الخميس ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم جورج سلوم

تقلّبات

نعم.. كان يتقلّب في فراشه ولن يخلد إلى النوم بسهولة..

يتوسّد مخدّته ذات اليمين وذات الشمال فيحتفر فيها أودية ونهوداً،ويغمض جفنيه قسراً فلا يلتصقا.. ويشهر طرفه السفليّ من تحت اللحاف كرأس السلحفاة المتوجّسة فيلدغه البرد ليعود إلى إغماده في قوقعة طرية من الأغطية السميكة.. لا دفء في سريره يستدعي التعرّي ولا طراوة تدفعه للاسترخاء.. ويعرك جسده في الفراش كمن يسبح في بركة من الجفاف فلا يغرق ولا يستغرق، وكلّ وضعيات النوم لا تناسبه.

ليس مُنهَكاً جسدياً لأنه بصراحة لا يعمل الكثير..مجرّدُ موظّفٍ حكوميّ وسيأخذ راتبه في آخر الشهر كاملاً إن تواجد في مكان وظيفته فقط تواجداً.. كجسدٍ بلا روح.. العمل والإنتاج ليسا مطلوبين في دائرته الوظيفية.. المهم أن يتواجدَ على رأس عمله فقط.. نائماً على طاولته.. مسترخياً على مقعده.. لا يهمّ.. إنه موجودٌ وكفى..

وقبل أن يخرج من بيته يقلِب روزنامته المعلّقة خلف الباب.. ليبدأ يومه الجديد.. ولا جديد فيه إلا من أيام تنقلب على ذاتها كنسخةٍ عمّا مضى.. كعملةٍ نقدية لها نفس القيمة مهما انقلبت وتقلّبت.. ويقولون إنّ الآتي أعظم، لذا التوجّس والخشية موجودان مع كلّ انقلاب.

يخشى من انقلاب الريح عكس ما تشتهي السفن ويخاف من تقلّبات الجو.. ولكنّ الغيوم التي تظهر في سمائه مجرّد أدخنة وسحابات غبارية غير ممطرة ليس إلا.. كما يبدو قهوته يشربها وشايَه ودخانه أيضاً.. وقد يتناول فطوره الذي جلبه معه من البيت على طاولة عمله.. مثله مثل غيره.. يتسلّى في مكان العمل ويقتل الوقت.. يتقلّب على كرسيّه أيضاً ولا يجد طريقة مريحة للجلوس.

ولن يفلت هاتفه الجوال من يده طوال يومه حتى في مرحاضه.. يتواصل عبر مواقع التواصل وينشط فيها.. وقد يتواصل مع زميله المجاور في العمل والذي لا يبعد عنه أكثر من متر عبر الانترنت.. وإن داهمه الملل من الوصال الاجتماعي ينتقل إلى لعبته الذكية التي لا تنتهي حلقاتها.. يربح شوطاً فيشعر بالسعادة والإنجاز والتقدم والإرتقاء من مستوى إلى آخر في لعبته فقط.. ولكنّه بالواقع باقٍ في مكانه.. ولا يقلقه إلا العمر الذي يمضي وينفذ كبطارية هاتفه وما من طريقة لإعادة شحن العمر.

يتقلّب في مكانه.. خشية الانضغاط العصبي لأعصاب وركه التي تحمل ثقله.. وقد قال له الطبيب أنّ هناك انقراصاً فقرياً في ظهره ورقبته وهذا مرضٌ مهنيّ لموظف يجلس ثلث يومه خلف مكتبه.. وإن كان غير منتج ولا يعمل شيئاً له قيمة ويعود إلى بيته والبيضُ المقليّ طعامُه اليومي تقريباً يحتاج إلى تقليب لأنّ نيران المواقد كجهنم موجودة في الأسفل فقط.. فتتقلّبْ بيوضه المخفوقة ويتداخل آحها بمحّها في فوضى خلاقة تتشوّى بهدوء وبتؤدة.

ويتقلّب في سريره في قيلولته وعيلولته..فلا يجد جانباً منه يرتاح إليه.. ويتقلّب على مواجعه ليُخفيها وينام عليها..أو يحضنها أو يدفنها وإن كانت لن تموت.

يقلّب أيضاً قنوات التلفاز بشكلٍ عشوائيّ حتى لتحار القنوات الفضائية كيف ترضيه كأنها تعيد أخبارها تجترّها،أو كأنّ نشرات الأخبار حلقاتٌ مسجّلة يعيدها مذيعون مختلفون.. ماذا يجري في بلاد الواق واق؟.. إنها حكاية ليلى والذئب حفظناها.. ويعيدونها ويختلف التفسير والتمحيص والتحليل والتدبير..انقلبي وا قنواتي التلفزيونية ولا شيء جديد.

يحسد زميله الخمسيني المتزوّج ويراه يتجدّد كل يوم بلباسه المكويّ وعطوره الفوّاحة وشعره المصبوغ بالهباب.. كأنك أصغر مني يا صديقي وأنت تكبرني بخمسة عشر عاماً.. إنه الزواج السعيد.. ويبتسم الرجل ويمسك شاربَه ويحاول أن يقوّمه فلا يستقيم فيبلله بطرف لسانه ويعاود تقويمه فتأبى شعيراته إلا أن تتدلّى مثقلة بهموم السعادة الاصطناعية..

هي المرأة إذن.. هي السرّ الذي يجعله هكذا جديدا متجدّداً.. هي المرأة وهي التي تنقصه..
هي المرأة التي يريد ويحلم أن يتقلّب فوقها في تقلّباته الإنقلابية.. وتتقلّب هي عليه وتقلّبات المرأة مستساغة ومبرّرة بل ومستحبّة.. وتتقلّب في سريره أيضاً ولكن يبقى قلبها معه
هي المرأة التي قد تملأ فراغاته..وتضع النقاط فوق حروفه..فيتقلّب بين سطورها وفوق كلماتها.. يشكّلها ينوّنها يشدّدها وقد يعيد تأكيدها.. يحتويها بين قوسيه ولا تعترض على معترضاته..

يتعلق بجدائلها كالأرجوحة في مدينة الملاهي، ويخشى أن تنقطع حبال ودادها لكنه يكون سعيداً مشغوفاً فيتمسّك بها المرأة هي العنوان الذي ينقص النص الذي يكتبه.. وهي محور أحداث قصته.. ولكنها ما زالت مجهولة الإسم وبالتالي فما كتبَ كتابَه حتى الآن.. ولا يُكتَبُ كتاب العمر إلا على المرأة وكل كتاباته الأخرى مجرّد صحائف جرائدية وقتية.

تنقصُه امرأة حقيقيّة وليست افتراضية في حلمٍ أو احتلامٍ عابر..امرأة يراها بعينيه وليس بعيونه المُغمَضة يتخيّلها..يكفيه ما احتفظ بذاكرته وذاكرة هاتفه من صور..لنساء تتقلّبن في الأسرّة الوهمية والسرائر والذواكر والضمائر المستترة جوازاً أو وجوباً.

امرأة حقيقية بجسد وكيان يلازمه ويواكبه ويناكبه ويلاعبه..ولكن أين هي؟

الزواج ليس حلاً..فلا استعداد له وأرضه المتقلبة لا تحتمل بنياناً لزواج ناجح..مشروعٌ مؤجّل ريثما تتحسّن ظروفه.. وقد يصادفها كضربة حظ.. وقد يلتقي بها فجأة لتنتشله من فقره.. وتنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها.. والمطلوب جانبها الأول..وبعد المال يتقلّب إلى جمالِ غيرها إن لم تكُ جميلة.. والدين أسهل المنقلبات فبتوبةٍ نصوحة واستغفارٍ عابر تُشطَب الخطايا..وإنّا إلى ربنا لمنقلبون.

والزميلة - وإن أعجب بها - ليست مشروع زواج مؤكّد فهي تتقلّب أيضاً منه إلى غيره.. متعدّدة الأوجه والجنبات.. متقلّبة كالنرد وكلّ وجه يعطيك رقماً..وكلُّ رمية ستكون أمام حظك في الوجوه السداسية التي تحملها.. وخانة (اليك) محصورٌ بها وما يزال ويعاود رمي نرده.. وقد يربح في لعبة طاولته.. وهذا لا يعني أنه سيربح على الدوام ويقبّل النرد قبل أن يرميه ويسمّي بالله على نية (الدوشيش).. ولكن كلّها في النهاية تقلّبات في طاولة النرد الخشبية التي تنغلق على أحجارها البيضاء والسوداء..ولنتابع غداً لعبتنا ولا جديد..

اقلب فنجانك أيضاً وتبصّر في ترسّبات القهوة وتضاعيفها لمحاتٍ عن مستقبلك.. بياضٌ وخرائط سوداء يصعب تفسيرها اقلب ساعتك الرملية فيعود تعداد زمنك من جديد، مع أنّ حبّات رملها لن تزيد اقلب كأس الماء على الطاولة.. والماء المهراق يستحيل جمعه اقلب طاولتك كلها..فما فوق الطاولة ليس كما تحتها.. وقلب الطاولة نوعٌ من الثورة.. مجتمعاتنا تتقلّب وتنقلب على بعضها ودائماً نحن العرب –عاشقو التاريخ – نجد لاحقاً أنّ انقلاباتنا كانت خاطئة، ونكتشف أنّ جديدنا أسوأ من سابقه اقلب صفحتك أيضاً..عسى أن تكون الصفحة التالية أفضل وقلبُ الصفحة نوعٌ من الهروب إلى الأمام!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى