الثلاثاء ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم هاتف بشبوش

حامد فاضل وبلدة في علبة (1)

يومَ مساءٍ سماوي او ربما صباحي، غرّدت بلابل السماوة ترحيبا بقدوم حامد فاضل الى كوكب الشمس، صارخاً باكياً دون أن يدري أنه سوف يدخل عالم الادب.. درب الآلام والأوجاع والهموم، التي تتناثر من دون استئذان، أو ترخيص.. حامد فاضل روائي وبكالوريوس لغة إنكليزية. ترجم من الانكليزية والألمانية. ينشر منذ عام 1975، وعمل مراسلا صحفيا في أكثر من وكالة منها وكالة رويترز للأنباء.. عضو اتحاد الأدباء العراقيين والعرب. أصدر العديد من الكتب القصصية.. منها حكايات بيدبا 1994، المفعاة، ألف صباحٍ وصباح، كما انه ألّف وأخرج أكثر من مسرحية ونال العديد من الجوائز، وروايته هذه التي في متناول قراءتي (بلدة في علبة).

حامد فاضل عرفناه بعد تجربةٍ لها الخصوصية، التي حملت اسمه في كل شيء وأولها اختياره لعناوين إبداعاته الغرائبية التي جعلت من الآخرين أن يتلصصوا عليه فيسرقوا جزءاً من إبداعه وبالذات في موضوعة الرواية هذه (بلدة في علبة) والتي تناول فيها الروائي تأريخ مدينة السماوة باسلوب لم يطرق بابه أي من الأدباء ابتداءً من سماوية الرواية.

مواضيع المدن شيقة للغاية وخصوصا تلك التي يتخذها الكاتب كبانوراما وأحداث تاريخية متسلسلة لأحداث مرّت بها المدينة المعنية على مر السنين، أحداث درامية لشخوص المدينة وأمكنتها وما حلّ بهذه الشخوص طيلة سنوات عديدة حيث الانتقال من جيل الى جيل، ومن خلال الأجيال وسيرة المدينة، نستطيع التعرف عن تأريخ حقب زمانية عديدة مر بها البلد التي تنتمي اليه تلك المدينة وما حلّ على شعوبها وشخوصها سواء في الدمار، او العمران، او العلاقات الاجتماعية والسياسية وعلاقة المرأة بالرجل وماهية النساء وأوضاعهن في تلك الحقب المتناثرة في الدهور.

كل هذه التفاصيل والمتعلقات نعرفها عن طريق مساحة جغرافية بسيطة والمسماة بمدينة السماوة سليلة الوركاء التي اتخذها الروائي حامد فاضل ودرس أغلب تأريخها من خلال العلبة الصغيرة التي احتوت على العديد من الصور الفوتوغرافية لشخصيات المدينة وأماكنها وتأريخها. هذا يعني من انّ الروائي استطاع أن يشرح لنا ماذا تعني تلك الصور الفوتوغرافية أنذاك. فهي بالضبط مثلما نقف على صورة معلقة في معرض للرسوم ويبدأ صاحبها بالتوضيح لنا ونحن بدورنا نعقب أو نضيف ونستفهم ما يدور في بواطن تلك اللوحة والتي بدورها من الممكن أن تتحول الى قصيدة شعرية أو رواية وهذا ما نراه اليوم للعديد من الشعراء الذين يتخذون اللوحة كأساس للبوح في صنع بعض قصائدهم.

كما أنني أود أن اضيف من خلال زيارتي الى متحف اللوفر في باريس وإذا ما تسنى للآخرين زيارته فلسوف يرى آلاف من الصور المائية والزيتية والفوتوغراف لأعظم فناني التأريخ، سيراها كلها محصورة هنا في هذه البقعة الصغيرة من الأبنية الباريسية الهائلة، كلها في المتحف مع آلاف الزائرين الذين يستمعون بشغف الى مفسري هذه اللوحات لما تحويه من تأريخ يضم عشرات، أو مئات السنين، وماهي طبيعة هذه السنين ومن كان يحكمها وماحلّ بها من مرض، أو جوع، أو حروب، أو كوارث طبيعية.. القصد من ذلك هو أنّ كل هذا التأريخ المعلوماتي الهائل محصورا في اللوفر مثلما حصر المبدع الرائع حامد فاضل تأريخ مدينة السماوة في هذ العلبة المتحفية الصغيرة وما حوته من صور الآباء والأجداد ومَن ساكنهم او جاورهم أو حكمهم ومتى وكيف.

حامد فاضل درس الاحداث المنتقاة بأجمعها في هذه العلبة الصغيرة التي يحتفظ بها آبائنا وأجدادنا كألبوم صور، وهذه العلبة تحتوي على صور مضى عليها الكثير من السنين تكاد تصل الى نصف قرن وبنى عليها حكاياته الدرامية والكوميدية فاستطاع أن يعطينا رواية متحركة نشطة غير جامدة بكل شخوصها الذين شكلوا تأريخا مهما لمدينة السماوة. ولكن للأسف هذه العلبة لا تحتوي على صورة واحدة لامرأة سماوية وهذا ليس سببه الكاتب او الروائي وانما الشعوب والمجتمعات التي تعتبر المرأة خطيئة تمشي على قدمين فلا يمكن أن تكون ضمن هذا التأريخ وهي حاسرة الرأس حتى ولو كانت عبارة عن صورة فوتوغرافية بسيطة لا تغري ولا تثير الغرائز ولكننا نتعرف على المرأة في الرواية من خلال الرجل وليست شخصية مستقلة بذاتها ومنها المرأة (طماطة) بشكلها الخرافي والمشعوذ. فالرجل هو الذي يقود حركة التأريخ في تلك الشعوب البائسة حتى اليوم والتي لم تنتج لنا امرأة يمكن لها أن تقود بقية النساء نحو مستقبل زاهر عدا تلك المرأة الحديدية في زمن عبد الكريم قاسم الوزيرة نزيهة الدليمي وهذه فلتة من فلتات التأريخ.

بلدة في علبة هي تطور نوعي لدى الكاتب واسلوب جديد لم يتطرق له بقية الادباء من ناحية الاسم والإيحاء الفني والمعنى المجازي والمختصر المضغوط الذي أجاد به الكاتب والروائي حامد فاضل كما وانه اعتمد على الذكرى العالقة في الذهنية وما هذه الذكرى ليست سوى بلاءً أو داءً يصاب به المرء ولا يمكنه الشفاء منه وكأنه داء عضال اسمه داء الذكرى.

هناك الكثير من الروايات العالمية التي اقتنصها الفن السابع، او التلفزيون لكي يعمل منها أفلاماً ممتعة للغاية عن المدن وما حلّ بها لأصدقاء البلدة منذ طفولتهم ومراهقتهم البريئة حتى كبروا وتلوثوا بل أصبحوا مجرمين. هناك مسلسل عراقي (الذئب وعيون المدينة) شغلنا كثيرا في الثمانينات والذي أوضح لنا ماحلّ في مدينة بغداد نتيجة الصراع الدائر بين عائلتين ثريتين وما نتيجة هذا الصراع على بقية الناس الفقراء وما يتعلق بهم اجتماعياً ومدنياً. المسلسل من تمثيل عمالقة الفن العراقي بدري حسون فريد وخليل شوقي.

هناك الفلم الجميل والموسوم.. حدث في تكساس.. (مدينة تكساس الأمريكية) للمثل البارع روبرت دي نيرو، والذي يتناول تأريخ مجموعة من الاصدقاء منذ براءتهم ولهوهم الزاهي حتى انسحاقهم تحت ماكنة الحياة الرأسمالية وما تتطلبها من معيشة ومغريات تجعل منهم أن يكونوا مجرمين حتى موتهم جميعا بالتوالي بمأساوية مبكية للغاية. فلم لروبرت ميتشوم أيضا يحكي عن تأريخ مدينة يدخلها الجيش النازي وفيها امرأة متزوجة تعشق احد الضباط النازيين فتشاء الأقدار أن يُكتشف سرها فتفضح ويُحلق رأسها من قبل نساء المدينة بطريقة مدمرة للغاية تجعل من المُشاهد ان يقف مترحما على هذه المرأة العاشقة او الزانية بنظر البعض. فيأتي رجل الكنيسة وينتشلها من العار، ومن ثم زوجها بطل الفلم روبرت ميتشوم يقوم بإنقاذها والهروب بها من المدينة التي أصبحت لا تطاق عليها وعلى زوجها من القيل والقال وأحاديث الزور والثرثرة والشائعات.

أما افلام الكاوبوي فما أكثرها التي تتناول هكذا مدن تعرّض ابطالها الى الحيف والظلم فيعود ذلك البطل لينتقم ممن جعلوا منه هاربا مشردا من مدينته ألام التي تربى وترعرع فيها.. المدن رمز الناستولوجيا، رمز الطفولة، والعائلة والذكريات العالقة منذ الصغر، فأكثر ما يتذكره المرء هو مدينته لأن الحنين الى الوطن دائما يأتي من خلال حب المدينة والبقعة الارضية التي رضع فيها المرء وحبا ثم أصبح متسربلاً لا يفقه من الحياة غير الاعتماد على ذويه في كل شاردة وواردة مادياً ومعنوياً حتى يكبر عوده ويصبح رجلا يقارع هموم الحياة التي لا تطاق وخصوصا في أوطاننا.

الرواية بطلها الأنا ربما هو الروائي حامد نفسه لكن القصة ليست من السيرة الذاتية وانما يتخللها حضور الروائي حامد في كثير من المشاهد لأنه عاش في السماوة لأكثر من ستين عام مع تأريخها المكتوب صورياً في هذه العلبة الخشبية الصغيرة وما تحتويه من صور فوتوغرافية قام بتصويرها مصورون سماويون عديدون وفي حقب زمنية مختلفة، وعاش فيها أيضا مع تأريخها المكتوب في أقراص الليزر حيث التكنلوجيا اليوم. واذا اردنا ان نمعن النظر في تطور التكنلوجيا فالسويد اليوم تحتفظ بأقراص ليزرية لتأريخ البشرية وما حصل لها من حروب ودمار وكوارث طبيعية أو بلاءات من صنع الإنسان نفسه وتقوم بتخبأتها في أنفاق عميقة لا تتأثر بأسلحة الدمار لهذا العصر وهذه الأنفاق يحرسها بشكل دائمي رجل وامرأة فيما لو تعرضت البشرية لدمار شامل فهؤلاء ينقلوا للبشر القادم مأساة الإنسان والإنسانية.

من خلال العلبة نتعرف على صورة لسور السماوة التراثي وصورتين لأقدم حكائين في السماوة وهما الناصح والغياث حيث نفهم من الناصح ان هذه السماوة شيدت من قبل فارس واحد وهو كلكامش ثم انشطرت الى بلدات حتى ابتدأت الحروب والمنازعات فانتهت كحضارة سومرية بعد ان كانت أثرا بعد عين.

الرواية لم تخلو من قصص الخرافة التي مرت بها البلدة من خلال شخصية المرأة (طماطة) وهي تقص لوالدة بطل الرواية خرافات من صنع خيالها العجيب، ولم لا فقصص الخيال أصبحت اليوم في متناول الجميع ولكن بشكلها العلمي المبرمج والمؤنس كما في مؤلفات الروائية الإنكليزية (جي كي رولينغ) التي كتبت سلسلة هاري بوتر بأجزائه السبع والتي أصبح لها فيما بعد مهرجان عالمي باسم مهرجان هاري بوتر. ولكن الفارق هنا من انّ طماطة أمية لاتجد من يحتضنها فهي ولدت أساسا في بيئة معدومة من كل المحفزات فهي رمز المرأة المتخلفة في شعوبنا والتي تأتيها الأفكار نتيجة الظلم الواقع عليها فتروح تهذي بحكايات ما أنزل الله بها من سلطان. أما مؤلفة هاري بوتر فهي رمز التعليم والحضارة والحرية نحو آفاق واسعة حلمت بها المرأة وحققتها لنفسها كما نراها اليوم وهي ترفل بالسعادة في أوطانها. لنرى ماذا تقص طماطة لأم بطل الرواية من الخرافات عن السعلاة:

(كنت قد تهيأت لأندس تحت اللحاف في تلك الليلة الباردة حين سمعت طرقا على الباب كالرعد في أيام الثريا. تساءلتُ من أنت وأنا أرتجف، فأجابت: صديقة / لا تخافي يا طماطة إفتحي الباب... اصطكت اسناني وانا ارى وجهها مغطى بشعر كشعر المعزى وأنفها يزفر الجيفة، ثدياها يتدليان كبطيختين على بطنها).. ثم تردف طماطة قائلة لأم بطل القصة/ أتدرين من كانت تلك المرأة؟ السعلاة يا اختي السعلاة... أقسم لك يأ اختي ببيت الله الحرام انّ السعلاة قالت لي:

(لا تخافي يا طماطة أريد أن اكون صديقتك) حتى اصبحتا صديقتين تتبادلان الزيارات والهدايا.

منذ ذلك الوقت وشعوبنا تكذب على بعضها وهي تحلف حول السعلاة ببيت الله وكأن هذا البيت علكة في فمها تديره بين الفكين كيفما تشاء.

السعلاة هذه او السعلوّة التي ياما حكت لي عنها جدتي علياء رحمها الله فتقول من أن السعلوة تقدم الطعام الدسم لمن يأتيها كي يمتلئ ويسمن ثم تنقض عليه ليلاً فتأكله. أعتقد من ان الغاية منها هو زرع الخوف في قلوبنا كي لا نخرج من بيوتنا متى شئنا فنظل قابعين تحت ظل حمايتهم.

يُتبــــــــــــــــــــــــع في الجـــــــــــــــزء الثانــــــــــــــــــــــي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى