الأحد ٨ أيار (مايو) ٢٠٢٢

حبة واحدة تكفي

فائق العبودي

كريمة وكريم زوجان لا يتشابهان بالأسماء فقط، بل في الطباع أيضاً، في القلق، يتنافسان من منهما يحقق أعلى نسبة، أذواقهما متشابهة، هدوئهما، كذلك في الصوت الهادئ، كثيرا ما سمعا من المقربين أو حتى البعيدين تعليقات حول هذا التشابه الغريب، ليس في الشكل، ولكن ربما روحاهما، توأمان في الروح هما.
ينطبق عليهما المثل القديم:"وافق شن طبقه".

تقلقهما صغائر الأمور، وتأخذ منهما وقتاً من التفكير، لكن الجميل أنهما يعرفان مشكلتهما، وقد تعودا على مساعدة بعضهما بعضاً عندما يمر أحدهما بوقت عصيب.

ذات يوم قررت كريمة أن تتعلم السياقة، وأصبحت تلك الفكرة هدفها المنشود وحديثها الخالد، حتى أنها أخذت تراقب السيارات الصغيرة، وتتخيل نفسها خلف المقود، وكريم بجانبها يدندن لها بأغنية تحبها.

ولم تنتظر كثيراً حتى سجلت نفسها في دروس السياقة، وأخذت تشجع كريم أيضاً لإخراج رخصة له، خاصة وأنه لا يحتاج إلى دروس كثيرة، فقد كانت لديه سيارة قبل أن يهاجر إلى أوروبا.

باشرت كريمة دروس عملية مكثفة لكنها لم تكن راضية عن نفسها، وشعرت أنها لا تتطور كما يجب، فتحولت إلى مدرس آخر، واقتنعت بطريقته الأكثر احترافيه، ووجدت سيارته ذات رائحة طيبة ويهتم بنظافتها دائماً، وملابسه أنيقة، ويلتزم بالمواعيد، بعد أن عانت من سيارة الأول التي كانت سلة مهملات متنقلة، حيث يبدو أنه من أعداء الاستحمام، إذ أن رائحة العرق تلطم كل من فتح باب السيارة لدرجة جعلتها تشعر أن فيروس كورونا جاء رحمة فقد جعلها تلبس الماسك بعد أن تنثر عليه رائحة العود الطارد لكورنا وأختها خنقونا

توالت الدروس مع مدربها الجديد، ومرت التدريبات براحة نفسية استفادت منه كثيراً، وصار عليها أن تخضع لامتحان النظري كمرحلة أولى لنيل شهادة السياقة، وباقتراب موعد الامتحان، دخل الزوجان في مرحلة الطوارئ، التي يتسبب بها القلق المتزايد.

كتب كريم رسالة صغيرة، وأرسلها إلى جميع أصدقائه، ومعارفه عبر تطبيق الواتس أب، كونوا معنا نحتاج دعائكم كريمة عندها امتحان، أرجو منكم الدعاء، ولم ينتظر كثيراً حتى صارت تصله الردود تباعاً من الأصدقاء ،حتى في أوقات متأخرة من الليل بسبب فارق التوقيت بين الدول.

أثار صوت رسائل الجوال غضب كريمة، فطلبت من زوجها اغلاق صوت هاتفه لكي تنام، وهو ما فعله بعد أن حاول طمأنتها إلى أنها ستنجح في امتحانها غداً.

نامت كريمة، بينما كريم ما زال يتقلب لا يستطيع النوم، وإذا بركلة مباغته تضرب ركبته، دار في خلده أنها تحلم بقيادة سيارتها، وقفز هر أمامها ولم تستطيع انقاذه إلا بركله بعيداً، تقهقر كريم مبتعداً قليلاً خشية حوادث أخرى قد تتخللها هذه الليلة العصيبة.

عند الصباح أخبرها بما حدث فلم تصدق، واعتقدت أنه يمازحها، وبعد أن تناولا الافطار معاً، وودعها بالدعاء، خرجت كريمة تجر خطوتها بثقل، وجلس هو على كرسيه المفضل أمام النافذة المطلة على الشارع، يراقب حركة السيارات والمارة، ويرشف مستمتعاً الشاي الأخضر بالنعناع الذي حضرته له كريمة كعادتها لذيذاً كما لو أنها تخلطه بروحها العذبة.

جلس يدمدم بالدعاء لها بالنجاح، بينما صوت كوب الشاي على الطاولة لا يتوقف بسبب اهتزاز قدمه اليمنى دون توقف، وهو يراقب عقارب الساعة بين الحين والآخر قلقاً، ويتخيل أنها في قاعة الامتحان، ويحسب ما تبقى من الوقت، وبانتهاء الوقت زاد قلقه لأنها لم تتصل، كتب لها:

طمئنيني يا عزيزتي إن شاء الله كل شيء مر على خير.

ردت عليه بسرعة: لا، فشلت في الامتحان.

ضرب الطاولة بيده، وكتب لها: لا يهمك يا عزيزتي، تستطيعين إعادة الامتحان لاحقاً.

اتصلت به مباشرة لتقول بصوت يشتعل بالفرح: نجحت، نجحت.

كان عليها بعد ذلك أن تخضع لامتحان القيادة بصحبة فاحص شديد، وحجزت موعداً لذلك، ودخلت في حالة الطوارئ المعتادة التي يسببها القلق، وكريم معها يرتجف، وفي يوم الاختبار أقنعها أن تأخذ حبة مهدئ أعطاها له الطبيب خلال وعكة صحية، قالت له: أخشى أن أنام، أنا لا أحب المهدئات.

أقنعها كريم أخيراً، وفي يوم موعد الامتحان أعطاها الحبة التي كانت صغيرة جداً، مما جعلها تسأل ساخرة: هل أنت متأكد أن هذه الحبة للإنسان، أظنها للقطط، أو للفئران؟ أجاب: سترين نتائجها المبهرة هذا اليوم.
قبل ساعة من الموعد خرجت لكي تركب الباص باتجاه المكان المخصص للامتحان، ووجدت لها مكاناً هادئاً في آخر الباص، وجلست تراقب سير السيارات، ملاحظة بعض أخطاء السائقين في الشارع، أحست بمفعول الحبة يتصاعد ويدعوها للنوم، قاومت وقاومت ولكن دون جدوى، أغمضت عينيها قليلا، ثم فتحتهم بصعوبة.

وأغمضت عينيها في المرة الثانية والثالثة، حتى غلبها النعاس فنامت بعمق،ولم تعد تسمع شيئاً، وصل الباص إلى المنطقة التي يفترض أن تنزل بها، وهي نائمة، ثم وصل إلى آخر الخط، ونزل الجميع وهي نائمة بعمق شديد، وتحرك بالباص باتجاه المرآب المخصص للباصات لانتهاء رحلته المحددة، وكريمة كأهل الكهف، أوقف السائق الباص في مكانه، ونزل، ولم يخطر في باله بأن هنالك أحد ما في الباص، وكان قد تبقى على موعد امتحانها دقائق فقط، وهي في نوم عميق، بعد ساعتين تقريباً فتحت عينيها، وهي مخدرة لا تعرف أين هي في أي عالم، إلى أن استعادت وعيها، ووجدت نفسها في باص لا يتحرك، ويتوسط عدداً من الباصات المتوقفة في مكان لم تره من قبل.

فائق العبودي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى