الاثنين ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

جان بودريار : الإنتاج المتكرر لجماليات التناقض

لجان بودريار Jean Baudrillard( 1929 – 2007 ) أثر ممتد في الذاكرة الثقافية يتعلق بخروجها الذاتي الانفجاري عن حدود الشمولية ، و الاستهلاك ، و سطوة العام المنتج للعداء الذاتي الانفصالي من داخله . إن الفن عند بودريار أثر سياسي تصويري خارج دوما من حدوده الخاصة في إغواء الآخر دائما ، إذ إنه لا مجال للحدود عند بودريار ، و لا مجال لاستقلالية تكوينية بعيدة عن التناقض و الثراء الدلالي التصويري في التشبيه الكامن في نسيج التكوين ، أو قل مع بودريار بثورة التكوين على حدوده في التشبيه و العكس .

لقد قاوم كل من جان بودريار ، و المعماري جان نوفيل في حوارهما المعنون بـ " الأشياء الفريدة " ، ترجمة رواية صادق – دار شرقيات والمركز الفرنسي بالقاهرة سنة 2003م – المدلول الجمالي المركزي لفن العمارة ، والذي صاحبه في الماضي حتى اكتسابه خصوصية بنيوية في جماليات الحداثة . وتأتى إشكالية هذا الحوار في ارتباط (العمارة) بالسياق الاجتماعي والاقتصادي للحضارة ، أي في ارتباطها بما يمكن تسميته بالواقع الإنساني أو المؤسسي . و هو ما يمكن تأويله في سياق مضاد لخطاب الواقع الإنساني المنتج له ؛ فالطابع النظري لجماليات التشظي والتفتيت في توجهات ما بعد الحداثة ، على مستوي الممارسات الفكرية والنصية يستحيل هنا إلى واقع يستبدل المدلول المركزي للأصل سواء أكان تاريخاً أم واقعاً. إن كتابة بودريار الحلمية أو الاختلافية حول مفهوم الزمن أو الصورة تنحرف هنا إلى الاستعاضة بذاتها عن ثبات مدلول الواقع من خلال علامات ينتجها بالفعل الفنان (جان نوفيل) في الواقع كتأويل إبداعي ووجودي لهذه الكتابة كفعل مغرق في انعدام التحديد ، ولهذه العلاقة الارتباطية و التحويلية بين ممارسة بودريار وإبداع (نوفيل) – فيما أرى – ثلاثة أبعاد تحقق تكوينا ً تحمل فيه العمارة آثار النص - هي :
1- وجود ممارسات جمالية جديدة متجاوزة للحداثة:
تتمثل جماليات ما بعد الحداثة في وعي المتلقي بأعمال الحداثة أو تلك التي تسبقها ، وذلك من خلال منظور تحريفي للأصل الذي وضع لأجله المبني ، أي أن بداية تشكل الوعي بوجود ممارسات جديدة – ما بعد حداثية – تكمن في إنتاجية التلقي لما هو غائب أو هامشي ، ويمكن من خلاله قراءة الأصل كجزء من لعبة التلقي ذاتها ، وبهذا الصدد يشير (بودريار) إلى المضمون الخيالي الكامن في واقعية برجي مركز التجارة العالمي وبروزهما ، فهما يعبران عن الاستنساخ في خيال المجتمع ، كمقاومة للأصل ، وإقامة التداعيات الافتراضية – للاستنساخ كظاهرة – محل الواقع. وهاتان دلالتان تناهضان محاكاتهما لما هو موجود مسبقاً . إن استنساخ كلا البرجين للآخر يدخل الواقع منطقة الوهم على هامش الحقيقة في فن العمارة . وكأن (الفراغ) عند (بودريار) يستنسخ الحقيقة الحدية لموضوع العمارة ، أو وجودها ، فيصبح مزيجاً من الامتلاء والخواء في وعي المتلقي ولا وعيه . إن المدلول الهامشي الأسطوري يقاوم ما هو قصدي أو محدد ، بل إن القصدية ذاتها – عند بودريار – تتجه إلى شاعرية مفرطة في الأحلام ، وامتداد الفراغ من داخل الأصل ، كأنه ظاهرة لها حضور رغم انعدام القصدية . أما (جان نوفيل) فيري أن (العالم الافتراضي) يكمن في واقع المعماري وطريقة إدراكه لوجوده في العالم ، فليست التكنولوجيا المعاصرة وحدها التي تجسد هذا العالم الافتراضي ، إذ إننا نحيا في شاشة كاملة ، ولذلك فجماليات الفراغ والانحراف تلازم أي حدث سياسي واقعي في وعي المتلقي. أما العمارة فتجسد ما هو مبهم في خالقها ، وخارج عن إرادته وهو في هذا يوافق رأي (بودريار) في أن جماليات ما بعد الحداثة تتبلور في نقطة إنسانية لا واعية في التلقي وإدراك العالم وفق جمالياتها ، ويشمل هذا الإدراك فنون الحداثة كافة ، كما أنه يتجاوز الأصل التاريخي لمفهوم الواقع . وتصل هذه الحركة إلى استبدال الواقع لذاته في اتجاه الأسطورة غير المرئية عند (جان بودريار) إذ يري أن المبني في مدينة (نيويورك) يتخطى حدوده ويعود إلى الفراغ وكأنه يمثل سفر الرؤيا أي يمتزج فيه ما هو سام بالكارثي في وقت واحد ، ولأشكال تجاوز الحداثة مظهر آخر يعلن نهايتها في التصوير والعمارة ألا وهو وجود ممارسات تعلن نهاية أفكار التقدم وتاريخ الجمال ، فبودريار يوافق بارت في كمون ما هو ثقافي في قلب الصورة الضوئية ، واستغلال ما هو مألوف كالمبولة ( عند مارسيل دوشامب) كحدث جمالي . إن الارتداد الواعي علي الزمن عند بودريار قد جعل الواقع محملاً بدلالات ما هو بدائي و متجاوز لمركزية الحداثة ، ويعني به اختراق المركزية . وبهذا الصدد يري (جنكس) أن مبدأ اللعب باللغات والتقاليد المعمارية ، يكسر القراءات المغلقة للشكل والصورة ، ويعلق علي مبني الجاليري في مدينة (شتوتجارت) بأنه يجمع شظايا معمارية متناثرة كقلعة إغريقية في موقف للسيارات (راجع – نك كاي – مابعد الحداثية والفنون الأدائية – ت /د/ نهاد صليحه- هيئة الكتاب سنة99 صـ4) هناك إذن تجاوز مقصود للهوية ولأحادية المدلول في مثل هذه الممارسات الجديدة للعمارة ، فالدلالة الوظيفية لموقف السيارات مثلاً تأتي مناهضة لأحادية هذا المدلول. إنه أحد عناصر تشكيلها الجمالي العيني ، إن المبني هنا يجرد مدلوله من وظائفه ، لتصبح إحدي جماليات التلقي والوجود الواقعي للمبني في آن. ويضرب (بودريار) في حواره مثلاً آخر لمتحف صغير في (نيس) يقع علي مسطح مائي غير بعيد عن المطار ، وقد ظل خالياً منذ بنائه ، فلم يعثروا له علي مضمون ، وكأنه متحف للفراغ. لقد أتي هذا المبني في وعي ولا وعي بودريار كصورة تستعيض عن الواقع والوعي وتستبدل مفهوم الوظيفية إلى إنتاج جماليات فريدة للهامش أو الخواء ذي المعاني اللانهائية . وقد انعكس هذا التصور علي فكر وممارسة (جان نوفيل) إذ يرى أن هناك نوعاً من الدارونية المعمارية ، تجعل من الزجاج (الآن) مادة مناسبة للتعبير عن التحول والقدرة والصيرورة ، كما أنه يجمع بين القوة وجماليات الاختفاء . فهل كان الزجاج بديلاً عن حدس نوفيل المعماري ؟ ، أم انتشاراً لمدلول الاختفاء من داخل القوة ؟ .

2- ازدواجية النص والعمارة فيما بعد الحداثة:
يجمع (نك كاي) فى مصنفه الذي أشرت إليه آنفاً بين تحليل جنكس للانحراف المقصود لممارسات ما بعد الحداثة المعمارية ، والتحليلات الأدبية التى قدمتها (ليندا هاتشون) لجماليات التناقض في روايات يمتزج فيها الوعي الحاد بالتاريخ وسخرية السرد من هذا الملمح. مثل مائة عام من العزلة لماركيز والطبلة الصفيح لجونترجراس والدودة لجون فاولز. العمارة مابعد الحداثية إذن تحمل دلالات النص الساخر من التاريخ والحامل لسماته من جهة الوجود ، والحلم بالوجود في الوعي المدرك وقصدية تجاوز فنون الحداثة. وأرى أن العمارة أيضاً تعكس جماليات الكولاج النصي المفتوح ، فوصف جينكس لممارسات العمارة المعاصرة يعيد إلى الذاكرة النصوص التي تتحرك علاماتها دون سيطرة المؤلف مثل نصوص بروست وجويس وماركيز وغيرهم. يؤكد هذا حوار (جان نوفيل) إذ يؤكد أن مفهوم فقدان المادة عند (مارسيل بروست) ينبغي أن يوجد في فن العمارة ويري أن البرج الذي لا نهاية له أحد مظاهر هذا المفهوم . وأشير هنا إلى نصية المفهوم من داخل وجوده في شكل معماري. إذ يختلط الجزء العلوي بتفتيت لمادة الوجود الواقعي من داخله فيما يشبه حدث الكتابة الأولى المناهضة لسلطة الخطاب . ومن جهة أخري يؤكد بودريار مفهوم المصادفة ، المأخوذ عن جماليات الكتابة وتطورها الاختلافي – في مجال العمارة ، ويمثل له بوجود مكان في لندن تجد فيه كل شئ تريده دون ما أتيت للبحث عنه وكأن متاهة العلاقات النصية القائمة علي استبدال وعي المتلقي والمبدع معاً كامنة في هذا النموذج. إنه تمثيل حي لتأجيل الخطاب المنتج في اتجاه تكاثر لا واع للأثر .

3- جماليات التناقض:
يكتب ر.ك ويلكيرسون عن (المماثلة الاستعاضية وبنية الحلم) عند جان بودريار ويري أن مايميز (ما بعد الحداثة) هو مبدأ إعادة الإنتاج للمماثلات الاستعاضية حيث يهتم الشخص بمماثلات الواقع أكثر من اهتمامه بالواقع فالنقاط المرجعية للصورة هي هذه النماذج المتخيلة (الفن المعاصر ع4 2002) و من هذه النقطة تسقط المحاكاة في نسختها الواقعية و العكس . لقد أصبح الوعي المدرك للتناقض هو النقطة التي يتبلور عندها الإحساس بوجود تغير ثقافي يشمل العمارة. أما الاستمرار في إعادة إنتاج هذا التناقض من خلال الممارسة الوجودية والفنية فهو السمة المميزة لنتاج ما بعد الحداثة الواقعي والثقافي – دون انفصال بينهما – في آن واحد. يري بودريار في حواره مع نوفيل أن خواء مفهوم (الراديكالية) يستبدل تاريخ فن العمارة وما يمكن نعته بأنه حقيقي فيها ، كما يذكر أن العمارة قد استنسخت نفسها في شي آخر يمثل نهايتها أو تجاوزها لحدودها الواقعية وكأنه يدرك الفراغ من داخل الانتصاب. لقد استحالت الحركة غير المحددة والخفية للفراغ إلى موقع للحقيقة دون امتلاك لها. وفي هذا تناقض تكويني واضح. أما (نوفيل) فيقرأ المبني وفق المساحة الفارغة التي ينتهي عندها المنظور ، وكأن صيرورة العمارة ولعبها يتجاوزان النزعة الإنسانية المركزية السابقة. هكذا يتجاوز فن العمارة عند نوفيل مقولة المنظور من الأساس ويضع المدرك كأحد علامات اللوحة.
محمد سمير عبد السلام


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى