الخميس ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

ترتيل الأمر، وأبواب الدخــول

مقـدمة:

كثيراً ما يعود الإنسان إلى موقع راحته المؤقت بعد كل سفر طويل عميق ويتأمل ما مضى عليه من أحداث وتجارب تخللت هذا السفر الطويل «50عاماً منه» والذي غالباً ما يكون الشعور والإحساس بمعنى هذه الحياة قد انفعلا من خلاله بداخله سلباً وايجاباً، وأن يعايش في صمت ذاتي تفاصيل كل هذه الأحداث المتباينة والمتوائمة، المعتدلة منها والعرجاء، وما نتج من جراء كل ذلك من تأثيرات على النفس أدت- بمرور التفاعل- إلى تكوين وإبراز بعض هذه المدركات (الآن) لتأكيد صدق الشعور القديم بأن كل الأشياء، كل الأشياء، عائدة إلى منابعها وإلى أصولها الحقيقية مهما طالت المعاناة أو زادت قسوتها، أو طال الفرح وزاد سروره، حتى في مجال العقيدة والسلوك، فلهما- كما أدركنا الآن أسساً متينة- وتفاصيلاً أدق، لا يقوم الإيمان المعافى إلا عليهما، شرعاً وعقلاً، وبلا تنافر.. حتى تلك الوجوه القديمة، تلك الوجوه المعروفة والمألوفة لدينا، والتي كانت في غابر تلك الأسفار تدعم إحساسنا بغربة الفكر والروح، وبالحيرة النفسية بكل ما فيها من وحدة ومرارة وضياع وتلهف، أدت يومها إلى الشعور بأن هنالك فراغاً نفسياً عريضاً لا عهد للكثيرين منّا به، لم نكن ندري إلى أين نتجه لسده وملئه؟! لقد أصبحت – اليوم– تدعمه بشيء آخر أكثر بريقاً وأصالة، جذب لنا الرفق بها، والشفقة عليها، وملأ قلوبنا بالمحبة حتى فاضت سؤالاً عنها: أين هي الآن؟ وكيف هي؟

وبمعنى جديد كل الجدة لماهية هذه النفس الواضحة الخفية! وما فُطِّرت عليه من قدرة وقابلية تقود- إن أراد الله - إلى ينابيع الحب المطلق بهذا الإله الواحد الأحد، العزيز الحكيم، وإلى الارتواء العميق التام من سلسبيله الفيّاض، حيث لا إحساس أبداً بالعطش بعده؟!

الآن فقط أدركنا أن العقل يعقل الماضي، كل الماضي في (آن) في لحظةٍ من لحظات التوقف الباطني النادرة، التي أحسسنا فيها بتخلص مجرى التفكير من اندفاعه ذلك الحاد، القلق، المضطرب، أيام عنفوانه وبحثه عن الجديد!! وبأن الهدوء الفطري والاستقرار المنشود لهذا القلب ولهذا العقل قد عادا بهما إلى ارتباطهما الأزلي حيث سكينتهما وطمأنينتهما، كما يعود الربيع الأخضر متثنياً هنا وهناك، وقد حُلَّت كل العقد، وانحلت كل الطلاسم، وانفرجت الأسارير، وأصاب النفس شوق لا يوصف، حتى صارت تلك المرحلة من الحيرة والاضطراب- الخالية تماماً من الشك في وجود الخالق الحكيم - هي مفترق الطريق الأول الذي قاد إلى ما عليه الفرد منّا الآن من حنين دفين إلى هذا المهيمن الحكيم، وإلى ما عنده من ودٍ وحنانٍ، بفضل منه ورحمة، وأن تكـون هي آخر المراحل الإنسانية لاستعادة كل التفاصيـل، وإن دقت، مجسدة في شخصه وفي الآخرين، مع ظهور أو خفاء العلم بها، بل وكأن الفرد منّا ينظر الآن إلى النبي- الخاتم- صلى الله عليه وسلم– يحكي نبياً من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، يقول: «اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

ويا لقداسة الذكرى ويا لسرها، إنها هي التي تعود بالإنسان إلى جذوره الأولى، حيث الروح عندها بلا صفة، تماماً كالهواء نشكو الخصوصية، ولا نجد لقليل الأسئلة من إجابات، ونُقسِم- رغم هذا - بأن لا إجابات إلا في عمق أعماقنا، وفي طيِّ هذا الجوع الفريد لإدراك كنه تلك الحقائق الخفية، ولا شبع يقيناً إلا بعد العودة إلى ذلك العالم الحق الأصيل فإن كان الموت هو آخر لحظة من الدنيا، فهو كذلك أول لحظة من الآخرة!! وقبل بلوغه تظل هذه المعارف الإلهية هي ينابيع الارتواء المؤقت، والطريق الصاعد أبداً إليه، حيث تستجمع النفس قواها عندها، وشوقها، كلما هدّها تعب المعيشة نهاراً، وسر الليل قياماً، وأرقتها الضراعة والمعاناة، والشوق إلى الله عنيف، وحبه أعنف، إن تمكنّا من الإمساك بتلابيب هذه النفس «حتى تورمت قدماه»!!

وتظل كذلك منارة تأصيلٍ وهدايةٍ واستنهاضٍ لكل ما سنح ويسنح من نفس تواقة تنشد الرفعة، متى وأينما وُجدت، فـ «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النَعَم». ليكتمل الإدراك عند كل مؤمن، وتتأكد صحته، وبأن الأمور التي كنّا نحسبها شراً دخيلاً هي أمور لابد منها للوصول إلى الخير، وبلا عودة، بل إن الشر قد يكون مرقاة إلى الخير!! «.. ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون» " آ ل عمران 135". والرسول- عليه الصلاة والسلام- يقول: «والذي نفسي بيده لو لم تخطئوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيُغفر لهم» ونتيقن بأن هنالك من العلم- حقاً- ما هو كهيئة المكنون الذي لا يعلمه إلا من أراد الله به خيراً، فإذا نطق به لم ينكره إلا أهل الغفلة.

نعـم، هذا هو هدف المعرفة للعالمين، أن تنتشل الغرقى من أوحالهم، والغافلين من أوهامهم، والحالمين من أحلامهم، ولا بد- بعد هذا السفر الطويل، والجهاد الخطير من وجود صورة تقوم بالنفس، هي ما يمكن أن نسميها بـ «ميزان المدينة الذاتية»، حيث يتضح مدى ارتباط الظاهر بالباطن، والباطن بالظاهر، وتبرز لنا أبعاد وظلال هذه المدينة العلمية النفسية المتسعة، فيزداد العلم بها رسوخاً، وتستقر- إلى الأبد - صورة هذا العلم في القلب بعد العقل، وتنحل كل قضايانا، فيصبح هذا القلب هو ميزان هذه الذات بعينه!!

وما العلم- كما ذكروا - إلا امتداداً لمعرفة تلك العلاقات المتداخلة بين تلك الظواهر وتلك البواطن، واكتشاف هذه الصلة بينهما بقصد العثورعلى منشود يضاف إلى المعرفة الإنسانية، قابل للتحقيق والاختبار والتأييد والدهشة، وربما كان سبباً في تغيير الكثير والكثير من المفاهيم الموروثة التي تشوب معتقداتنا، وفي فتح عدة أبواب ما زالت مغلقة.

نواصل في حلقات قادمة بإذن الله تحت العنوان أعلاه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى