الخميس ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠١٨
بقلم هاتف بشبوش

حسين رشيد في روشيرو (1)

في شهربان، سالت الريالةُ الطفوليّةُ في أفياء بساتينها، حتّى حبتْ وازدهرتْ وأعطتْ لنا القاصّ اليساري حسين رشيد الذي يخبرنا عن مآثر الموت ثمّ الحياة التي على خافقها شعلة منكّسة على الدّوام فيها من العثرات التي لابدّ لنا أن نضعها أمام محكمة العقل لكي نعرف ماذا نحن فاعلين، العثرات النّاجمة من نظامٍ حاكمٍ أو صديقٍ أو حبيب حاول الطّعن بنا مرّات ومرّات.

حسين رشيد عضو إتّحاد الأدباء والكُتّاب العراقيّين، عملَ مسؤولاً للصّفحة الثّقافية في جريدة طريق الشعب ومحرّرا في ملحق الطريق الثّقافي، يعمل حاليّا كصحفي مسؤول لقسم التّحقيقات في صحيفة المدى، ويكتب عموده (فارزة) في يومي الإثنين والخميس،عضو اللّجان التّحضيريّة لملتقى الرواية الأولى في مهرجان المربد لأكثر من دورة، له مجموعة قصص قصيرة معدّة للطّبع وهذا الكتاب موضوع بحثنا في هذه القراءة (روشيرو) قصص قصيرة جدّا.

حسين رشيد يكتب عن الحبّ بكونه طاقة... إنس.. ولع... عادة... الحبّ همس... معشر.. هيام... وئام... الحبّ نظرة كما حصل للصّحفي مع (هدى) في أحدى قصص المجموعة.
لايمكن أن نتوقّف لو أردنا أن نتكلّم عن الحبّ.. فهو الكلمة الضاربة من الأزل نحو الأبديّة،منذ التفاحة وسقوطها حتّى النّزق الذي كان يرفل به أحدنا وهو في الجامعة أو الزّقاق مع الجميلات اللاتي شكّلن لنا الحلم الغائب، في خضم تعاليم حياتية صعبة للغاية، أحيانا تحشرنا في منعطف خطير لانعرف ما هو التّصرف حيالها، هل نستمرّ في الحبّ؟ هل نطويه، أم ماذا؟حلول كلّها على الطّاولة وعلينا أن نجد الخيار ولكنّنا لانجده كعراقيّين وُلدنا تحت الأسوار وعلى الأسوار نموت.

من جانب آخر نرى حسين رشيد يتناول الحبّ بكونه خاضع للآيروتيك الريتسوسي و الذي يجب أن يكون كما في قصّة الإسكافي التي سنمرّ عليها لاحقا وممارسة الجنس بين الطرفين لا ذلك الحبّ العذري الذي يخلق الجنون كما حدث لديفداس الهندي. لو تصوّرنا شعوب الأرض متصوّفة ناسكة في الحبّ رجالا ونساء سنراها مخبولة كما قيس أو أنّها تحتاج إلى ربٍّ خاصّ لهذا الموضوع إسمه ربّ المجانين وهذا ضرب من الخيال، ولمَ هذا الاعتقاد بأنّ الجنس نوع من الإثم والتّدنيس؟ فمن أين جاءت أمّهاتنا وآباءنا ثمّ نحن؟ ألم نأتي من هزّة الجماع العظيمة التي مورست تحت مؤسّسة الزواج الشّرعي؟ أو الزّواج الرّسمي الذي سُنّ من أجل تعقيم الجنس ليس إلاّ؟.

حسين رشيد كتب الألم العراقي الموروث، الألم الذي يدخل بيوتنا وأنفسنا دون أن ندرك ونخطّط، الألم الذي يصفه علي الوردي لدى طالبٍ عراقي كان يدرس في أمريكا حين يدخل ليستحمّ تسمعه جارته الأمريكيّة وهو يبكي فتطفق تبكي معه بدمعٍ هطول حتّى أخبرت المعنيّين لإيجاد حلاً له ودراسة حالته الباكية هذه، ولما جاءوا إليه، إستغرب الأمر وأنكر أنّه كان يبكي، حتّى تبيّن أنّه حين يدخل ليستحمّ كان يغنّي مواويلاً وأغاني عراقيّة حزينة تقطع نياط القلب، هذا هو العراقي بحقيقته الدامعة وبما فيه من عُنفٍ دفين.

حسين رشيد يكتب عن العراقي و مناجاته للربّ دون الفهم العميق بل المناجاة السطحيّة العالقة في أطراف العقول، حيث نرى على سبيل المثال حين يصل العراقي إلى أوربا وحالما يشبعُ حرية وطعاما ونقوداً نراه يصيبه النّكوص بل يتحوّل إلى رجعيٍ أصيل. فبدلا أن يكون أكثر مدنية وحضارة وديمقراطية، نراه يلجأ إلى الأكليروس، ويجبر عائلته على إرتداء الحجاب قسرا وأما خلاف ذلك، يلجأ إلى القتل إذا أجبرته الظّروف وحصلت هذه الحالة في أكثر من مرّة ومرّات.

في هذه المجموعة أقرأ جنون وحكمة حسين رشيد وهو يسلك النّهار بفانوس ديوجين، يضرب مع الحبّ مجاديف العشق في الأنهر الهادرة من فيض عصفوريته التي كرهت (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب) التي حاولت أمريكا عدوّة الشّعوب فرضها على بني البشر بحجّة العولمة لكنّها اليوم وجدت نفسها ليست الدّولة العظمى الوحيدة بعد أن رمّم الرّوس والصّين وكوريا الشمالية والكثير من شرفاء العالم ما يتطلّبه العصر من قوّة للتّوازن الدّولي.

تبدأ المجموعة بالقصّة التي تحمل موسومية الكتاب (روشيرو) الإسم الذي يمتدّ كرمزٍ بابليّ إلى ما قبل ستة آلاف عام والذي بنى وأشاد وعمّر، فيعطينا الفرق الشّاسع في خراب اليوم ودماره في الميزوبوتاميا ذاتها، ثمّ قصّة (شقتان) التي أبدع فيها حسين في وصف لعبة الحياة والموت تلك التي تتكرّر في كلّ ثانية على وجه الفسيحة المترامية.

اللّعبة التي ترتبط وشائجها بالجنس الذي يسلب إرادتنا وعقولنا وذاكرتنا في لحظة الذّروة والأورجازم، قصّة تتحدّث عن شخص أراد الإنتحار نتيجة اليأس من أيّام الحصار حيث باع كلّ ما في شقّته لتسديد الدّين ولم ينفع فيلجأ لفكرة الموت والخلاص فيعلّق رقبته بحبلٍ تدلّى من السّقف بينما هو يقف على كرسي، وفي لحظة الإنعتاق من الحياة تلوح له من النّافذة فتاة عارية في الشقّة الثانية المقابلة لشقّته فينسى الموت وهو معلّقا بالحبل فيبدأ بممارسة العادّة السريّة وفي لحظة القذف يتهاوى الكرسي. إبداع وخيال عظيم من قبل القاصّ حسين وهو يصف التّرابط العضوي بين الموت والحياة في لحظات المكاشفة الصّريحة في حكم الجنس علينا والذي يعني بالنّتيجة الحياة لطالما نحن ولدنا من سلطان الشّهوة والجنس والمضاجعة، أمّا الموت فكتب عنه بما لايحصى من الأدباء لكنّني سأكتفي بما قاله قبل فترة وجيزة الشّاعر الكبير يحيى السماوي:

لـيـس تـشـاؤمـاً:
أحـيـانـاً يُـخَـيَّـلُ إلـيَّ
أنَّ الـمـوتَ هـو الـدّواءُ الـوحـيـد
لـلـشّــفـاءِ مـن شـقـاء الـحـيـاة

موضوعة الجنس لدى العراقي هي الشّاغل حتّى في نكاته وفوازيره نظرا لحرمانه الطّويل من المرأة، ولذلك هناك قولا لأحد الكُتّاب الشّهيرين ينطبق كليّا على العراقي والشّرقي بشكلٍ عامّ (الرّجال يحملون قلوبهم في أعضائهم الجنسيّة أمّا النّساء يحملن أعضاءهنّ الجنسيّة في قلوبهنّ) وأمّا أنا فأقول من أنّ الرّجل العراقي، مشروعُ حربٍ واستمناء والمرأة العراقيّة مشروعُ ترملٍ..وتثكّل..وهجرٍ.. وفقد..كما في القصّة (هدى) وكيف خسرتْ من بدأت تحبّه توًّا:

سردٌ يتحدّث عن الموت والحبّ أيضا، حيث يموت صحفيّ نتيجة الإرهاب و الذي كان يكتب عمودا يوميّا في صحيفةٍ كانت تقتنيها (هدى) من أحد الباعة فتلفت نظر الصّحفي ويحبّها من طرفٍ واحد. وذات يوم كعادتها اشترت الصحيفة وبحثت عن عمودها اليومي فترى مقالا بعنوان (هدى) المرأة المكافحة التي كانت تعمل في كشكٍ بسيط لتعيل عائلتها ونفسها كطالبة جامعيّة وكان هذا آخر مقالٍ له قبل موته، قصّة قصيرة اختصرت لنا كلّ معاني موت الحبّ الذي يأتي على حين غرّة في أوقات الحرب التي تخلق لنا آلافًا من القصص الخيالية التي لا يصدّقها العقل البشري وما أكثرها التي تناولها الفنّ السابع في أكثر من دراما مبكية. قصّة تقول لنا من أنّ الموت والحياة هما بمثابة اللّعبة الأبدية التي يتعاقب بها العدم والوجود كما نقرأ أدناه في (اللعبة):

هنا أقرأ حسين رشيد الفلسفي أكثر منه أديبا قاصّا، سرد يتناول تبادل الأدوار والمتناقضات فيما بينها كاللّيل والنّهار والشّمس والقمر والرّيح والنّار، لعبة نشاهدها في السّرد الذي يقترب من التّشكيك بمدى قدرة الربّ الجزئية والكليّة التي تنتهي بالمطاف إلى عجزه وروتينية وجوده التي تؤدّي به إلى الإنتحار والخلاص من ذاته وجبروته أو موته النيتشوي (نحن من وجد الله..ونحن قتلناه...نيتشه) أو موته من وحدته القاتلة كما هو حال الجبابرة والعظماء الذين حالهم ربّما أسوأ بكثير من حال الإسكافي الذي نجده في الرّائعة الآيروتيكية للقاص حسين (الثامن):

لولا جمالكِ وحبّكِ والسّرير... ما تخاصم الأميرُ و الفقير، هذه الحقيقة تجسّدت في الفيلم الباذخ (عشيق الليدي شاترلي) للرّوائي الإنكليزي (ديفيد هربرت لورانس) والذي كتبها عام 1928 وكانت صارخة بالجنس بحيث لم تلائم روح العصر المحافظ آنذاك ممّا جعلها عرضة للكثير من الانتقادات، في الفيلم يتخاصم الإقطاعي المليونير زوج السيدة الجميلة شاترلي مع الحوذي والفلاّح الذي يعمل في بستانه لأنّ زوجة المليونير تحبّ الحوذي والفلاّح حدّ التّضحيّة والخبل ولم يهدأ لها فرجٌ ولا نهدٌ ولا فمٌ تشبعه قبلاً ولا قلبًا ذاق من الحبّ مراره واعتصر، حتّى طلّقت زوجها وتزوّجته وأنجبت له إبنها ثمرة عشقٍ عاصف تضمخ بالنّكاح والإيلاج و الضّميم و الشّميم العظيمين أمّا هنا في قصّة (الثامن) نرى إبنة الدّلال والثّراء تعشق الفقير لله الإسكافي المثقّف الذي رمته الحياة بعد أن أكمل جامعته في عراق النّهب والسّلب فلم يجد في هذا الوطن القاحل غير مهنة الإسكافي المهينة في شعوبنا حسب القول الشّائع (قيّم الركاع من ديرة عفك) تُغريه فتاة الخدر وتدعوه إلى منزلها بحجّة مرضها فماذا يفعل كما يقول دي موسيه (جميع الرّجال كذّابون، متقلّبون، ثرثارون، بؤساء أو شهوانيّون، أمّا بعض النّساء فمحتالات، فضوليّات، منحرفات، لكن ثمّة في العالم شيء مقدّس وسامٍ هو الإتّحاد بين إثنين من هذه الكائنات النّاقصة أو المروّعة جدًّا)، وفي منزلها وبعد أن يرتوي تنهيدًا وتمسيدًا وإيلاجًا وغنجًا وهسيسًا وإمتصاصا وحبّا، يرى صورا مترفة معلّقة في جدران البيت فيتذكّر أخاه والموت الذي غيبهُ في سجون الإجرام ويحزن ويتألّم ولكنّه يكرّر عملية الحبّ ويضاجع بقوّة وبلهفة أكثر ويلتذ ويئنّ ويخدر وينام تحت التّنهيد وفوقه وبجانبه مرار ومرارا، لا أعرف أنا كاتب المقال لماذا كلّما مرّ بالإنسان مشهد من الموت يذهب في أقرب فرصة لمضاجعة زوجته أو حبيبته أو أيّ امرأة لعبور اللّيل، هل هي عمليّة تحدٍّ للموت والإصرار على البقاء أم أنّ النّساء فراشٌ رومانسي وثير و الرّجال ساحاتُ وغىً غبراء؟.

يُتبــــــــــــع فــــي الجـــــــــــزء الثـــــــانــــي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى