الثلاثاء ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٢١
بقلم نجاة بقاش

حافي القدمين.

في يوم من أيام شهر تموز الساخنة.. طلع الأمير بطلعته علينا.. بأحدث صيحات الموضة.. بدا متناسقا أنيقا كعادته.. سعيدا سعادة أطفال حارتنا.. يوم العيد.. علامات السعادة تغزو محياه.. أحلام وآفاق واسعة.. إلا أن عيناه تبدوان ضيقتان.. فمن شدة حرارة الطقس.. وبعد طول انتظار.. أخذ الأمير أصعب قرار.. قرر أخيرا ركوب الغمار.. أصر أن يمشي حافي القدمين، مثلنا.. تاركا لقبه الشريف.. تاركا وراءه حذاءه الأنيق.. فمن شدة الوقع عليها.. توقفت الأرض عن الدوران.. وهي ترفع عيناها نحو السماء.. تستفسر عما جرى للأمير.. ومن شدة الغبطة والسرور.. غنت قدماه "أنشودة النصر العظيم".. وعلى نهج الأمير.. سار كل من كان حوله.. اتفق الإخوان والرفاق.. على سداد الرأي الحكيم.. فقرعوا الطبول.. أجمعوا على إنسانية الأمير.. سبحان مغير الأحوال.. سبحان من يساوي حفاة الأقدام..

في نفس السياق.. تحدث الطبيب عن فوائد المشي على الرمال.. حفاة.. وردد بعده الأثرياء ، لازمة متعة المشي في جزر المالديف.. عراة.. تغنى المقربون بتواضع الأمير.. كما دعا الفقهاء له بالعمر المديد.. سمعت الحذاء يثني القرار السديد.. رغم هجر الأمير للحذاء الثمين.. بل هنأ القدمين.. لتحريرها من نعومة الجلد والحرير.. بدورها.. اعتذرت الأرض الصلبة.. لنعومة أقدام الأمير.. التي شكرت بدورها ربها العظيم.. على نعمة تحررها من قبضة الرفاهية والنعيم.. سبحان مبدل الأحوال.. سبحان مقرب الأبعاد..
للأمير إنجازات عديدة.. إلا أن تخليه عن "اللوفر" الناعم و"بيرلوتي" الفاخر.. يبقى أعظم انجاز.. سأشهد عليه انا.. سيشهد عليه تموز العظيم.. يا حافي القدمين مهلا.. بعض هذا القرار المزلزل.. فإذا كان للحذاء وظيفة تحمي من الصدمات صاحبها.. فحذاء الأمير فخر أمة بأكملها.. يا صاح.. أدعوك أن تعدل عن القرار.. فركوب الغمار أمر "أمر" من الحنظل.. والمشي حافي القديمين قرار صعب.. أمر لا نختاره.. طواعية.. بل هو قرار حاكم مستبد جائر.. هناك فرق شاسع.. بين من يختار المشي حافي القدمين طواعية.. في "جزيرة الألوان" أو في "برونيز".. في "تافيوني" أو في "سنتوريني".. يترك حذاءه الناعم في الصيف مؤقتا.. باحثا عن اللذة هنا وهناك بأي ثمن.. وبين من يفارقه نعله الخشن.. تاركا إياه.. وسط الطريق يهذي متحسرا.. يبكي شؤمه.. ويدعي ربه.. فلم أر في الوفاء كما رأيت تشبث الفقير بحذائه الممزق.. مصر على أن يحمله على أقرب اسكافي ليسعفه.. أو نحو ماسح الأحذية ليجمله..

استحضرت حوارا دار يوما.. بيني وبين نائب من نواب الأمة.. كان يلقبه المقربون ب "ذي مائة حذاء".. كان الأمر خياليا يتجاوز حدود المعقول بالنسبة لي.. وأنا طالبة منحتي الدورية لا تتجاوز ألف وثلاثة مائة درهما.. سألته مستفزة إياه ذات يوم عن سر "المائة حذاء".. ظننته سيكون سعيدا بالسؤال.. فخورا باللقب.. إلا أنه أجابني متحسرا متألما من الندم.. قال لي: "ليس المهم أن ألقب اليوم ب"ملك الأحذية".. أو أحتفظ في الدولاب بألف حذاء.." كان الأجدر ألا أمشي يوما حافي القدمين ".. "هناك أشياء إن غابت عن موعدها.. فقدت بالتأكيد معناها".. لا يمكن لألف حذاء اليوم.. أن يعوض حرمان طفل..عجز أبوه عن توفير حذاء أسود.. يوم العيد".. ألمتني قصة نائب الأمة حيث لم أستطع التخفيف من وطأة ألمه.. وهو يستحضر آلام طفولته.. ما كانت لتكون في الأصل.. فقلة حيلة الوالد لم تستطع حماية النائب من استحضار آلام شوك الصبار.. وقلة استحياء الحكام جعل نائب الأمة يبكي كالأطفال.. جعلني بدوري أسافر نحو الأحزان.. حيث كانت الغيرة تلتهمني.. كلما رأيت اهتمام أبي بحذائه.. يفوق اهتمامه بنتائجي.. فقبل أن يستكين للفراش من كثرة الوهن.. في الصيف كما الشتاء.. كان أبي يحضن حذاءه الوحيد.. يمسحه بحنان شديد.. حتى يأخذ نصيبه من اللمعان.. ويكون أبي مواطنا صالحا في نظر الرؤساء.. وأموت أنا غيضا من وجع الإهمال..
يا حافي الأقدام ترفق بذكائي رجاء.. لا تدع المداد الأحمر يسيل أنهارا.. بالله عليك.. قلي، كيف ينام الحكام وفي وطني.. ألم، عراة وحفاة.. بسببهم فقدت طعم الحياة؟..

قد يبدو لك كلامي نكتة.. وحافي الأقدام مزحة.. صدقني قد يصبح الوضع نكبة..
تستحضرني قصة أقوى وزير في عهد أقوى ملك.. كان يعشق ثريا الكريستال كما يعشق السلطان.. كان يهوى لعبة الكولف كما يهوى اللعب بالنار.. قصة النزوح من "الشاوية".. قصة الصعود إلى الهاوية.. في يوم من أيام باريس الباردة.. بالقرب من برج إيفل.. وساحة حقوق الإنسان الشهيرة.. تم توقيف الوزير السابق بعد أن سحبت منه كل الألقاب.. وتنكرت له التشريفات والأوسمة.. بل تخلت عنه كل الأفئدة والأنظمة.. من ساحة "تروكاديرو" الشهيرة.. ساقه الشرطي الفرنسي نحو المخفر.. كأي مجرم مجرد من الهوية.. مجرد من كل الأحلام الوردية.. مجرد من كل الفرص التصحيحية.. تهمته الوحيدة.. أنه قرر أن يمشي في الحديقة وحيدا حافي القدمين.. خارج الحظيرة.. لم يتذكر الوزير لا برج إيفيل.. ولا قوس النصر.. لا متحف اللوفر ولا نهر السين.. الوحيد الذي تذكر الوزير.. هو شاب مغربي في مقتبل العمر.. بئيس ووحيد.. هاجر البلاد بحثا عن الكرامة والرغيف.. ساقه الحكم الجائر نحو بلاد بومبيدو وليوطي وموليير.. فلم يجد أمامه سوى معالي الوزير.. الذي نال بدوره نفس المصير..

صحيح أن الأقدام تبدو حافية.. إلا أن المقامات والأقدار مختلفة.. هناك من ينزع الحذاء مجبرا.. بسبب جور الحكام عليه.. وهناك من يفعل احتجاجا وتضامنا.. ضد التمييز والاضطهاد.. وهناك من يتخلى عن حذائه المريح ترفا.. تأشيرة نحو قلوب الناس.. هناك من تسوقه قدماه الحافيتان نحو قبة البرلمان.. وهناك من تسوقه في باريس نحو المخفر كالخرفان.. وهناك "سيزاريا ايفورا" التي عشقها شعب جزيرة الرأس الأخضر.. حتى تربعت على العرش كالسلطان.. بل أصبحت رمزا من رموز البلاد.. حزن على فراق "حافية القدمين".. شعب بأكمله.. فطوبا لمن ضحى بالحذاء من أجل قضيته.. وعاش طول العمر حافي القدمين.. وويل لمن نسيه التاريخ.. حتى كاد لا أحد يتذكره..


مشاركة منتدى

  • موضوع شيق فيه حوارات ومشاهد واحداث كانك تشاهد مسرحية اوفيلم سينمائي يحملك في رحلة انطلقت من حارة مغربية معروفة بجوها الدافئ وشدة حرارة الطقس، مرورا بأكبر عواصم أوربا والمراكز التجارية العالمية والمعالم الثقافية وعرجت على أمريكا اللاتينية .
    رائع وكانك تستمع لقطعة موسيقية فيها تناغم وانتقالات في المقامات والتبحر في الاشكال والأنماط من انشودة النصر العظيم للموسيقار الشهير بيتهوفن الى المغنية اللاتينية حافية القدمين سيزاريا ايفورا والتي ختمت بها الكاتبة القطعة عفوا القصة كانها تعزف مع الاوركسرا القفلة الموسيقية التامة!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى