الاثنين ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠

حكايا من القرايا

عمر عبد الرحمن نمر

"مغارة الصفا"

هربنا من حَجْر الغرف وقيدها، إلى التجول في الجبال والبراري... نمرّن أجسادنا على صعود الجبال، والمشي في الوعر... ومن لا يعشق صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر... نعم خرجنا وصديقي وتجاوزنا حدود البلدة، إلى الجبال نشتمّ رائحة الطيّون النفّاذة، ورائحة الشومر العطريّة، ونلقّط ما تيسّر لنا من الزعتر البريّ، والفارسيّ، وزعتر البلاط والزعيثمان... ونجمع الزعمطوط والعكّوب واللّسينة...

في قاع كيس البقلة، وضع كل منا قنينة ماء، وأنا زدت فأحضرت معي إبريق شاي مشحّر، وكأنه خرْج الرحلات، ولوازم الشاي...

في مرجة الجمل، طارت من أمامنا شنّارة كانت كاسحةً على بيضها، خافت وطارت، كان في العش أربع عشرة بيضة... رثينا لحالها، وهي لا تعلم أننا من حماة طائر الحجل، ومن حراس بيضه... ولم تعلم أننا هاربون من الحبس الكوروني الذي فرض علينا... وصعدنا إلى تلّة الحمايل... للأسف رأيت مشهداً تعيساً، وقد تحوّل لون الطبيعة من الأخضر الحيّ، إلى الأصفر الجامد... لقد رشّوا تلّة الحمايل بمبيد الأعشاب، فاصفرّت الأرض، وماتت الأعشاب عليها...

قلت لصديقي: لنصعد إلى عراق الواوي، هناك الشومر وزعتر البلاط، ونغسل وجوهنا ونبترد، ونستريح بالقرب من مغارة الصفا، ونأخذ من مائها ونغلي الشاي...
ضحك صديقي، وسألني: (أنت هبيلة، وإلا بتتهبّل) قلت: لا هذه ولا تلك... قال: مغارة الصفا، البقية في عمرك... انتهت زمان... زمان... قلت: وهل تموت المغاير؟ قال: نعم، أتى الذين يبحثون عن آثار بليل، ونبشوا داخلها، ثم طمّوها... في الحقيقة تجمّد الدم في عروقي لدى سماعي الخبر...

مغارة الصفا، كانت محفورة في الصخر، جدرانها ملساء، يأتيها الماء جارياً من ساحة صخرية ملساء تحيطها، كان ماؤها بارداً في الصيف، صافياً زلالاً، يشرب منها الرعاة، والسارحون... والذين يعملون في أراضيهم في المنطقة... يا حرام، كنا ننزل إليها بثلاث درجات تحت الأرض، فتواجهك سبع غرف صخرية... وماء كالمرآة، تأخذ منه ما شئت، كنا نغني ونحن فيها، فيخرج الصوت والصدى كأنك في استوديو إذاعي... ياه... ياه... كل هذا انمحى واندثر، نزلت دمعتي أو كادت، وأنا أمام قبر مغارة الصفا... أقف على الساحة الصخرية التي ظلت شاهدة على إجرام الإنسان بحق تاريخه... أتساءل: عن ذكرى رحلاتنا للمنطقة... عن أسمائنا التي نقشناها على جدران المغارة... عن مواويلنا فيها...

قال صديقي: ما رأيك، أجهّز الشاي؟ قلت: لا تجهّز شيئاً... نفسي انسدّت... ولا أريد شيئاً... أريد العودة إلى البيت فقط... العودة إلى سجن الكورونا... لا أريد أن أتذكر الماضي... هيّا بنا... هيّا... وعدنا، ببقلنا وأرواحنا الحزينة...

عمر عبد الرحمن نمر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى