلّه في الحب.

* نُسب البيت لأكثر من شاعر: المجنون، ذي الرُّمّة، العَـرْجي، الحسين الغزّي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى