جولة مع العُقوق
من أجمل القصائد التي طالعتها في موضوع العقوق- قصيدة نُسبت إلى أُميَّة بن أبي الصَّلْت.
قصة القصيدة:
جاءَ رجلٌ إلى النبي الكريم، فقال: يا رسول الله إنَّ أبي أخذَ مالي، فقال له: فأتني بأبيك!
حضر الرجل، فسأله النبي: ما بال ابنكَ يشكوكَ أَن أخذت له ماله؟
فقال: سَله يا رسول الله، هل أنفقتُه إلا على نفسي أو على إحدى عمّاته أو خالاته؟
ثم قال له النبي: إيهٍ، دعنا من هذا، أخبرني عن شيءٍ قُلتَهُ في نفسكَ ولم تسمعه أذناك، وأنتَ قادمٌ إليّ؟
فقال الشيخ: واللهِ يا رسولَ الله ما زال اللهُ يزيدُنا بكَ يقينًا، لقد قُلتُ في نفسي ما لم تسمعه أذناي، فقال الرسول: قل وأنا أسمع، فأنشد:
غَذَوتُكَ مولودًا وعُلتُكَ يافعـًــاتُعـَلُّ بما أُدني إليـــكَ وتَنـهـَلُإذا ليلةُ نابتكَ بالسـُّقمِ لم أبِتْلسُقمِكَ إلاّ ســـاهرًا أتمـلّـمـلُكأنّي أنا المطروقُ دونكَ بالذيطُرقتَ به دوني فعينيَ تَهمـُلُتخاف الردى نفسي عليك وإننيلأعلم أن الموتَ حتْمٌ مؤجّلفلمّا بلغتَ السِــنَّ والغايةَ التيإليها مدى ما كُنتُ فيكَ أُؤمـِّلُجَعَلتَ جزائي غِلظَةً وفظاظــَةًكأنّكَ أنتَ المُنعِــــمُ المتَفضـّلُفـليتـَكَ إذ لـم تَرْعَ حـــَقَّ أبوَّتيفَعَلتَ كما الجارُ المجاور يفعلُفأوليتَني حَقَّ الجوارِ ولم تَكُنعَليَّ بمالٍ دونَ مالِـــكَ تبخَـلُ
فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حتّى ابتلَّتْ لحيتُه، ثُمَّ أمْسَكَ بتلابيبِ الوَلدِ وقال:
"أنتَ ومالُكَ لأبيك".
(القصة وردت في: "الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني" 2/152-153 برقم 947، و"المعجم الأوسط"؛ للطبراني 7/293-294-295 برقم 6566.)
ملاحظة 1:
"الحديث" كاملاً ليس مرسلاً، بل خرّجوه على أنه ضعيف، ومع ذلك تبقى العبرة، والقصة الرائعة المؤثرة.
ملاحظة 2:
الشاعر في القصة لم يُذكر اسمه، ولكن كتاب الأغاني (ج4ـ ص 137- دار الفكر) عزا الشعر لأمية بن أبي الصلت الشاعر الجاهلي، وقد ذكر ستة أبيات من القصيدة دون ذكر قصة النبي مع الرجل وابنه.
كما ذكر أبو تمّام في (الحماسة ج2، ص 320) القصيدة كاملة، وثمة اختلاف في بعض الكلمات، وفي شرح التبريزي أن الرسول عليه السلام كان يُعجب بشعر أمية، ولكن أمية لم يلتقه.
أما الحديث الشريف- "أنت ومالُك لأبيك" فقد ورد في أكثر من رواية، منها:
"شكا رجل إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أباه وأنَّه يأخُذ ماله، فدعا به، فإذا شيخٌ يتوكَّأ على عصا، فسأله، فقال الشيخ: إنَّه كان ضعيفًا وأنا قوي، وكان فقيرًا وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئًا من مالي، واليوم أنا ضعيفٌ وهو قوي، وأنا فقيرٌ وهو غني، ويبخل عليَّ بماله، فبكى رسول الله، وقال: "ما من حجرٍ ولا مدرٍ يسمع هذا إلا بكى"، ثم قال للولد:
"أنت ومالُك لأبيك، أنت ومالُك لأبيك".
(نقلاً عن الزمخشري: الكشاف، ج2، ص 514،
انظر كذلك صحيح ابن ماجه: 1870.)
يظل هذا الرجل في حالة ألطف ما ذكرت أم ثَواب الهِزّانية، فقد شكت ابنها الذي كان يضربها، وربما بتحريض من زوجته- كما يظهر في القصيدة:
رَبَّيْتُهُ وَهْوَ مِثلُ الفَرْخِ أعْظَـمُهُأُمُّ الطَّعامِ ترَى في جِلْدِهِ زَغَباحتى إذَا آض كَالفُحَّالِ شَذَّبَهُأبّارُهُ وَنَفَى عَنْ مَتْنِهِ الكَرَباأنْشَا يُمزِّقُ أثْوَابي يُؤَدِّبُنِيأبَعْدَ شَيْبِيَ عِنْدِي يَبْتَغي الأَدَبَاإِنّي لأُبْصِرُ فِي تَرْجِيلِ لَـِمَّتِهِوَخَطِّ لِحْيَتِهِ فِي خَدِّهِ عَجَبَاقالت له عِرْسُه يومًا لتُسمعَنيرِفقًا فإن لنا في أمِّنا أرَباولو رأتنيَ في نارٍ مسعَّرةٍمن الجحيم لزادت فوقها حطبا
(الحماسة، ج1، ص 321).
شبيه بهذا الشعر ما قاله أبو القاسم الدِّيـنَوري:
ربَّيته وهو فرخٌ لا نهوض لهولا شَكيرٌ ولا ريشٌ يواريهِحتى اذا ارتاش واشتدت قوائمهوقد رأى أنه آنت خوافيهمدَّ الجناحين مدًّا ثم هزّهماوطار عني، فقلبي فيه ما فيهوقد تيقّنت أني لو بكيتُ دمًالم يرثِ لي فهو فظُّ القلب قاسيه
(انظر: الثعالبي- يتيمة الدهر، ج4- مادة عبد الله بن عبد الرحمن،ص 140- دار الفكر)
يبدو من خلال تصفحي شعر الشاعر أنه كان يشكو ابنه طاهرًا في أكثر من قصيدة، أذكر منها:
لو كنت أعلم أنّي والد ولدًايكون، لا كان، في عينيّ كالرّمدفلا أسرّ على طول الحياة بهجبيت نفسيَ كي أبقى بلا ولدوقلت لو أنّ قولي كان ينفعنييا ليت أنّيَ لم أولد ولم ألد
ثمة شعراء آخرون وصفوا هذا العقوق، وسأختم بقول فُرْعان بن الأعرَف في ابنه منازل:
جَزَتْ رَحِمٌ بَيْنِي وبَينَ مُنَازِلٍجَزَاءً كَما يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طَالِبُهْوما كنت أخشى أن يكون منازلٌعدوّي وأدنى شانئٍ أنا راهبهحملت على ظهري وقرّبت صاحبيصغيرًا إلى أن أمكن الطّرَّ شاربُهفلَمَّا رَآنِي أُبْصِرُ الشَّخْصَ أشخُصًاقَرِيبًا وَذا الشَّخْصِ البَعِيدِ أُقارِبُهْتَغَمَّدَ حَقِّي ظَالِمًا وَلَوَى يَدِيلوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غالِبُهْوَكانَ لهُ عِنْدِي إذا جَاعَ أوْ بَكَىمِنَ الزَّادِ أحْلى زَادِنَا وَأطَايِبُهْورَبَّيْتُهُ حتَّى إذا ما تَرَكْتُهُأخا الْقَوْمِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شارِبُهْفأخْرَجَني مِنْها سَلِيبًا كأنَّنيحُسامُ يَمانٍ فارَقَتْهُ مَضارِبُهْ
من كتاب (أبي تمام: الحماسة، ج2، ص 176-)
من الطريف أن أذكر في هذا السياق أن هناك قناعة بين الناس أن من عق أباه فلا بد إلا أن يعقّه ابنه، وقد قرأت في شرح التبريزي لأبيات فُرعان المذكورة- أن منازل هذا كان له ابن اسمه (خليج)، فعقّ خليج أباه، فقدمه إلى إبراهيم بن عربي مستعديًا عليه، وهو يقول:
تظلّمني حقي خليجٌ وعقّنيعلى حينَ كانت كالحنيِّ عظامي
وهي أبيات خمسة، فأراد إبراهيم ضربه، فقال خليج:
أصلح الله الأمير، لا تعجل! أتعرف من هذا؟
قال: لا
قال: هذا منازل بن فُرعان الذي عقّ أباه وهو يقول:
جزت رحم بيني وبين منازل...(الأبيات).
قال إبراهيم: يا هذا عَققت فـعُـققت، فما أعلم لك مثلاً إلا قول خالد لأبي ذؤيب:
فلا تجزَعَنْ من سيرةٍ أنت سرتَهافأول راضي سيرةٍ من يسيرها
أنتم يا من تبرّون آباءكم، هنيئًا لكم، فأنتم على السراط المستقيم!