السبت ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم ميمون حرش

تـكــلم

كان جد "باسيل" بطل رواية "زوربا" اليوناني يخرج بفانوس إلى الخارج بحثاً عن غريب تائه ، يستضيفه في داره ، يطعمه، ويكرمه،ثم يطلب منه أن يسدد دينه بقوله له "تكلم"، ويبدأ الضيف في" الحكي"، وينتشي الجد مما يسمع من أخبار، وأحاديث، وحكايات، وكان يكتفي بما يسمعه من ضيوفه دون أن يغادر أبداً القرية التي يعيش فيها..هكذا أحب الحياة دون أنْ يضرب في الأرض.

لا أحد اليوم يخرج بفانوس ليبحث عن غريب من أجل أن يسمع منه كلاماً عن العالم الخارجي، ربما لأننا جميعاً غرباء، والبحث عن واحد منهم في زمن فيه دش، وهاتف نقال، وإنترنيت هو بشهادة العقلاء ضرب من الجنون..ومع ذلك لا بد من انتظار ما ندري ولا ندري مذْ أخلف "غودو" وعده؛من يدري لو حضر، في الوقت المناسب، لكان كمن يسمع مصمتاً لذلك فحسناً صنع. ربما.

جد "باسيل" مع ضيفه ذكرني بعمي "أعنان" ،في سنوات السبعينيات، كان لقائي به يتجدد كل مساء، بعد أوبته من عمله في "كتامة"، لم أكن أستجديه ليتكلم بل كان يكفي أن ينظر في عينيّ الصغيرتين الغارقتين في حوض من الكحل الطبيعي من مرض، فيبدأ يحكي، حينها أسمع حقائقَ، وخرافاتٍ فتنبسط أمامي، في الحيز الضيق الذي نتقاسمه في الجلوس، والذي يربط بيني وبينه، عوالمُ غريبة أغرق في طبيعة ناسها، وحيوانها، ونباتها وجمادها. في الكثير من حكاياته تبدو هذه العوالم مختلفة تماماً، لا شرخَ فيها، ولا نشاز، ولا اعوجاج، وإنْ وجدَ واحد فمن "أبجديات التصرف"، يقتضيه تنميق الكلام؛ كان عمي يطلي حكاياتِه بالماكياج، ويخرج دائماً"مُلوناً" من مواقف حياتية صعبة بذكاء بطل خارق..

في بيت من الطين ، نعدم فيه لا التلفزة بل حتى "الفانوس"، كان عمي هو عالمي المفضل، كان تلفزتي، وفانوسي، ومذياعي .. ومع ذلك لم أكن أصدق كل ما يقوله؛ لأن العائلة كافة كانت تُجمع على أنه مجرد "حمو رحرايمي"، وما كان يذهلني فيه هو قدرته الخارقة على "الكذب"، يعقده مرة، ويسحله أخرى، فلا ينتهي منه إلا وهو مفتول مثل الكسكس الذي تصنعه أمي بيديها الكريمتين، قطعة متراصة يخرج الكذب من فيه المليء بالأسنان بشكل فوضوي مقزز [مرات عديدة تساءلت لِـمَ لم تكن هذه الأسنان تحد من جموح كلامه المسترسل] ،وما على المستمع سوى أن يفغر فاه على نحو يجعل منْ ينصتُ له يطلب المزيد من كذب "أعنان" وبإلحاح الظمآن.

وفي أكثرَ من مقطع من حكايات عمي كان يعرف كيف يجعلني أتمنى أذناً ثالثة في رأسي، مُصغية بشكل جيد، ومُلتقطة لتفاصيلَ تغيب عن النظيرتيْن.. لم يدخل عمي مدرسة ألبتة، لكنه كممثل يؤدي- كلما تكلم- دوره بنجاح، ويتفنن كيف يمطط في حكاياته، وكيف يجعلك تتبرم من تفاصيله حين يوقف "الحدث" راغباً في ذهولك، وتاركاً التصعيد الدرامي أن يقول عنه.

"حكّاء"، هكذا عرفت عمي، وفي العائلة يعزون كلامه الغزير لنبتة " الكيف" المخدرة، والتي كان يجلبها من " كتامة"، و لم يكن يحلو له تدخينها إلا إذا براها بنفسه،وقطعها بيديه.

إنها نبتة الكيف إذاً !.. هكذا فكرتُ آنئذٍ.

إنها المخدر الذي تمنح لعمي طاقة الكلام، ومها يكن، اليوم كبرتُ، وأعرف كثيرين يدخنون، ويشربون، لكنهم يمارسون دور أبي الهول، يغرقون في صمت أبدي، لا تكسره سوى أمواجهم النفسية في الداخل.

يقول عني أصدقائي بأني أستمريء الصمت، أدمنه معهم في جلساتنا، وفي البيت يقل كلامي مع أولادي أيضاً، وبشكل لافت؛ ولقلوبكم الطيبة أعترف بأن هذه الاعترافات/ الملاحظات من أحبتي تستفزني ،إذ كيف أقول لهم بأني مدرس، ولا أجيد غير لوك الكلام حين يفرض نفسه عليّ عن طريق اللاشعور من جراء الوظيفة،فمهنة التعليم تغلب الطابع التفسيري و خاصية الشرح و دعوة التلقين ؛ أقف أمام تلامذتي، عيونهم تروزني، وتقول أفواههم دفعة واحدة وبلغة أعرفها: "تكلم". وأثرثر لأجلهم ،وفي الميدان، أما خارجه فأنا مجاهد مستريح، وصائم عن الكلام، لذا حين أسمع هذه الملاحظة من الأوداء أضحك في داخلي، وفي جميع الحالات لو يدركون كم أتحدث مع نفسي..!

لست أدري ممن ورثتُ الصمت اللعين، مع أن العدل أن يحصل العكس مع شخص عاش مع عمٍ مثل أعنان.

لماذا أصمت كثيراً ، طيب ؟!..

أخبرتُ مُحاوري، يوماً، بأني أعشق الصمت، أغرق فيه، وأنهل منه، وتشغَل شعابي جدواه، وما قصصي التي أكتب سوى تعويض، وإني أكتب لأستثير ثرثرتي حتى إذا مارستُ طقس الصمت أغدو خفيفاً جداً في الوزن كالعصفور ، وطمعاً في أن أكون ثقيلا في الميزان، أترك نفسي على سجيتها،أقول لها بحدة: "تكلمي الآن"، ويركب داخلي عفريت ثرثار، حينها فقط أترحم على صمتي، وأترجمه إلى إبداع، ولا أبحث في كتاباتي سوى عن أن أكون ثقيلا، ولا يسمنني أو يغنيني إلا الكلام.

هذه الثرثرة الأدبية سيلتفتُ إليها الناقد المغربي الكبير ميمون مسلك في ملاحظة بعثها إليّ عبر دردشة أدبية جميلة، يقول فيها: "أنت موهوب لا شك في ذلك، و كتابتك لها منحى خاص و متميز... و لكن تختار السارد (الثرثار) أو السارد الذي يفضح الأسرار.. فمشكلتك مشكلة سارد[...]".

أفهم جيداً مشكلتي.. إنها الثرثرة السردية،فهل أصوم عن الكلام، في الوقت الذي يبحث عنه غيري؟

و كما زوربا، سأحمل فانوسي/ قلمي، وأبحث عن ضيفي الذي في داخلي وسأقول له آمراً :" تكلم"..

وسأتكلم! فما أنا سوى كلمات..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى