السبت ٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

توهج النهايات عند صمويل بيكيت

تتوازى كتابات صمويل بيكيت المسرحية، والنثرية مع تجدد البدايات الاحتمالية للتكوين الإبداعي، والكوني معا، فالعنصر الفني – الكوني عند بيكيت يتجاوز حالة التميز، واكتمال الوجود في الفراغ، إذ إنه يعمل داخل مجال من المحو، واحتمالات التداخل، ومعاينة النهايات ضمن لحظة البداية نفسها. العلامة في كتابة بيكيت تنقطع بين الوقفات، والفراغات الكثيرة لتصنع مسارا يسخر من وجودها الفريد المكثف في النص، ويعيدها إلى الأداء خارج التمييز، والحدود الشخصية. العلامة هنا طاقة غير متعينة أبدا، لا يمكن وضعها في إطار اتصالي، كما لا يمكن تدميرها أيضا، فهي تتشكل لتفقد للتو ما صنعه لها الوعي من صور، وتأويلات، لتسائل الوعي نفسه، من خلال الإغواء بالخروج من التفكير ضمن حدود المركزية الإنسانية، ووظائف الإدراك إلى العمل الطيفي/ التمثيلي كحالة يعاين الوجود من خلالها مراياه، وفراغاته كوحدة للبناء لا تقوم على الامتلاء، والتسلسل، ولكن على الكثافة الخفية الأسبق من الحضور في حالة عمل يميز مسرح بيكيت، لأن النقطة المؤدية تراوغ حدود التكوين، والعدم، والتعيين بواسطة الوعي بما تثيره من أخيلة، وتأويلات، ومسارات نلمح من خلالها الوجود كأثر.

في مقاله "أدب الصمت" كتب إيهاب حسن عن نزعة الانتهاك في كتابة بيكيت، ويميزها بخلق عالم مستنفد من الحياة، لدرجة أن لا شيء يعوزه الطوفان ليجدده، لهذا فهي تقترب من غياب الانتهاك (راجع/ إيهاب حسن/ أدب الصمت/ ت: محمد عيد إبراهيم/ مجلة إبداع – عدد 11 – سنة 1992).

إن عوالم بيكيت تجدد ما قبل الحضور مكتملا، وإعادته مرة أخرى، ولهذا أتفق مع إيهاب حسن في خاصية استنفاد الحياة، فشخوص بيكيت يستنفدون الحياة قبل لحظة المعرفة، والحضور الشخصي، ومن ثم إمكانات تجدده، فالمتجدد هنا هو الأداء الكثيف الممزوج بانقطاع داخلي يمثل بحد ذاته التكوين، هل هي فاعلية للمحو؟ أم أن الاسم يتجدد ضمن أخيلة العبث المصاحبة للبطل التراجيدي نفسه؟

في مسرحية صامتة له بعنوان "أداء بدون كلمات" يجرد بيكيت الفعل من التحقق، أو الإحالة إلى الفاعل عن طريق محاكاته للفراغات التي تعقبه، وتتحكم في نشوئه، في مادته الأولى، القوة العمياء المتلاشية عن طريق الفعل/ الفراغ، حيث يدمر الفعل نفسه قبل أن يولد، أو ينسب إلى الشخصية.

قد يبدو الفعل عند بيكيت ميكانيكيا، متكررا دون غاية، ولكنه في الوقت نفسه يسخر من آليته بالانقطاع عن النتائج، والجدوى، والتطابق مع الفاعل، فالشخصيات تتبادل المواقع على المسرح دون تمييز بينها، لتظهر الأداء في صورة تجمع بين الطهارة، والجمود في آن، إذ تصير الأفعال نقية عقب تدميرها للسخف الميكانيكي السابق، هل هي براءة الأداء من دون كلمات، أو تاريخ، أو وعي فردي؟ أم ثورة للفراغ داخل منطق الفاعلية اليومية، لتكشف عن رعب التكرار، ووهج انشطار الأداء حين يفرق الضمير الشخصي بعيدا عن إطاره الواعي؟

ينسحب الشخص "إى" باتجاه الرداء، ثم يرتد، ويلبس قميصا ثم يفكر طويلا، ويخرج زجاجة من الحبوب، ويفكر، ثم يتناول جرعة من الدواء، يخرج جزرة من جيب المعطف، يقضمها ثم يشعر بالاشمئزاز منها، ثم يزحف مرة أخرى، وتتوالى لحظات التوقف، وتناول الحبة، والتأمل مما يعزز من تأويل النقطة الفاعلة بالتلاشي عن طريق عبث الأفعال ونبوءتها الخفية بالتوقف الأبدي الملازم للأداء، وقد اختار بيكيت هذه الأفعال البسيطة ليؤول من خلالها الأداء حين يثور على آليته الإنسانية باستبدال قوة الشخص، بالنقطة غير المحددة التي تمنح الأداء قوة الوجود التي تستلب الشخص في دائرية مجردة فتذوب الحدود بين الممثل، وحالة المسرحة حين تكتسب طابعا يوميا تكراريا.

أما الشخص "بي" فيقضي وقته بين النظر في الساعة، والقيام ببعض التمارين، وتنظيف ملابسه، وتمشيط شعره، وغسل ملابسه، والنظر في خريطة ثم بوصلة، وتتوالى الأفعال، والوقفات، ثم تتبدل المواقع.

لقد ارتكز بيكيت على أفعال لا تقبل أن تتحقق مرة واحدة، فالتعامل مع الساعة، والشعر، والملابس لابد أن يتكرر، أن يصبح نبوءة بنهاية الفاعل، دون موته، ولكن بتجرد الفعل في مساحة كونية – يومية غير متماسكة تندمج فيها الأفعال، بالذوات، بالأشياء الصغيرة، وما تحمله من طاقة، وأخيلة، وفراغات، وصمت يستبق الحدث في نهاية المتكلم، والكشف عن تمرد لحظات الأداء، والوعي بعبثها.

إن الفعل يولد عند بيكيت حين ينتهي في الوعي بسطوته الميكانيكية، وتكراره في الوقفة، فيعيد إنتاج العبث بتذويب الشخص فيما تركه الفعل من فراغ لانتظار شخص قيد التشكل.

وفي مسرحية أخرى له بعنوان "الكارثة" ينتقل بيكيت من رصد الارتباط العبثي بين الفعل الميكانيكي، والشخصية، إلى استبدالها بالفراغ، أو تحويلها إلى مسخ تمارس عليه الأفعال المزاجية الآلية من الخارج، لقد تم تفريغ الشخص من الممارسة الوجودية، فصار فضاء للأداء، لا مصدرا له.

إن محو الشخصية رغم احتفاظها بالبطولة عند بيكيت يجسد تجاوز عبث استلاب الشخص باتجاه التوهج التالي لموته مباشرة، طاقة الحياة المحولة في المخرج، ومساعدته، والجمهور عقب خروجها من محور المسرحية/ البطل "بي". هذه الطاقة تثير تأويلات عديدة للفضاء الملتبس بين المخرج، والبطل/ الغائب ضمن سياق التدريب على ما بعد النهاية، وإغواء الوقوع في كارثة الممثل، حيث يعاد تشكيله في أخيلة تتجاوز حالته الإنسانية كليا.

لا يتذكر المخرج "دي" ملاحظاته السابقة حول وضع الممثل بي، فتذكره المساعدة "إى" بطمس الرمادي في الممثل، واكتمال تغطيته بالأسود، وعقب استفسارات المخرج عن الوضع السابق، نجده يستخف بها، ويأمر بنزع أردية الممثل ثم تغطيته باللون الأبيض، ثم يتردد بين إسقاط رأسه إلى أسفل، أو رفعها، وتتوالى الوقفات، وتسجيل المساعدة للملاحظات الجديدة ثم ارتكاز الضوء على الرأس، وعلو التصفيق ثم تلاشيه، أو موته.

هكذا يعاين المخرج بطولته الزائفة ضمن تجاوزه لجسد الممثل، وإرادته، فقد بدا بطلا آخر في عمل بيكيت، لكنه ولد من فراغ الممثل الأول، وانعدامه قبل أن يتكلم، أو يؤدي أو يتحرك وفق نقطة من خارجه، هل وجد الممثل؟ أم استبقته نهايته الخاصة في الآخر/ المحتمل، ففقد ملامحه؟

يثير المخرج إشكاليات تأويلية حول تناقض محاكاة الميكانيكية من قبل المخرج كممثل ليقتل من خلالها ظهور البطل، مثلما يضعه في بؤرة الضوء، وفي مركز حديثه مع المساعدة.
كما تكثر الوقفات لتحدث انقطاعا متجددا في تكوين البطل، وانتظارا لصورة أخرى مضادة لملامحه الرمادية الصامتة دون نهاية للصور، أو بداية لأن يتكلم الممثل أبدا.

يواجه الجمهور إذا رأس الممثل معلقا بين القداسة، والاختفاء فتنتقل أخيلة تدمير الممثل من الخشبة إلى وعيهم الخاص بتجدد المحو ضمن بناء الشخصية.

تبدو القدرة الإبداعية للخيال جزءا أساسيا من تشكيل الصورة الكونية/ الإنسانية عند بيكيت، دون أن تنتمي لوعي متعال، أو سياق مسرحي، فالكون يختلط على نحو وثيق بانطلاق التخيل التفاعلي المستمر، المضاد لما شكل من قبل من صور، ويذكرنا هذا التغير بانقلاب المخرج على تصوراته السابقة في مسرحية الكارثة، لكن نص " تخيل الخيال الميت " تزدوج فيه التداخلات بين العناصر الكونية، والمتخيلة، بالتلاشي المفاجئ، والمحو دون أن يسكن التخيل، أو يموت، أو يرتبط بحضور إنساني هنا، فنجد ظهورا للجزر، والمياه، والخضرة، والمباني المستديرة، ثم يغطي الضوء كل شيء بالأبيض ثم تشتد الحرارة دون أن تحرق الأسطح عند اللمس، وفجأة يطمس الظلام التكوينات، وتنخفض الحرارة إلى أقصى حد، ويضطرب العالم، ويهتز، ويبدو الشخوص كعلامات منعزلة تحمل المرايا، والسلاح دون مواجهة.

اللعب بالأبيض، والأسود يكشف عن أمرين:

الأول: تخييل الواقعي، والصلب، والجامد في حالة ملتبسة بين الظهور، والاختفاء ضمن صيرورة التغير.

الثاني: تجاوز كثافة الاسم، وما يحمل من مدلول فيما يخلفه من إيحاءات الحركة، واللون، أي يستنفد الاسم نفسه في الأثر، في الطيف الذي تخلفه تفاعلات الأخيلة الأرضية، واحتمالات التلاشي الكامنة في تعالي الذات لحظة نشوئها.

أما الأماكن، والأبنية فتنتقل من التجسد، إلى حالة اللون كإيحاء تخيلي، يكمن فيه الموت منذ البداية، والأشياء أمواج تمارس سرد ما فوق الانقطاع، وكأن الكون عند بيكيت يتجاوز حدوده ضمن سردية الانقطاع، والتخيل معا، فيبدو كتوهج دائم للنهايات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى