الخميس ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم جميل حمداوي

تجليات التجديد في رواية "أبجدية الموت حبا" لجاسم الرصيف

تعد رواية( أبجدية الموت حبا) التي نشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر( بيروت / لبنان) سنة 1991م من أهم الروايات التي كتبها الروائي العراقي الكبير جاسم الرصيف إلى جانب روايات أخرى : كالفصيل الثالث، و القعر، و خط أحمر، و حجابات الجحيم، و تراتيل الوأد، وثلاثاء الأحزان السعيدة، و مزاغل الخوف. وتتميز أبجدية الموت حبا أنها رواية تتناول تيمة الحرب العراقية الإيرانية بطريقة فنية جديدة تعتمد على التوازي السردي والمفارقات الزمنية. إذاً، ماهي مظاهر التجديد في هذه الرواية؟ وماهي الأبعاد المرجعية التي تحيل عليها هذه الرواية العراقية المعاصرة؟

تصور رواية( أبجدية الموت حبا) الحرب العراقية الإيرانية القذرة التي امتدت من 1980 إلى1988، وانتهت ميدانيا لصالح العراق. بيد أن الرواية تركز على فترة معينة ومكان معين. أي إن الرواية تصور الصراع العسكري حول منطقة الفاو التي تقع في جنوب العراق في السنة السادسة من عمر الحرب ، بعد أن استولى عليها الإيرانيون لموقعها الساحلي الاستراتيجي، ولم يسترجعها الجنود العراقيون إلا بعد معارك ضارية وحامية الوطيس.

وإذا تأملنا مضامين الرواية سنجد تداخلا في الأحداث وتقاطعا سرديا نتيجة اعتماد الكاتب على تقنية التقطيع السينمائي والمونتاج في تركيب اللوحات المفككة بنيويا وعضويا؛ ولكنها متكاملة من حيث الدلالة والرؤية الفنية على غرار رواية الوشم للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي، وبدر زمانه لمبارك ربيع الروائي المغربي...

هذا، وتضم رواية جاسم الرصيف ثلاث لوحات دلالية متكاملة:

1- لوحة المجند الذي سيقاد قهرا إلى حرب يائسة ومظلمة بدون أن يفهم أهدافها وفلسفتها بعد ضياعه الوجودي و فشله في دراسته وغضب والده عليه. وسيخوض تجربة القتال مع مجموعة من رفاقه الشباب، وسيتعلم بسرعة أبجدية الحرب والموت، وأوليات الانضباط العسكري، ومتطلبات التدريب القاسي الذي كان يفرضه عليه عريفه، وكل هذا من أجل استرجاع منطقة الفاو بأقصى سرعة. وقد استطاع هذا المجند المستجد في الأخير أن يتكيف مع واقع الموت بصبره الجميل وثباته الكبير إلى أن حقق النصر ورفع راية وطنه في تربة الفاو. وبذلك حول كينونته الضائعة إلى إنجاز وجودي هادف.

2- لوحة المرأة المجندة التي اختارت النضال والاستشهاد مع مجموعة من المقاتلين للدفاع عن الفاو لطرد الطغمة العسكرية الإيرانية المحتلة. بيد أن استبسال هذه المرأة المقاومة في الحرب سيتحول إلى أسر واعتقال واستنطاق وتعذيب من قبل أعدائها الذين حولوا جسدها إلى مرتع للاشتهاء و برك من الدماء المسالة إلى أن رأت نصرهم يتحول إلى هزيمة نكراء.

3- لوحة ذاكرة الفاو في تاريخها الممتد في الزمان، وما كان يعانيه الأهل من ظلم وقهر واستعباد وفقر وجوع ومرض. إنها أرض التناقضات والقيم المنحطة. كما أنها مرفأ المقاومة والنضال ومجابهة المعتدين الغزاة، و الأتراك المتسلطين المستبدين، ومقاومة الإنجليز المتوحشين الذي كانوا يستهدفون نهب ثروات المنطقة.
فالرواية – إذاً- عبارة عن مجموعة من اللوحات المتكاملة التي تتداخل في المتن القصصي والحكائي تقاطعا وتفاعلا لتشكيل رؤية الكاتب للعالم القائمة على نبذ الحرب و العدوان والاحتلال. وتندرج الرواية أيضا ضمن الرواية الحربية التي جسدت أهوال الحرب بين النصر والهزيمة على غرار مجموعة من الروايات العربية الحديثة كـــ (الزيني بركات) لجمال الغيطاني، و(رفقة السلاح والقمر) لمبارك ربيع، و(يحدث في مصر الآن) ليوسف القعيد، و(رجال وجبال ورصاص) و(المحاصرون) لفؤاد حجازي، و(المصير) لحسن محسب، و(أبناء الصمت) لمجيد طوبيا...

ويعني هذا أن تيمة الحرب تيمة جديدة في الرواية العربية الحديثة والمعاصرة، ولاسيما الحرب العراقية الإيرانية التي حصدت كثيرا من الأرواح، وزهقت فيها كثير من النفوس، وقتل فيها الكثير من الشباب ظلما وعدوانا، وذلك لأسباب واهية عقائدية وإيديولوجية. ومن ثم، ستبقى هذه الحرب في تاريخ الأمة العربية والإسلامية حربا قذرة كحرب البسوس أوحرب داحس والغبراء، و ستظل عارا و خيبة وفتنة كبرى وجاهلية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر.

وتتسم شخصيات الرواية بالضياع وانعدام الهوية واستلابها التشييئي، والدليل على ذلك فقدانها لأسمائها الإنسانية ، ومبادئ كينونتها الوجودية، وتعويضها بالضمائر التي تحيل على كائنات ورقية مجهولة كشخصيات الرواية الجديدة ( كافكا- محمد عزالدين التازي- عمر والقاضي...). كما أن الأمكنة في الرواية ذات طابع عدواني توحي بالرعب والقهر والخوف والموت، إنها فضاءات سوداوية وأمكنة مأساوية جنائزية( المركز- ساحات التدريب- الخنادق- الساتر- البرك الموحلة- الميدان...).

وعلى مستوى المنظور السردي نلاحظ تعدد الرؤى السردية( الرؤية الداخلية- الرؤية من الخلف...)، وتعدد الضمائر السردية( ضمير التكلم، وضمير الغائب...)، وتعدد الرواة( الراوي المجند- الراوية المجندة- سارد ذاكرة الفاو...)،وتعدد الأساليب( السرد والحوار والمنولوج...)، وتعدد اللغات تهجينا وأسلبة( الفصحى القديمة والحديثة، العراقية، التركية، الإنجليزية...)، وتعدد الخطابات( خطاب التاريخ، الخطاب الفانطاستيكي الذي يتمثل في تحول الكائنات البشرية إلى حيوانات فظيعة، الخطاب السياسي...). وهذا التعدد يجعل من هذه الرواية رواية بوليفونية( متعددة الأصوات) بمفهوم الناقد الروسي ميخائيل باختين. أما البنية الزمنية فهي تتسم بالمفارقة والارتباك الناتج عن التقاطع الزمني وتداخل الماضي والحاضر وتوازي الإيقاع السردي بسبب تقطيع اللوحات بطريقة سينمائية لإرباك القارئ وتخييب أفق انتظاره. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الكفاءة الروائية التي يمتلكها جاسم الرصيف، ومدى قدرته على تطويع الفن الروائي، وكثرة انفتاحه على النصوص الروائية الجديدة في الثقافتين: العربية والغربية قراءة وتمثلا، وانفتاحه على الخطاب النقدي المعاصر اطلاعا واستيعابا.
وتمتاز اللغة الروائية بطابعها التقني التوثيقي لاستخدام الكاتب لمعجم الحرب كثيرا( الدبابة، الهاون، الرشاش، الخنادق، مركز التدريب، الخوذة، الساتر الحربين العريف، الفصيل...)، كما تمتاز اللغة بالجزالة والقوة التعبيرية واستعمال اللهجة العراقية التي ساهمت في تبيئة النص وأضفت على النص نوعا من الرصانة ومتانة السبك والإغراب اللغوي، والتصوير التقريري الموضوعي الذي يخلو من الإنشائية الشاعرية والمستنسخات النصية .

ومرجعيا، يدافع الكاتب عن أطروحة العراق العسكرية على الرغم مما يقال عن قذارة هذه الحرب الحمقاء التي أودت بالكثير من الأبرياء بسبب التعصب الأعمى وانعدام الديمقراطية وتفشي الاستبداد في البلدين المتحاربين. وكنت أنتظر من الكاتب أن يرفض هذه الحرب، وأن يستنكرها كما أشار إلى ذلك في بداية الرواية؛ لأنها حرب عمياء تعبر عن غطرسة الحكام وتجبرهم، فلا نصر فيها ولاهزيمة. بيد أن الكاتب انحاز إلى جانب العراق لعاطفته الوطنية الفطرية، ولم يذكر دواعي هذه الحرب ويشخصها بدقة ويعبر عنها بصدق؛ لأننا نعرف جميعا أن العراق هي التي بدأت العدوان، وفرضت حربا شنعاء على إيران لخدمة مصالح الغرب و عملائه المتخاذلين.
وأخيرا، تعتبر رواية أبجدية الموت حبا رواية جديدة في أدبنا العربي الحديث والمعاصر إن مضمونا وإن شكلا؛ لأن الكاتب تناول تيمة الحرب بطريقة معبرة موحية تجمع بين التوثيق الصحفي والانطباعية الإنسانية الحزينة التي يشوبها في نهاية النص نوع من التفاؤل بالنصر والحياة. واستخدم في تعبيره عن ضراوة الحرب الجنائزية أسلوب التوازي السردي والمفارقة الزمنية والتقطيع السينمائي وتقنيات الرواية البوليفونية لخلق نص حداثي يتسم بالتجريب والتجديد والاستفادة من تقنيات الرواية الغربية والسرد العربي القديم.

وأقول بكل صراحة : إن جاسم الرصيف لروائي عربي كبير في مجال الكتابة السردية، ومن القمم الروائية التي ينبغي أن ننصت إليها جيدا وأن نهتم بها كثيرا. كما يعد من الأقلام الجريئة التي صورت الحرب العراقية الإيرانية واستبداد النظام العراقي الحاكم تصويرا صادقا موثقا بطريقة فنية رائعة وجميلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى