الثلاثاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨

جواد غلوم و إناقةُ القصيد (2)

مالك تمشي وئيدا مثل سلحفاة هرمة؟؟
حرائقك خلّفت رمادا وافراً
تضبّعتَ حتى خنقتَ أجمل بطاريقَك
لاتخنقْ رقابَنا الحانية عليك
أتوسّل اليك، لم يبقَ الاّ الزغب ليّنة العريكة
لم يلد الاّ الخديج المثلوم العمر
حتّام لا ترفقُ بأنجالِـك وأحفادك
يا ذا الوطن المتبختر بالكآبة
المحمّل بالزوائد الدوديّة
سحقتَ بنيكَ نحن العالقون بأبوّتك
يا من تمشي عَرَجا
وتركْتني عاريا الاّ من الحبّ المخبول فيَّ

هناك من يفكر أن يكون ضبعا أو سمكة قرش تأكل ولاتؤكل في زمنٍ يكون النكوص فيه قد أخذ منحىً مؤلماً، بحيث أنّ الأمهات لم تنجب غير السحالي واليقطينات والسلاحف وكل ما هو مشوه على غرار (إيتي) ذلك المخلوق الفضائي المرعب في شكله والطيب في روحه وأخلاقه الذي شاهدناه في عالم السينما والخيال العلمي.

حينما نقرأ للشاعر جواد نجد أنّ كلاً من الحلم والطوباوية من الممكن أنْ يكونا واقعا حقيقيا، ومن السهل في كثيرمن الأحوال أن يطغي جانب الخير على جانب الشر في السريرة الإنسانية على الرغم من انها على مر العصور خلقت لنا الكثير من مصاصي الدماء على غرار فرانكشتاين ودراكولا وصدام وداعش وغيرهم من الرموز الشريرة التي جسدها الفن السابع أيام المخرج العالمي الشهير هتشكوك وأفلام الممثل البارع كلاوس كنيسكي في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم.

كل هذه التداعيات بين الوطن والحب والبوح الذي يخرج على شاكلة الشحن والتفريغ تبعا لما تمتليء به قريحة الشاعر المهمومة، خلقت لنا جواد غلوم شاعرا محبا للثورة والثوار كما في النص الآتي (سيكارُ هافانا بفم البهلوان):

رغبتُ، في لحظة زهوٍ وخيلاء
أن اشفط شهيقاً من سيجار"كوهيبا"النفيس (*)
وان أغادرُ مرارة المكدودين في"طريق التبغ"(*)
أشْتمُ"ارسكين كالدويل"وزبانيته المسحوقين
أعيش في أحراش"بوليفيا"
أبحر في الكاريبي
لكني ضحكت على نفسي
واستعدْتُ توازني
يوم رأيت الديكتاتور الأهوج
ينفخ أوداجه على شاشة التلفاز
ويتشبه بتيجان العظماء أسياده
يومها اختنقتُ بالقهقهات
بكل ما أُوتيَ فمي من قوة
صرختُ بوجههِ:
ما أنت سوى لوثةٍ
طفحتْ يوما ما مع زبَد البحر
نشرتْ زفْرتَها في شميمٍ بلادي الطاهرة
أيّها الذيلُ المسموم
أسيادُك قطعوا إبرتك اللاسعة
لن تكونَ"تشي"الوسيم المبهج
مادامتْ رعيتُك تعلكُ التراب
تمضغُ الحصى
لأنك رعديدٌ تخافُ عواءَ الذئاب

نص ساخرُّ جميل ليس في شكل القصيد وبنائه فقط وإنما في التنوع الذي نقرؤه من حيث اللمسات الثورية التي تبدو واضحة من السرد الذي يعلن الشاعر فيه هويته وبدون تردد من أنه ذلك الأممي الذي يسير على حب الناس والوطن وحلمه الأبدي في بناء مجتمع حر وسعيد. أضف الى ذلك خبرة الشاعر في تحديد مايريد قوله يأيجاز عند إيصال المعلومة الى القارئ بسلاسة بارعة بحيث تشد القارئ في الإستمرار في قراءة النص حتى السطر الأخير. نص فيه من التشعبات الكثيرة التي جعلته عبارة عن سلسلة لايمكن فصل إحدى حلقاتها عن الأخرى. أنه النص الجيفاري، انه السيكار الكوبي الذي يخص فمَ الثائر مالئ الدنيا وشاغلها (أرنستو تشي جيفارا) الثائر الذي أضحى فارس أحلام الثوريين، هناك فارس أحلام الفتيات وهناك من يحلم بإمرأة أبدية تقف على التل وتؤشر له أنْ تعال، لكن هنا و في هذا النص الجميل يقف جيفارا شامخا حياً من جديد كفارس أحلام، يعطينا دفق الحياة. يعلمنا كيف نشهق و نرسم صورة أمام السرمدية ونحن بهذا السيكار. حلمُّ مميز للغاية، أنه خارج أسوار المألوف، أنه الحلم الذي يصولُ بنا كي ندخل حلبة الشهادة في سبيل الوطن والأوطان.

يبوح الشاعر جواد بعظمة الثائر جيفارا تلك التي خلّفها وراءه، حتى في سيكاره، وكأنّ الدخان النافث منها يتكلّم حول ما يكده الفقراء في حدائق أمريكا القذرة وهنا ينقلنا الشاعر للإستفادة والتعريج على الروائي الأمريكي الشهير (أرسكال كوريل) وروايته (طريق التبغ) و الحديث عن الفلاحين الفقراء وسرقة أتعابهم هناك. ثم الإطلاع على نوع التبغ الأجود في كوبا (كوهيبا)، ذلك النوع الذي تصنعه العذراوات اللاتي بقي البطل كاسترو حتى مماته يدافع عن شرفهن من الغول الأمريكي الذي يريد أنْ يتغلغل في السوق الكوبي بحجة الإستثمار، لكن كاسترو وقف صارخا وأمام حشر من النساء الكوبيات والمزارعات وقال لهن (أنّ أمريكا تريد مني أن أجعل الأمريكي يأتي هنا ويستأنس بكنّ ويلهو مقابل حفنة من الدولارات، فهل انتنّ صاغرات لهكذا دعوات) جميع العذراوات صرخن بالضد من أمريكا، ونحن معك ياكسترو، يا ابانا الصامد. ثم يكرر كاسترو للعذراوات (يقولون لي أنني كاتم على أنفاسكنّ، من تريد ومن يريد الخروج من كوبا فليخرج، وبالفعل خرج بعض الكوبيين ولكنّ قساوة أمريكا أرجعتهم الى وطن كاسترو بعد سنين من الغربة والمحنة القاسية).

الشاعر الثوري جواد غلوم ينغرز فيه إحساس المرارة والطريق الشائك الذي يسترجع مهازل الطغاة وأحلامهم المريضة كما صدام الجرذ الذي أراد أن يقلّد الثائر بسيكاره الكوبي، فأين الثرى من الثريا، وقد أثبتت الأيام أنّ الجرذ مات ذليلا في جحر الجرذان وتحت بسطال العسكر الأمريكي. بينما سيكار الممثل الشهير كلنت ايستوود كانت حلما لنا أن نقلدها بأفواههنا، تلك السيكار التي اشتهر بها بعد فيلمه الممتع (الطيب والخبيث والشرير)وكيف كان يديرها في فمه من الفك الآيسر الى الأيمن وبالعكس وبالسرعة التي تثير في الطرف المقابل شيئا من الإستنكار لما تحمله هذه الحركة من استهزاء بحق المبارِز الآخر. فبقيت هذه السيكارة وصورتها بفم كلنت إيستوود حتى اليوم في أذهاننا وناظرينا وفي الجرائد والمجلات والإعلانات والتلفاز كفاصل للإستراحة، لكنّ المشهد التمثيلي هذا سينتهي بقادم الأيام والأزمان، ولم يبقَ غير السيكار الجيفاري عبر العصور حقيقيا مترعاً بالواقع لابالخيال والتمثيل.

ولاتأنسُ التّوسّدَ على الأحراش
لاتحسنُ ارتداءَ بزَّةِ الثائرين
مهما ترعْتَ من حثالة هافانا
وشممْت خمرَها الممزوج بالسيجار
هكذا أنت تريد أيها البهلوان
تنكّرت بِطلّةِ الرفاقِ المؤجّجين
بالآمال العريضة
ثابتي الخطى
المُتطلِّعين للعدل
لكنك لاترضى سوى أن تصنعَ العذراواتُ
سيجارَك من أناملهن الرقيقة
ويبرمْنهُ في أفخاذهنّ حتى تنتشي
وتهدأ سريرتك جذلا

أعلاه ثيمة فيها من المديح بحق الثائر البوليفي وماكان يفعله هناك من تدخين للسيكار بين الأشجار البوليفية والجبال ومن هناك يبعث برسائله الى الأدباء والفنانين وعلى رأسهم برتراند راسل والمغني الشيوعي الشهيد جون لينون لتحشيدهم للوقوف بجانب قضيته العادلة. تلك القضية التي مثلت ْبفيلم درامي عام 1908 وبجزأين من تمثيل الرائع شبيه جيفارا (بنسيو ديل تورو).

في هذا الفلم سمعنا أجمل الأغاني بحق الثورة والثوار ومنها بصوت المغنية الفرنسية الشهيرة ناتالي كاردون. الأحراش هنا اشارة الى النضال الثوري الذي قضاه جيفارا في بوليفيا وغاباتها التي كانت بمثابة دروع ضد الرصاص تحمي جيفاراورفاقه وبالفعل ظل يقارع الطغاة والأمبريالية حتى رسم طريق دربه الأبدي المعروف اليوم لدى العالم أجمع.
ثم ينهي الشاعر جواد نصه في قول الممتعات حول وطنه:

وأنت ترى مدينتك تتضوّرُ جوعا
لكنها تغني:
"دگ راسك بگاع الحبسْ
لاتنحني تحبّ الچفّ
أيـــام المـزَبّـــن گِضــن
دگـضنْ يأيـام الـلفّ
والدنيه غرشَةْ وصم تتنْ
وتدور بينه وتلْتف"(*)

شذرة فيها من الأصالة الرائعة والعادات العراقية الإجتماعية المتأصلة حيث يتكئ الشاعر جواد غلوم على ماهو أكثر ضيما وقهرا ومرارة في الحلم العراقي فيذكرنا برائعة مظفر النواب عندما كان سجينا فيكتب الأبيات العامية أعلاه عن الفاقة والعوز والشريحة الإجتماعية التي كانت تدخن اردأ انواع السكائر (المزبن، اللف) ثم التتن (التبغ) والناركيلة والأجواء العراقية في ممارسة تلك الطقوس الدخانية أنذاك.

يتبــع في الـــجزء الثالـث


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى