الثلاثاء ١١ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

تحرير العقول من الخرافات

في ليلة شتاء قارسة البرد، وأنا طفل صغير، كنت أنام بجوار جدتي. حكت لي حدوته ست الحسن التي سقطت في البير، حيث يسكن غول متوحش يأكل لحوم البشر. بالطبع هي قصة لا تناسب أطفالا في سني.

اختبأت ست الحسن تحت لقان العجين. لكن الغول، اكتشف وجودها. إذ كان يتمتع بحاسة شم فائقة. لم يستطع الغول افتراسها لجمالها، فقرر الزواج منها. المهم أن الأمير ابن الملك، تمكن من النزول بحبل، لكي ينقذ ست الحسن من هذا المأزق الغير لطيف.

ثم وقع الأمير وست الحسن في الحب وتزوجا وعاشا في القصر. إلا أن الغول، الذي كانت له دراية بالسحر والعمولات، قام بالتخفي في صورة كبش عظيم. وذهب لكي يسترد زوجته وينتقم ممن سلبها منه.

المهم أن ست الحسن، تم إنقاذها للمرة الثانية، وقتل الغول وهو في صورة الكبش. وعاشا الأمير وست الحسن في تبات ونبات، وخلفوا صبيان وبنات.

ثم خلدت جدتي للنوم، وتركتني وحدي مرعوبا في منتصف الليل، من تخيل هذا الكبش الذي ليس كبشا، وإنما غولا يأكل لحوم البشر.

وبينما أنا كامش تحت اللحاف، تتملكني الوساوس والهواجس، إذا بي أرى في ضوء برتقالي خافت يتسرب من فانوس الشارع خلال زجاج النافذة العلوي، صورة مارد يقف في نهاية الغرفة وهو يلبس الطربوش.

صرخت صرخة مدوية تقشعر لها الأبدان، فقامت جدتي مذعورة من نومها لتعرف سبب صرختي. أشعلت مصباح الكيروسين، فأشرت إليها نحو المارد وقلت لها عفريت واقف هناك. فقالت بسم الله الرحمن الرحيم، اسم الله صائنك وحارسك، فين يا ابني؟ وعندما نظرتُ مليا نحو المارد، وجدت بالطو جدي معلقا على شماعة الحائط وفوقه الطربوش.

كنت في شبابي أزور أحد الأصدقاء. كان يسكن في شقة صغيرة تقع على سطح أحد العمارات بحي شبرا بالقاهرة. عندما غادرت في وقت متأخر من ليالي الشتاء، كان على أن أهبط سلم العمارة ذات الخمس طوابق. وجدت نور السلم لا يعمل. فقررت ترك باب السطوح مفتوحا، حتى يعطيني الوهج القادم من السطح بعض الضوء. تحسست طريقي هابطا السلالم، وأنا أهتدي بحاجز السلم الحديدي(الدرابزون).

ما أن وصلت إلى الدور الثالث، حتى شعرت بصوت أقدام تصعد نحوي. أمعنت النظر، لكن الظلام كان دامسا، والخطوات تقترب صاعدة نحوي. أشعلت عود ثقاب، فكنت وقتها أدخن. لكن الهواء القادم من باب السلم، كان يطفئ أعواد الثقاب كلما أشعلتها.

عندما أشعلت عودين معا، استطعت أن أتبين ملامح القادم نحوى في الظلام. وجدت، ويا لهول ما رأيت، ماردا طويل القامة بدون رأس، قادما نحوى. كلما أمعنت النظر، لم أجد سوى الحقيقة المرعبة. مارد يصعد نحوي.

جسم وأكتاف فقط بدون رأس. لك أن تتخيل عزيزي القارئ مدى الرعب الذي انتابني هذه الليلة. أخذت أبسمل وأحوقل وأقرأ، وأنا أتلعثم آية الكرسي بصوت عال، مع إشعال أعواد الكبريت بطريقة هستيرية. بعد فترة صمت وتردد، وجدت الشبح يهبط السلم بسرعة، ثم اختفي في الظلام الدامس. وصلت الشارع أتصبب عرقا، شعر رأسي واقف مثل الإبر، لا أصدق النجاة.

في اليوم التالي، أخبرت صديقي بما حدث. وجدته يضحك ضحكات هستيرية. عندما سألته: ماذا يضحكك، ألا تصدقني؟ أجاب: "لأنني كنت عند المكوجي، وأخبرني أن صبيه، هو أيضا قد رأى عفريتا على سلالم العمارة أثناء الليل." عندما سألته، هل رأى هو الآخر شبحا بدون رأس؟ أجاب: "كلا، لقد رأى عفريتا يبرطم بكلمات غريبة، ويشعل أعواد الثقاب"

لقد اتضح أن صبي المكوجي، كان يحمل بالطو لتوصيله إلى أحد سكان العمارة في هذا الوقت المتأخر من الليل. خوفا من أن يصل البالطو إلى الأرض، كان صبي المكوجي يرفعه بيده ويختفي خلفه. بالطبع في الظلام، لم أر الصبي. لكنني رأيت المارد مقطوع الرأس. يبدو أن البالطو ورايا ورايا.

هذه قصة سمعتها من فلاح بنفسي وهو يرويها لمضيفه عندما عزم عليه بسيجارة. قال الفلاح:

لا متشكر. أنا مبطل التدخين منذ مدة. وعندما تساءل المضيف عن السبب. أجاب الفلاح: بعد حكاية حصلت لي خلتني أحلف بالطلاق ألا أقترب من الدخان تأني. أنا كنت في الغيط أسقي الزرع بالليل في وقت متأخر. وبعدين قبل ما أروح، ولعت شويت فحم وشربت تعميرتين دخان معسل. دماغي لفت من الحشيش، قلت يا واد قوم روح وبكره تكمل سقاية.

مشيت جنب الترعة في سكتي وأنا مروح. سمعت واحد ماشي ورايا وأنفاسه تقريبا في قفايا. قلت يا واد هم شوية وابعد عنه. لاقيته بيهم ورايا وأنا أسمع صوت أنفاسه تلاحقني في الظلام. كلما هممت وزودت السرعة، زادت أنفاسه خلفي.

ارتعبت وأخذت أجري كالمجنون وهو ورايا موش عاوز يسيبني. تذكرت العفريت اللي بيطلع للناس من الترعة ورجليه رجلين جاموس فازددت رعبا على رعب. وقف شعر راسي ولقيت قلبي ح ينط من صدري، وأنا أجري بكل قوتي نحو القرية. عندما اقتربت من أول فانوس نور في أحد شوارع القرية، بدأت أهدئ من سرعتي حتى أستطيع أن آخذ نفسي. فوجدت العفريت خلفي يهدئ من سرعة أنفاسه أيضا.

الجري وهواء الشتاء النقي بالليل خلاني أفيق شويه. بدأت في المش العادي وأنا أنصت جيدا للصوت خلفي، فتبين لي شيء لم يكن في الحسبان. وجدت، ويا لهول ما وجدت، أن هذا الصوت الذي أرعبني يخرج من صدري. كثرة شرب الجوزة ودخان المعسل، خلاني أكح وخلى صدري ملبش، عمال يذيق زي المزيكا. ومن ليلتها، وأنا مقاطع التدخين برمته، وحتى السجاير، ماجيش ناحيتها ولا أحب ريحتها.

الإيمان بالعفاريت والقوى الخارقة للطبيعة، ليس جديدا علينا. لأن معظم تاريخنا المدون، يشير إلى وجود ظواهر غير مفهومة في الماضي. كانت تفسر هذه الظواهر، بوجود قوى خارقة للطبيعة. القوى الخارقة للطبيعة، هي الطريقة الوحيدة في ذلك الوقت، التي تمكننا من تفسير هذه الظواهر.

الميكروبات والفيروسات والباكتيريا، لم تكن معروفة حينئذ. إذا مات رجل ذو صحة جيدة فجأة، عقل الإنسان لم يكن في مقدوره تفسير سبب الموت المفاجئ هذا. وقد كان يرجع سبب الموت المفاجئ، إلى وجود السحر أو الحسد أو العين، أو الجان والشياطين والعفاريت.

الميكروبات والباكتيريا، لم يعرفها جدودنا. السرطان والجلطة والذبحة الصدرية وأمراض الدم والأمراض النفسية لم يعرف أسبابها إلا في تاريخنا الحديث. كان مجرد اقتراب شخص ما، من أو السير أمام منزل المتوفي بمرض من هذه الأمراض قبل وفاته بساعات قليلة، كفيل باتهامه بممارسة السحر والشعوذة أو الحسد.

كثير من الأبرياء لاقوا حتفهم حرقا في العصور الوسطى في أوروبا وأمريكا، بسبب اتهامهم بالسحر وتعرضهم لظروف وملابسات عديدة مثل هذه. هذه هي الطريقة التي كان يفكر بها الناس في القرون الوسطى في أوروبا وأمريكا. هذه هي طريقتهم في ربط الأحداث بعضها ببعض. كان هذا هو أسلوبهم في إسناد السبب إلى المسبب.

كثير من المتهمين بممارسة السحر، كانوا نساء عجائز مساكين. سلوكهن وهيأتهن بحكم السن، أو بسبب تعرضهن لأمراض نفسية أو عضوية، تثير الريبة والشك. نعم، لقد انحدر الفكر الإنساني إلى هذا الدرك الأسفل. نحن اليوم نجد صعوبة كبيرة في فهم أو تبرير هذا السلوك المخزي. كانت أكثر المبيعات من الكتب المتداولة في هذا الوقت، هي الكتب التي ترشد القارئ إلى طرق الوقاية والتخلص من الساحرات.

كانت توضح العلامات التي تظهر على وجوه وجباه السحرة والساحرات. لذلك كانت الناس تراقب بعضها البعض، خصوصا النساء. يبحث كل منهم عن صيد أو فريسة، يريد التخلص منها واتقاء شرها. أفضل من وصف تأثير هذا الهوس على العقل الأوروبي، هما ويل وأريل ديورانت، صاحبا موسوعة تاريخ الحضارة الجزء الثامن:

الخلط العقلي والأمراض النفسية، كانت تفسر على أنها لبس وسحر وعمولات وحسد وما شابه. لعدة قرون، كان افتراض وجود القوى الشريرة والقوى الغير طبيعية هذه، هو الذي تفسر كل ما يتعلق بمشاكل وانفعالات الإنسان، الخاصة بالحب والكره والرغبة. ليس هذا فقط، إنما تفسر أيضا سبب الأمراض والاضطرابات العقلية والعصبية، والمجاعات والعواصف والقحط والرياح وكل شيء لا يعرف الإنسان سببه.

حتى اليوم، نجد صدى هذا في بلادنا. في صورة الزار والرقية والشبة والفسوخة والآيات المنجيات. والزواج من الجن، وتسخير الجن، وعمل الأحجبة للوقاية، ورش الماء على الأرض في مواقع التعثر، والبخور والخرزة الزرقاء، والخمسة وخميسة، وتحضير الأرواح، والمندل والفال، والتشاؤم، والنظرة، والعين وخلافه.

تقدم العلوم، كما نعرفه اليوم، كان مكبلا بالاعتقاد في الخرافات والسحر والعفاريت. الخوف والإيمان الأعمى بنصوص كتبنا السماوية بدون فهم، وضعت غشاوة على بصائرنا. فأصبحنا لا نرى ما حولنا، وجعلتنا نتخيل أشياء غير موجودة. هذا لم يساعدنا كثيرا في فهم قوانين الطبيعة من حولنا. فظلت علوم الطب الحديثة محظورة في أوروبا. كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع تشريح الجثث لمعرفة كيف يعمل جسم الإنسان.

فما هي القوى التي تسبب إيماننا بهذه الخرافات. وكم منها قد تكون بسبب الصدفة أو الفهم الخاطئ للدين وللظواهر الطبيعية. ما مدى تأثير إيماننا بالخرافات على بحثنا ودرجة إدراكنا للحقيقة؟ العلوم نفسها قد انبثقت من مخلفات السحر والأساطير. لكي نفهم الجانب النفسي وراء إيماننا بالخرافات، يجب أن نبحث عدة ظواهر نصادفها كل يوم ولا نجد تفسيرا لها.

كلنا يعلم قصة الخليفة عمر وسارية الجبل. حينما صرخ وهو على المنبر: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل. فسمعه سارية وهو يقاتل في الشام، وتنبه لأهمية احتلال الجبل على سير المعركة. قصص كثيرة شبيهة بهذه، تدل على وجود التخاطب من بعد. وهو ما يعرف ب "ESP". كلنا قد مر بتجارب مشابهة. مثل الاحساس بقدوم شخص ما، أو تجد محدثك ينطق جملة كانت على لسانك. أو توارد الخواطر. فربما نفكر في صديق على بعد منا، وفجأة نسمع جرس التليفون لنجده على نهاية الخط. كذلك قصص التنبؤ بالمستقبل. أو الأحلام التي تتحقق بالنص أو بشيء مشابه لرموزها.

عندما تخرجت من الجامعة، كنت أبحث عن وظيفة تناسب مؤهلي. رأيت في المنام، في أحد الليالي، أنني أقوم بغسل سمكتين كبيرتين في حوض مطبخ منزلنا. بعدها بعدة ليالي قليلة، رأيت في المنام أيضا أنني أقف في نفس المكان بالمطبخ وأقوم بغسل حبتين كبيرتين من ثمار المانجو. عندما طلبت تفسير ذلك ممن هم أكبر مني سنا، ولهم خبرة بتفسير الأحلام، قيل لي أن هذا خير إن شاء الله.

بعدها بأيام قليلة، جاءني خطابان. الأول يفيد أنني قد قبلت في وظيفة بأحد المؤسسات الحكومية. الثاني يفيد القبول بشركة مصر للطيران للعمل كمراقب جوي. لقد تعرضت خلال حياتي لعدة أحلام شبيهة بهذه، كانت تصدق بدقة عجيبة.

عندما تكتشف شركات إنتاج الأدوية عقارا جديدا، وتريد تجربة فاعليته في علاج مرض معين. تختار ثلاث عينات عشوائية من المرضى. تعطى المجموعة الأولى الدواء الجديد. وتعطي المجموعة الثانية دواء مزيفا (فشنك) يسمى "بلاسيبو". هو عبارة عن ماء وسكر.

المجموعة الثالثة، لا تأخذ دواء على الإطلاق. ثم تقارن نتائج المجموعات الثلاث. الغريب في الأمر أن الدواء المزيف هذا، وجد أن له تأثير فعال في علاج المرض، مثل الدواء الجديد ولكن بنسب متفاوتة. هذا ما يعرف بالعلاج بالإيحاء.

وجد أيضا، أن بعض الناس تتماثل للشفاء بمجرد أخذ ميعاد لرؤية الطبيب. أو قبل أن تتعاطى الدواء. لذلك ثقة المريض في الطبيب المعالج هامة جدا، تمثل جزءا كبيرا من العلاج. هذا يفسر لنا نجاح العلاج بالرقية والأدعية والأحجبة والشبة والفسوخة في بعض الأحيان. وما يجعل الدجالين يستمرون في العلاج بالدجل حتى الآن. لأن علاجهم يأتي في بعض الأحيان بالنجاح.

السبب، يرجع إلى الإيحاء لا غير. لقد اعترف لي طبيب متخصص في علاج الحساسية هنا في مدينة نيويورك، أنه كان يعالج في بعض الأحيان مرضاه بحقن ماء مقطر بعد إيهامهم أنه دواء جديد. وكان يحصل على نتائج جيدة. ماذا يحدث هنا؟ وكيف يعمل مخ الإنسان؟ وهل هناك قوى خفية سحرية تخبرنا بالمستقبل، وتشفينا من المرض بدون دواء؟ وهل اعتقادنا بوجود هذه القوى يعوق تقدمنا العلمي؟

الأطفال تعتقد أن كل شيء تراه له روح، وينبض بالحياة. فمثلا، عندما يقع طفل من على الكرسي، نقوم بضرب الكرسي أمام الطفل عقابا له على فعلته. فيقتنع الطفل ويكف عن البكاء. أجدانا القدماء، كانوا يصنعون التماثيل، وهم يعتقدون أن بها أرواحا تمثل الآلهة. نحن نعتقد في الأحجبة والتمائم التي لها قوة سحرية تمنع عنا الشر، وتحمينا من مفعول السحر.

نعتقد في المشايخ والأولياء، بأن لهم القدرة على الشفاء، وفعل المعجزات. ولايزال الناس تؤمن بأن الأحجبة ولبس الملابس الداخلية بالمقلوب، تبطل عمل السحر. والخرزة الزرقاء تبطل عمل العين والحسد. وفردة الصندل القديمة المعلقة على باب المنزل لها مفعول السحر في الحماية من الشر والعين الدارجة. ورجل الأرنب تجلب السعد وحسن الطالع.

الحسد في حد ذاته مشكلة كبيرة في مجتمعاتنا الشرقية. ما من أسرة أعرفها، أو إنسان أتحدث إليه، إلا وجدت أنه مؤمن إيمانا عميقا بالحسد وتأثير العين. وتبريره لهذا السلوك، أن الحسد جاء في القرآن. وأن العين فلقت الحجر، وعملت كيت وكيت. وبسرعة وبدون تفكير، يذكر المؤمن بالحسد سورتي الناس والفلق في القرآن. وهو لا يعلم شيئا عن تفسيرهما الصحيح.

لكن الإمام محمد عبده، في تفسير لجزء عمه، يقول بخصوص الحسد:
"الحاسد هو الذي يتمنى زوال نعمة محسوده، ولا يرضى أن تتجدد له نعمته."

أما السحر فيقول الإمام محمد عبده أيضا: "أنه جاء ذكر السحر في القرآن في مواضع مختلفة، وليس من الواجب أن نفهم منه ما يفهم هؤلاء العميان. فإن السحر في اللغة معناه صرف الشيء عن حقيقته."

هذا يعني، يا سيدي، أن مفهومنا للحسد بمعنى النظرة والعين، وكذلك اعتقادنا في السحر، بمعنى استخدام الجان والعفاريت والقوى الخفية، خاطئ من أساسه. بسبب عدم فهمنا لمعاني القرآن وأصول اللغة العربية.

في الستينات ذهب المرحوم أنيس منصور إلى أندونيسية، وجاء منها بهوجة تحضير الأرواح باستخدام السلة. ثم تطور إلى استخدام الفنجان. لم يسلم منزل منها أو أسرة. فالكل قد انتابته نوبة تحضير الأرواح هذه. محاولا استحضار أرواح موتاه وسؤالهم: هل هم في الجنة أم في النار؟ أو سؤال الأرواح عن المستقبل والمخبي.

وقد سمعنا عن مسئولين كبار كانت تحضر الأرواح لسؤالها، متى ننتصر على إسرائيل (محمد حسنين هيكل في الأهرام في السبعينات)؟ وكان ضباط الشرطة والمباحث في ذلك الوقت، تبحث عن المسروقات والجناة بسؤال الأرواح، وهذا ما قد شاهدته بنفسي. وقد ازدهرت جمعية تحضير الأرواح، التي كان يرأسها الأستاذ فهمي أبو الخير ثم الدكتور علي عبد الجليل راضي في ذلك الوقت.

أما تجربتي الشخصية، بالنسبة لموضوع تحضير الأرواح هذا، فتتلخص في أنني كنت أعتقد في صحتها في البداية. لكنني لاحظت، عندما كنت أحمل السلة مع رفاقي ونحضر روح أحد الموتى، ثم نسأله عن أشياء لا يعرفها غيرنا، كانت تجيب الأرواح بدقة وصواب مذهل.

لكن عندما نسأل الروح عن أشياء لا أحد من حاملي السلة يعرفها، كانت تخفق في الإجابة. وحيث أنني قد وهبني الله عقلا تحليليا، ولا أدري هل هذه نعمة أم نقمة؟ حاولت ربط الإجابات الصحيحة التي أعرفها ولا يعرفها غيري بحركة السلة.

فوجدت أنني، من حيث لا أدري، أقوم بتحريك السلة لا شعوريا. ووجدت أن عقلي الباطن هو الذي يحرك السلة وليست الأرواح. فالأرواح قد صعدت إلى بارئها ولا تريد أن تعود إلى عالمنا الأرضي هذا. لا بسلة أو فنجان أو خلافه.

وكل ما يحدث من ملابسات تفهم وتفسر، بسبب جهلنا، على أنها العين والنظرة، يمكن تفسيرها علميا:
أولا: العين جهاز استقبال وليست جهاز إرسال. بمعنى لا شيء يخرج من العين لكي يمكن أن يكون له تأثير في الشيء المرئي أو الشخص المحسود.

ثانيا: إذا رأت امرأة مجموعة من الفراريج مثلا. ثم أصاب الفراريج مرض قضى عليها جميعا. تكون التهمة أن المرأة قد حسدت الفراريج. وأن عينها زرقاء، ويقاطعها الجميع. ولا يرحب بها أحد في منزله بعد ذلك.

لكن العلم يجد تفسيرا لذلك. وهو أن المرأة كانت تحمل ميكروبات أو بكتيريا ضارة على ملابسها. هذه الميكروبات لا تصيب الإنسان حاملها. ربما بسبب المناعة. لكنها تقتل الدجاج. كذلك، إذا رأت امرأة طفلا أو شخصا ما، ثم مرض بعد ذلك. يتم اتهامها بالحسد. ولكن السبب الحقيقي هو ما تحمله من جراثيم وميكروبات لا نراها.

أخبرني صديق لي أن أحد الزميلات في العمل عينها زرقاء، ولاحظت أنه يتجنبها باستمرار. عندما سألته عما حدث. قال بأنه قد اشترى كيسا من ثمار المانجو بسعر رخيص جدا. لكن السيدة طلبت منه رؤية المانجو حتى تشتري مثلها. في اليوم التالي وجد صديقنا كل ثمار المانجو قد دب فيها العفن ولم تعد تصلح للأكل.

عندما حاولت إقناعه بأن السيدة بريئة من هذه التهمة. وأنه قام بشراء المانجو بسعر رخيص، لأنها كانت مصابة بالباكتيريا والعفن، ولكن لم تظهر بوادر المرض عليها بعد إلا في اليوم التالي. لكن الزميل لم يقتنع، وظل مؤمنا بأن السيدة شريرة. وحمدت الله على أننا لسنا في القرون الوسطى في أوروبا، وإلا كانت السيدة المسكينة في المحرقة بتهمة مزاولة السحر وإفساد كيس المانجو.

عندما تنزل إلى البدروم المظلم أو بير السلم، فإنك قد تشعر بشيء غريب موجود معك يلمس جسدك وتحس به. وقد كان في الماضي هذا الإحساس دليلا مؤكدا على وجود "بسم الله الرحمن الرحيم"، وربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم. لكن ثبت علميا أن هذا الإحساس يرجع إلى وجود موجات صوتية لا تسمعها الأذن، لأنها خارج النطاق السمعي لموجات الصوت. موجات الصوت هذه طويلة. يقاس طولها بالمترات والكيلومترات.

تأتي وتستقر في الأماكن المنخفضة. وأجسامنا تشعر بها. مثل ضربات الطبل والإيقاع الغليظ. تشعر بها أجسمنا أيضا. وحيث أننا لا نعلم شيئا عن وجود موجات الصوت هذه، لذلك اعتقدنا بأن الأماكن المنخفضة الرطبة المظلمة، مسكونة وبها عفاريت. الجهل مصيبة وربنا ما يحكم علينا بيه.

بالنسبة لتوارد الخواطر والاتصال عن بعد، هناك أبحاث تجري بهذا الخصوص، لاتزال في مهدها. كل ما نعرفه أن عقل الإنسان هو معجزة المعجزات. عقل الإنسان في المتوسط يتكون من 100 بليون خلية (نيرون) في المتوسط. كل خلية تعمل عمل كمبيوتر مستقل. تنتقل المعلومات بين خلايا المخ، ومنها إلى العضلات بطرقتين. طريقة كيميائية وطريقة كهربائية. الكهرباء تتولد بالتفاعلات الكيميائية مثل البطاريات السائلة الموجودة في السيارات.

في الواقع مخ الإنسان به كهرباء تكفي لصعق فيل ضخم. هناك أنواع من سمك الثعابين بأمريكا الجنوبية، تقتل فريستها بالصعق بالكهرباء. يجمع كهرباء المخ، ويفرغها مرة واحدة في فريسته ليصيبها بالشلل.

المهم أن عقل الإنسان يعمل بالكهرباء. والكهرباء تُولد مجال وموجات كهرومغناطيسية. الموجات الكهرومغناطيسية، ومنها الضوء والأشعة السينية وموجات الراديو، تسير بسرعة الضوء وتستطيع أن تدور حول الكرة الأرضية سبع مرات في الثانية الواحدة.

فلماذا لا تتوارد الخواطر بفعل هذه الموجات التي يصدرها المخ أثناء التفكير. أليس هذا التفسير أفضل من الاعتقاد بالعفاريت والسحر والحسد والشعوذة وخلافه. بالنسبة لمعرفة المستقبل، ربما تكون المسألة توارد خواطر أيضا. لا أكثر ولا أقل. نعرف بالأحداث فور وقوعها، وقبل أن تصلنا أخبارها بالبريد.

أما البخت وقراءة الفنجان، فهي قراءة للعقل الباطن، يقوم بها قارئ الفنجان. فالتأمل في الخطوط والرسوم الموجودة في قاع الفنجان، تعطي العقل الباطن فرصة للتعبير عن نفسه، وعما يعرفه ولا يستطيع أن يترجمه إلى لغة العقل الواعي. هذا يحدث أثناء النوم أيضا في الأحلام، حينما يحاول العقل الباطن إرسال معلومات إلى العقل الواعي. باللغة الوحيدة التي يعرفها، وهي لغة الرموز والصور، ومن هنا تحدث الأحلام.

علم التنجيم كان يسيطر على علم الفلك. وأول من فصل علم التنجيم عن علم الفلك هم علماء الإسكندرية، منهم بطليموس القلوذي وكتابه المجسطي. ثم تناوله العرب وجعلوا من علم الفلك علما مستقلا وطهروه من خرافات التنجيم. لكن الفلك في أوروبا لم يتبلور كعلم إلا على أيدي كبلر وكوبرنيق وبرونو وجاليليو.

هل حركة النجوم والكواكب تؤثر في حياتنا ومستقبلنا؟ ربما. وقد يكون التأثير صغيرا جدا بحيث لا يذكر. فحركة القمر تؤثر على المد والجزر. وعلى الدورة الشهرية للنساء. أكثر من ذلك لا أعتقد. لكن، ما هي حكاية قراءة البخت والطالع المنشورة في كل الجرائد والصحف والمجلات؟ دجل ونصب وصدفة وكلام عام، يفهمه القارئ كما يريد وكما يتمنى، لا أكثر ولا أقل.

الاعتقاد وحده، مهما كان مغريا، لا يكفي كأسلوب للتقدم الحضاري. التقدم بصفة عامة يلزمه العلم. والعلم يطلب الدليل المادي. مثل القاضي في المحكمة، فهو أيضا يطلب الدليل المادي. حتى لا يظلم بريئا أو يبرئ مجرما. وهو لا يأخذ بالاعتقاد أو الشك، أو بمقولة ربما أو ما شابه. حتى شهود العيان، تؤخذ بكل حذر. فهي في حد ذاتها لا تصلح بديلا وعوضا عن الدليل مادي.

العلوم هي طريقة اختبار الحقائق بحواسنا. وهي تختلف عن السحر في أنها تتعامل مع قراءات وبيانات يمكن قياسها، ويمكن إنتاجها والتنبؤ بها وتكرارها. العلماء يعرفون، عندما يعلنون عن تجربة أو نظرية جديدة، أنها يتلقفها عشرات العلماء الآخرين، لفحصها بدقة، لمعرفة أوجه النقص والخطأ فيها. هذا الفحص الدقيق يؤكد صحة الصحيح، ويكشف عورة الاستنتاجات الخاطئة.

أي نظرية خاطئة، لا تستمر طويلا ولا يجب. وهذا يمنع العلوم من أن تصبح مثل الدين. يؤمن به الناس إيمانا أعمى بدون تفكير، ويستمر إيمانهم به، إن كان خاطئا أو صوابا، آلاف السنين. الإيمان والثقة، ليسا لهما علاقة بالحقائق العلمية. فحقيقة أن "الماء يغلي في درجة مئة مئوية في مستو سطح البحر"، لم تبن على الظن والاعتقاد.

يعتبر اسحق نيوتن من أهم علماء الفيزياء والرياضيات الذين اكتشفوا قوانين الجاذبية والضوء ونظريات التفاضل والتكامل في الرياضيات. قال يوما أنني وصلت إلى هذه الاكتشافات، لأنني أقف على أكتاف عمالقة سبقوني.

أي أنه كان يستفيد من نظريات العلماء الذين سبقوه ومنهم جاليليو وعلماء الإغريق والعرب مثل الحسن بن الهيثم وأبحاثه في البصريات. ميزة العلوم عن السحر والغيبيات، هو أن معلومات العلوم متراكمة ويكمل بعضها البعض. لا مكان فيها للتعارض أو للتزوير أو الشطحات. كل اكتشاف جديد أو نظرية جديدة تؤدي إلى تساؤلات وإجابات أكثر. وبالتالي إلى معرفة أعم وأشمل.

اختراع الميكروسكوب فتح الأبواب على عالم جديد لدراسة بيولوجيا الخلية. هذا أدى بدوره إلى عوالم أخرى من المعرفة في دراسة الأمراض واكتشاف علاجات ناجعة لها.

نظرية التطور لداروين نظرية علمية تفسر أشياء لم نجد لها تفسيرا من قبل. البيانات والمعلومات التي نجمعها كل يوم سواء كانت في مجال عالم الحفريات أو النباتات أو الحيوانات أو هندسة الجينات، لا نستطيع أن نجد لها تفسيرا أفضل من نظرية التطور.

فمثلا، نظرية لامارك للتطور، لا ينتج عنها تنبؤات صحيحة، لذلك سقطت. والكتب السماوية إذا استخدمت بديلا للعلوم، لا تستطيع أن تبرر وجود الحفريات في الصخور، وتسلسل وجودها الزمني والمنطقي قبل ظهور الإنسان بملايين السنين.

الكتب الدينية ببساطة ليست كتب علمية. إنما هي كتب إرشاد وهداية، وأسلوب حياة وعمل. أما العلوم ومنها نظرية التطور، فهي تفسر أشياء كثيرة. منها سبب وجود الموت مثلا. فهو ميكانزيم ضروري للحياة والتطور. ولولاه لأكل الناس بعضم البعض. وبتنا نسير فوق أجسام الناس من الزحام. وأكلنا الطين وسقفنا التراب إن كان يكفي. لكن الكبرياء وانتفاخ الأنا عند الإنسان، هو الذي يجعلنا لا نرى كيف تعمل الطبيعة لما فيه خيرنا.

العلوم هي أملنا الوحيد لكي نحيا حياة كريمة تستحق أن تعاش. بعد أن زور المأجورون من رجال الدين تاريخنا وأدياننا. فالعلوم تحمينا من الجهل والنصابين والمزورين الذين يطلبون منا أن نلغي عقولنا ونغمض عيوننا ونصم آذاننا عن الحقائق حولنا.

السحر والشعوذة والدجل والحسد وغيرها، هي قوى غير طبيعية لا توجد إلا في عقولنا. مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. لكن لا أثر لها في أرض الواقع. نحن الذين اخترعناها، لكي نفسر بها بعض الظواهر المجهول سببها. فهل يمكن أن نثق في العلم كملاذ أخير؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى