السبت ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٧
خيالات دكتور بارنسوس:
بقلم مهند النابلسي

تسفيه فكرة الخلود وتقبل مرارة الواقع

معالجة «سيريالية» لثيمات العشق والسحر والتهريج والاحتيال واللغة السينمائية!

يحذر مساعد بارنسوس «بيرسي» (فيرن تروير) قائلا: قول الحقيقة هو دائما فكرة سيئة!

والحق أن معظم الفنون ومنها السينما تلجأ للدراما والمبالغة وشيطنة الاحداث بغرض الجذب والاثارة، من هنا تستند فكرة هذا الفيلم للخلود والحب والسحر ودور الشيطان في مواجهة قسوة الواقع ومرارته!

يملك دكتور بارناسوس موهبة خارقة تتمثل في قدرته على نقل التخيلات للاخرين بواسطة السحر ومهارات مجموعته الكرنفالية المتنقلة، والمكونة من قزم حكيم ماهر ومساعد محترف متعدد المهارات وابنته الباهرة الجمال، حيث يقدم للزبائن فرصة الانتقال لعالمخيالي مدهش بواسطة مراة سحرية وباسعار باهظة، وتسمح له علاقته المزمنة مع ممثل الشيطان (مستر نيك) بانجاز هذا الانتقال والعودة ثانية، وذلك مقابل أن يحظو هذا الاخير بابنة الدكتور (ذات الست عشر ربيعا),ولكن فالنتينا تحب توني الغريب الجذاب.

وبهدف انقاذ ابنته واعادة الاعتبار لذاته يقوم "بارناسوس" بعقد صفقة اخيرة مع مستر نيك تتمثل في ارسال توني وفالنتينا والقزم الحكيم بيرسي في رحلة اخيرة (ذهاب وعودة)، دخولا وخروجا من لندن وريفها المحاذي بطبيعته الخلابة! ما شدني لمشاهدة هذا الفيلم هوعنوانه الغريب الطويل، ولكنه بدا لي بلا هوية وكأنه مركب من قطع متناثرة غير متناسقة، حيث تتقاطع أحداثه ما بين التهريج أحيانا والسحر والخيال الجامح مع تداخلات وايقاعات الحياة العصرية في لندن، وتكمن ميزته في معالجته لموضوع الخلود البشري، فالدكتور بارناسوس يزيد عمره هنا عن "ألف عام"! ولا يجد حلا لمعضلة الزمن والديمومة الا بالتواطؤ مع الشيطان ليخلصه من كابة ورتابة حياته الواقعية ويدخله في متاهة الخيال والسحر مانحا اياه قدرات خارقة.

يبدو الفيلم تقليديا في معالجته لاشكالية الحب والعشق والغرام، من حيث تعلق الجميع بفالنتينا ذات الوجه المستدير كالقمر (لعبت الدور ببراعة ليلي كول)، والتي تتعلق بدورها بحب أنتون اولا (أندرو جارفيلد)، قبل أن يظهر توني (الراحل هيث ليدجر الذي أبدع في فيلم الفارس الاسود)، ومن ثم ينضم للمجموعة وهو فاقدا لهويته وذاكرته. وبعيدا عن أوهام وترهات الشيخوخة والخلود والاعيب الشيطان الخبيثة، فالفيلم لا يخلو من بعض المشاهد السيريالية الآخاذة، ولكنه سرعان ما يفقد احساسه بواقع الاحداث ويشطح بعيدا فاقدا القدرة على تقديم عمل مميز مترابط, حتى أن ايقاعه يصبح "غير متوازن"، فهو بطيء مترهل في نصفه الاول وسريع مستعجل في نصفه الثاني!

يبدع "ليث هيدجر" كعادته في دور توني المقدم على الانتحار، والذي شوهد معلقا من أنفه تحت جسر على نهر التايمز، حيث يتم انقاذه من قبل المجموعة قبل أن ينضم لهم ويشارك بحماس في المهمات السحرية الصعبة، وربما ساهمت ميزانية الفيلم المحدودة نسبيا في كبح جماح المخرج "جيليام"، حيث تبدو العديد من المشاهد وكأنها غير مكتملة وغير قادرة على الاستمرار بابهار المشاهد كما هو الحال في الافلام المشابهة. ولأن هيدجر قد توفي قبل اكمال هذا الفيلم، فقد تم استبدال دوره في العديد من مشاهد الخيال بثلاثة ممثلين في مشاهد متتابعة دون ان نشعر بتأثير هذا التغيير الذي بدا وكأنه جزء من السيناريو، وهنا تكمن ميزة المخرج الذي نجح بتلقائية في ادخال ادوار الممثلين الثلاثة "جوني ديب وجود لو وكولين فاريل" وكأنهم اقنعة للبطل الرئيسي في كل مرة يمر خلالها بواسطة المراة للعالم السحري! ولا شك أن هؤلاء الثلاثة قد ساهموا في انقاذ هذا العمل بعد رحيل البطل وربما تخليدا لذكراه، كذلك لا بد من التنويه ببراعة الممثل الكوميدي القزم "فيرن تروير" الذي لعب دور بيرسي الساخر المتشائم بطريقة استثنائية... يتناول هذا الفيلم مواضيع جدلية مثل السحر في عالمنا المعاصر، واشكالية الخلود وفقدان الهوية والذاكرة والضياع والحب العبثي والتطهر ودور الشيطان التحريضي، وكيف أننا كبشر سنبقى ما عشنا تائهين مابين واقع مرير وسعادة وقتية مزيفة وخيال جامح ما ورائي، وربما هذه هي المعادلة ذاتها التي تبقينا محافظين على توازننا وسعادة واستقرار وسلامة وجودنا الدنيوي مع قناعتنا بعبثية وجودنا وتأثير الزمن المرعب والنهاية الحتمية! حتى أن امرأة في الفيلم تبدو مستعدة للتخلي عن كل ثروتها ومقتنياتها مقابل الدخول عبر المرأة للعالم السحري والاحساس بالنشوة الروحية لبرهة زمنية وجيزة، ومن ثم العودة ثانية للواقع وهي في قمة السعادة!

الشيء الملفت في هذا العمل هو استخدام الدكتور "بارناسوس" وفريقه الكرنفالي لغتين: لغة شعبية ذات تعبيرات دارجة واسلوب احتيالي "سوقي" لجمع الاموال، ولغة ميتافيزيائية ذات طابع سحري سواء عند التعامل مع ممثل الشيطان أو أثناء عبور المرأة السحرية، كذلك فقد تقمص الممثل "كريستوفر بلومر" شخصية الدكتور بارناسوس بشكل فذ، وأعطانا الانطباع بأنه خالد يزيد عمره عن الالف عام (فبدا أشعث أغبر بملابس رثة بالية لكائن أثري منسي)! كما "تماهى" تماما مع مأزق وملل الوجود الحياتي الطويل، وبدا في المشاهد الاخيرة بالغ الغبطة والفضول وهو يتأمل عن بعد ومن خلال مطعم لندني أنيق سعادة ابنته مع زوجها الشاب وابنتها، وكأنه يتنفس الصعداء لتخلصه من صفقته العابثة مع الشيطان (ولعودة الامور لمسارها الواقعي)!

عالج المخرج "تيري جيليام" خلطة المواضيع الجدلية هذه ببراعة فنية وشغف ولكن عدة أسباب منعته من تحويل هذا العمل لتحفة سينمائية خالدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى