الخميس ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٨

حرب وأشواق

رفيقة عثمان

رواية حرب وأشواق، تحتوي على مئتين وأربعة وثمانين صفحة، سردت الكاتبة أحداث دراميَّة لحرب النكسة، 1967 تهجير أهلها وهدم قرية عمواس، فوق عدد من النساء والرِّجال المقعدين والشيوخ الذين لم يستطيعوا اللحاق بالأهل.

سردت الكاتبة الأحداث الدراميَّة المؤلمة على لسان شخصيَّات أبطال الرّواية، ولم تظهر شخصيَّة الكاتبة خلال نصوص السَّرد، إلّا أن الكاتبة جيَّرت خبرتها الخاصَّة؛ ودرايتها ومعاصرتها للأحداث المؤلمة لحرب النكسة؛ وطعَّمتها بالعاطفة والخيال الخصب؛ لدرجة يصعب التمييز بين الخيال والحقيقة، ممَا يجعل القارئ متشوّقا لقراءة الرواية بشكل متواصل، طغت مشاعر الحزن والألم، واليأس والإحباط على العاطفة، حيث احتلَّت العاطفة الحزينة مساحة واسعة بقدر الحزن والألم الذي واجه مصير الفلسطينيين المُهجَّرين من قرية عمواس.

الحب في هذه الرواية كان غير مُصرَّح به، حيث كان الحبيب سميح يحمل مشاعر الحب الدَّفينة، ولم يبُح بهه علنا، وكان استخدام الكاتبة متحفِّظا في استخدام العبارات والكلمات التي تحافظ على قدسية العلاقة بين سميح بن البطلة؛ والتعبير عنها بالحوار الذَّاتي، والتذكُّر، لدرجة كان الحب حبّا عذريّا يحمل معاني سامية للحب والمحبوبة؛ بما يتلاءم مع عادات وتقاليد تلك الحقبة الزمنيّة؛ وربّما هذا هو النهج الذي تنتهجه الكاتبة في التعبير عن العلاقات بين الجنسين بطريقة راقية وسامية.

الجدير بالذكر بأنَّ الكاتبة نجحت بذكاء في تحريك الشخصيّات بسهولة، دون جهد منها، حيث كانت تخدم المواقف والأحداث، من خلال استخدام الحوار الذاتي (المونولوج) والسرد بلغة فصحى سلسة ذات بلاغة عالية، مع استخدام اللغة العاميَّة لِما تتطلبه المواقف والأشخاص.

تعتبر هذه الرواية من الجنس الأدبي الواقعي، في زمن ومكان محدّدين، وأحداثها مكمّلة لأحداث رواية "خريف يُطاول الشَّمس" الجزء الأوّل للكاتبة نزهة أبوغوش؛ حيث ارتكزت الرّواية على شخصيَّة البطل الرئيسيّة (علي) الذي اختفت آثاره في نهاية الرواية الأولى بعد النكبة؛ وتابعت الكاتبة سرد الأحداث أثناء النكسة بعد عشرين عامًا. في الجزء الثاني للرواية "حرب وأشواق".

في الجزء الثّاني لرواية "حرب وأشواق"، أظهرت الكاتبة قوّة التلاحم والتآلف بين أبناء الأهل في أبوغوش وعمواس، حيث جمعت في طيّات الرواية مجموعة من الأغاني الشّعبيّة، والترويدات، والأدعية؛ التي صدرت من أفواه النساء والرّجال في المناسبات المختلفة في المكانين؛ خاصّة التي تعبِّر عن المشاعر الحزينة؛ إثر النكبة. كما ورد صفحة: (61-170- 112- 190-240). "راحوا وا ودعوني يا ويلي ما اقساهن ... تمنيت قلبي حجر طوّاح ولاقاهن... راحوا وما ودّعوني شحم قلبي ذاب... ما ذوّب القلب غير فراقكم يا احباب...راحوا ما ودّعوني ليش يا بعدي.... لا فيَّ عيب ولا مرض يعدي".

استخدمت الكاتبة التّناص في الرواية، خاصّة لبعض الأغاني الشعبيّة، والآراء الفلسفيّة، والشعر مثلا: لأبي فراس الحمداني: " أراك عصي الدمع شيمتك الصّبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر.

نعم انا مشتاق وعندي لوعة لكن مثلي لا يذاع له سر"

طغت العاطفة الحزينة على معظم نصوص الرواية، تكاد مشاعر الفرح تختفي تماما، ؛ إلا ماعبَّرت عنه الكاتبة من خلال الأحلام، والتخيُّل. مراعية في ذلك الاحداث المؤلمة في تلك المرحلة العصيبة.

تكرّر ذكر الغزالة مرارا وتكرارا في مواقع عديدة في نصوص الرواية، لِما لها من دلالات رمزيّة في الأدب، ذات الفكر للأبعاد التي ترمي إليها الروائيّة من خلال الوصف الجميل، والسرد في وصف المرأة الجميلة والممشوقة والرشيقة؛ حيث شبَّهت البطلة (ليلى) بالغزالة، كما وصفها محبوبها سميح، وتغنّى بجمال عينيها، وحسن مشيتها؛لا بدّ أنّ الكاتبة رمزت عن جمال المرأة وتشبيهها بالغزالة؛ هو الرمز للمرأة العربيَّة التي توحي للوطن ؛ كما شبّه البطل علي عندما كان في روسيا، وأحبَّته فتاة روسيَّة، فرفضها؛ لأنَّ عيونها ليست كعيون محبوبته التي تتّصف بعيون الغزالة.

اظهرت الكاتبة صورة النساء، في الرواية بصورة شخصيَّات بطوليّة، قويَّات متحدِّيات، واعيات، صاحبات مسؤوليَّة، مساندات للرِّجال؛ خاصَّةً شخصيّة: منيرة زوجة عبدالوهاب، وام سميح، والحبيبة ليلى، والنساء الأخريات اللواتي عاصرن النكبة والرحيل.

سوف أتطرَّق لشخصيَّة أمّ العرب السيدة منيرة زوجة عبدالوهاب، وهلالة أمّ سميح، وليلى كنساء ذوات شخصيّا قياديّة قويّة؛ ومن ثمّ أركِّز على الشخصيَّة المحوريَّة (علي) بطل الرواية. كل النساء كنّ رمزا للوطن الأبيّ.

البطلة منيرة - أم العرب: صوَّرت الكاتبة صورة أم العرب، بصورة المرأة القويَّة، والحنونة في آن واحد؛ كذلك تمثَّلت بالوعي والدراية، واهتمامها في إدارة شؤوون أسرتها؛ عند غياب زوجها وسجنه. هذه المرأة تحمَّلت المشاق والمتاعب في سبيل الحفاظ على أبنائها أثناء وبعد الرحيل. اهتمَّت في عدِّ أبنائها؛ لتتأكَّد من وجودهم وعدم ضياعهم في الطريق إلى رام الله.

البطلة هلالة - ام سميح: مثَّلت أم سميح دور الزوجة المخلصة، التي حافظت على أسرتها، وعلى محفظة أسرار زوجها أثناء غيابه مدَّة عشرين عامًا، ووصفت بالأم المُضحيَّة من أجل أبنائها، وصبرها ووعيها للأحداث الدائرة حولها، وعدم الاستسلام لفكرة الهزيمة بالحرب.

البطلة ليلى: الفتاة الجميلة الرشيقة، ذات العينين الواسعتين كعيني الغزالة، ظهرت قوّتها عندما صادفها جندي اسرائيلي، وعرض عليه المساعدة؛ لكنَّها رفضت، وصدَّته، بل أظرت قوَّة صوتها وثقتها بالنفس وعدم الخوف والانصياع، في زمن الهزيمة والوحدة.

في رواية الكاتبة، نزهة أبو غوش تعتبر شخصيّة عليّ شخصيّة مركزية محوريّة نامية:

في الجزء الأوّل من " خريف يطاول الشمس" كان عليّ شابًا يافعا ثائرًا ضدّ الاحتلال، عام 1948. في نهاية الرواية اختفى عليّ من وجه الجنود الّذين كانوا يبحثون عنه في بلدته، أبو غوش.

في الجزء الثاني" حرب وأشواق" ظهرعليّ بأنّه التجأ إِلى بلده الثّاني، عمواس – حيث الحكم الأردني- تزوّج هناك وأنجب طفلا، اسمه سميح. ترك ولده بعمر عشر سنوات تقريبًا وذهب حيث قواعد التّدريب إِلى عمّان، ثمّ إِلى الاتّحاد السّوفييتي ليتدرّب على الطّيران الحربي؛ من أجل الاستعداد لحرب يخوضها؛ كي يسترجع ما ضاع من الوطن.

انتظر عليّ كلّ لحظة تعلن فيها الحرب ويشارك بعمل بطوليّ يسترجع به وطنه السّليب، ويعود الفلسطينيّون المشتّتون في المخيّمات في لبنان والأردن وغيرها.

إِذا ما بحثنا في نفسيّة البطل عليّ في رواية " حرب وأشواق" نجد بأنّها كانت نفسيّة متذبذبة ما بين الماضي والحاضر؛ وما بين الغربة والوطن.

عند وجوده في وطن غريب عنه( روسيا) نرى كيف كان يشدّه الوطن من بعيد ويحرقه الشّوق للأهل والأحباب وخاصّة ولده سميح الّذي لم ينفكّ يحلم به كلّ ليلة يناديه" أبي عد الينا، أنا مشتاق لك جدّا".

ومن جهة أُخرى يشدّه واجبه الوطنيّ والتزامه نحو قضيّته للبقاء في غربته؛ من أجل انجاز مهمّته.

أمّا ماضيه فقد كان مسيطرًا عليه يشدّه عشرين عاما إِلى الخلف: الأهل، الرّحيل، الفراق، بُعد المحبوبة عنه...

أمّا الحاضر، فهو واقع مؤلم زوجة صابرة تنتظر عودته لإِيمانها بزوج ذهب؛ من أجل أن يخدم قضيّة تخصّ الوطن بأسره.

خلال العشرين عامًا – منذ 1948 وحتّى 1967 – كانت شخصيّة البطل عليّ تنمو وتتدرّج تحمل بين طيّاتها القوّة والعزيمة، وعدم اليأس شخصيّة يظلّلها الأمل بالنّصر المؤكّد. كانت تلهبه الأناشيد الوطنيّة وخطابات القائد جمال عبد النّاصر وتزيده أملًا وقوّة.

خلال حرب حزيران 67 حدث تغيّير كبير معاكس لشخصيّة عليّ. أصبح شخصيّة أُخرى غريبة على القارئ. شخصيّة منهزمة أصابها الضّعف والهوان، شخصيّة هاربة من الواقع لا تعِ ما يدور حولها من أحداث.

أرى هنا بأنّ الكاتبة نزهة أبو غوش تعمّدت أن تجعل من تلك الشّخصيّة رمزًا للوطن المكلوم الّذي انتكس اثر هزيمة فقد بها ما تبقّى من الوطن الّذي فقده عام 48م؛ وفقد معه الكثير من الأمل الّذي خزّنه في ذاته عشرين عامًا.

أصابت عليّ حالات من الهلوسات والهذيان والذّكريات، منها الحزينة ومنها المؤلمة؛ هي أيضا ما أصاب شعوبنا العربيّة، حيث كثر الحديث في وسائل الاعلام عن الحرب وتداعياتها وأسباب فشلها وترويج" إِذا خسرنا المعركة، فإِنّنا لن نخسر الحرب" وغيرها .

بدا عليّ يستعيد ذاكرته عندما عاد إلى الوطن في حضن والدته " تكوّم بين أحضانها وراح يبكي" صار عليّ يتماثل للشّفاء تدريجيًّا وعادت له شخصيّته الّتي فقدها عندما عاد الى عمواس وطنه المهجّر والمدمّر، وشارك أبناء بلدته الهتافات بالعودة؛ هنا أرادت الكاتبة بثّ الأمل في قلوب قرّائها، فشفاء عليّ ووعيه لما يدور حوله خلق منه شخصيّة جديدة ترمز للأمل بالحريّة.

رفيقة عثمان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى