السبت ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٠
تناغم الكلمة والصوت والصورة في
بقلم محمد خليل

«حكاية مهرة» للأديب ناجي ظاهر

 1  

 منذ أن ولد الأديب ناجي ظاهر وتفتحت عيناه على الدنيا وترعرع وكبر، والفقدان يكاد يكون ملازماً له. مع ذلك، فإن إرادة الحياة وبارقة الأمل لا تبرحانه أبداً، وهو، إلى الآن، ما زال مترعاً بالألم والأمل معاً. إنه قلب يتألم، وعقل يتأمل، وخيال يبدع. ويحسب المرء أن المعاناة المحفورة في الأعماق، هي هي المحفز الحقيقي للأديب على الاستمرارية في طريق الإبداع الذي يسلكه ويرسمه لنفسه. وليست تلك المعاناة محض معاناة على المستوى الفردي أو الذاتي فحسب، وإنما هي، في منظور ما، يمكن أن تصبح المعاناة الجمعية وبأبعادها المتعددة كافة تقريباً: الإنسانية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية وما إلى ذلك، لأن الأديب غير منبت عن محيطه أو بيئته، إنه ينتمي إلى جماعة ومجتمع.

عاش أديبنا في ظل واقع تفاعل معه، وانفعل به، على الرغم من أن ذلك الواقع قد فُرض عليه قسراً، وأما حلمه الذي ما انفك يلازمه، فما زال يكبر معه ولا يتركه للحظة وبقي شغله الشاغل إلى الآن. لذلك، تراه يلتفت إلى الماضي، يعيش الحاضر، ويتطلع إلى المستقبل ليرثه.

من منا لم يقرأ قصص ناجي ظاهر ورواياته التي أتحفنا بها على مدار عقود عدة؟! يشهد له بذلك أدبه المتوهج، ولاسيما القصة القصيرة تحديداً، بعد أن أصبحت أكثر إبداعاً وإمتاعاً وجذباً للمتلقين ؛ قراء ومبدعين على السواء. في كل مرة نقرأ له قصة أو رواية نتمتع بها، وتسعدنا أكثر وأكثر، على نحو لا يكاد يوصف! والأسباب مجتمعة ومتعددة لكن أهمها على الإطلاق: ما لها من وقع في نفوسنا، وما بها من ملامسة لمختلف جوانب حياتنا، وهو أحد دوافعنا إلى فهم نظام أثره الخاص وتفاعلاته الذاتية والموضوعية، مما يؤهله لأن يكون ركيزة أساسية في مشهد حركتنا الأدبية المحلية، لا بل جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتنا الجماعية.

في العجالة الآتية، سوف نحاول، جهد وسعنا، أن نتتبع قصة (حكاية مهرة) في قراءة تتوخى، هذه المرة، العثور على المعنى المرجو في بطن النص، والاعتماد على أن يكون النص مصدراً رئيسياً وأساسياً، لكونه سلطة تحكم المرسِل والمرسَل إليه على السواء، وعملاً بروح شعار دريدا الذي يقول (لا وجود لشيء خارج النص)! مع محاولة عدم كشف الغطاء بالكامل عن مكنونات النص، محاذرة أن يصبح نصاً مبتذلاً أو خلواً من أسباب الدهشة والانبهار، ودفعاً لسأم القارئ وملله، وفي الوقت نفسه، لأجل الإبقاء على المجال مفتوحاً أمامه وتمكينه من ممارسة حقه في استنطاق النص، والإدلاء بدلوه، من خلال ملء بعض الفراغات التي لا تنتهي. وتلك هي المشاركة الحقيقية للقارئ المنتجة والفاعلة لا المستهلكة فحسب، أملاً في إضافة أكبر قدر ممكن من القيمة المشتهاة في فضاءات النص من: إثراء ونقاش وتنوير وتأثر وتأثير وتنوع وما شابه. ما يؤكد على أن النص ليس مجرد عاكس للمعنى بقدر ما هو عالَم من الدلالات. يقول محمود أمين العالِم في ما يعتقد أن النقد الأدبي سلاح ذو حدين، في كلامه على أدب نجيب محفوظ " ما أنبل الإبداع الفني وما أجمل بناءه المنطوي على الأسرار! وما أشد سماجة أي تحليل لهذا الإبداع، يفض أسراره، ويشرّح جسده النبيل الجميل! حقاً إن التحليل والتشريح وكشف أسرار العمل الفني، هو وسيلة بغير شك لتطوير الخبرة الفنية والجمالية ومضاعفة متعة التذوق نفسها فيما بعد، ولكني برغم هذا أحس بسماجتها وثقلها على نفسي وأنا مقدم بوجه خاص على الحديث عن المعمار الفني لثلاثية نجيب محفوظ " . الأمر الذي يظهر مدى إشفاق العالِم وخشيته على النص من المس به، أو احتمال وقوعه تحت طائلة أية إساءة، قد لا تكون مقصودة من جانب القارئ!

2

((حكاية مهرة)) عنوان القصة التي تعرض لها هذه القراءة، وهو العنوان ذاته الذي تحمله مجموعة القصص. وهي سرد قصصي، يوحي عنوانها، للوهلة الأولى، بالحدث الرئيسي في القصة، ومن حوله ينسج الكاتب مجريات أحداثها. منذ الجملة المِفتاحية الأولى، يتعرف القارئ على ظروف القصة، وعلى سائر الأحداث فيها، والتي لا يحكمها، كما يبدو، منطق أحياناً. لكنها تقتصر على شخصيتين محوريتين لا ثالثة لهما:

الراوي وهو الكاتب نفسه والمهرة!

يمهد الكاتب، على طريقته الخاصة، وهو يخاطب القراء كافة، معلناً بشكل مباشر أنه يكتب قصة فيقول ((فأنا أكتب لكم قصة من هذا الزمن، فعلاً أنا أكتب قصة، ولا أنقل خبراً، ألم أقل لكم، إن خاطري انكسر بعد إسقاط مهرتي لي عن صهوتها؟ لو نقلت لكم نبأ إسقاطها لي لكان هذا خبراً، اسألوا فورستر، أما إذا ألحقت بالخبر شرحاً، فإن النبأ يضحي حدثاً. الحدث يتكون من سبب ومسبب، هكذا تكون القصص)) ! إنه يقدم لنا درساً في كتابة القصة، وهو متكئ على فورستر وعلى خبرته في القصة، وكأنه يريد أن يلفت النظر إلى مقولة في الفن: ألا تقول إلا ما هو ضروري! في إشارة إلى صفة التركيز على الحدث أو الموقف، تعبيراً أو تصويراً. ثم يضيف إلى ذلك قوله بأن القصة إنما تحتاج إلى صبر وأناة (ألم نتفق أن القصص تحتاج إلى صبر حتى تأتي مقنعة وحتى يقبلها القلب والعقل؟)

((حكاية مهرة)) من وجهة نظر خاصة بحتة، ليست ككل قصص الكاتب الأخرى، لما تشكله من انطلاقة نوعية متقدمة، جاءت في لبوس فني جديد ؛ مبنى ومعنى. من هنا قد لا يكون مصادفة أن يختار الكاتب هذا العنوان لمجموعته. فالقصة غامضة بعض الشيء كما سوف نرى لاحقاً، لكنها ذات نكهة خاصة، وفيها متعة من نوع آخر، فهي أقرب ما تكون إلى الشرك ينصبه الكاتب للقارئ. يوهم الكاتب ويراوغ، كأنما هو بصدد مهرة بحق وحقيق، في حين ليس الأمر كذلك، فالقارئ يجد نفسه أمام خدعة سردية متقدمة ورفيعة المستوى. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا: القصة فن أدبي (خبيث) ، فن ذو حيل كما يتجلى ذلك واضحاً في ثتايا القصة . وقصة (حكاية مهرة)، كما يبدو، تشي بأنها غنية ورحبة تحمل القارئ على أجنحتها لتحلق به إلى أجواء وآفاق رحبة لكنها جميلة، إنها نص أدبي ممتنع، لكنها من صميم الواقع الأدبي للكاتب نفسه، فالنص الأدبي لا يتشكل من فراغ. إلى ذلك، فإنها تجمع ما بين اللوحة الفنية المعبرة، والعبارة الفنية المصوِّرة والصوت المصاحب لهما على مدار القصة بأكملها.

العنوان نص قائم بذاته، يشكل العتبة الأولى أو البؤرة الرئيسة التي من خلالها يدلف المتلقي إلى سائر مساحات النص، يدخل منه إلى أجواء القصة ليقف وجهاً لوجه مع الراوي ومهرته. العنوان، مرة أخرى، تركيبة مخادعة إلى حد ما، إذ يوحي وكأن المهرة المقصودة هي أية مهرة، مجرد مهرة عادية، مجهولة الهوية، لكن الأمر ليس كذلك، فالمهرة المقصودة، كما يتبين لنا، لم تكن سوى((مهرة)) الكاتب نفسه. وقد يلحظ المتلقي على القصة، بأن تقنية المراوغة تلك جاءت ملازمة لها منذ بدايتها إلى نهايتها. وليس في ذلك إلا ما يؤكد على براعة الكاتب وفنية القصة، وقد أودعها بعضاً مما في جعبته من المميزات المعرفية والثقافية والتقنية، باعتبارها أحد أهم مكونات الأديب الإبداعية.

يُرى الكاتب، من خلال تشكيله اللغوي، وهو يطلق العنان لإحساسه أولاً، ثم لخياله ثانياً وأخيراً لذهنه، في علاقته الجدلية تلك مع مهرته. فهو يحتفي بها احتفاءً لافتاً، إنه يعيشها وتعيشه، يلاحقها وتلاحقه. منذ البداية، يوهم الكاتب المتلقي بأن مهرته قد أسقطته عن صهوتها فانكسر خاطره، كما يروي ذلك هو بنفسه في مستهل قصته فيقول((أوقعتني مهرتي عن صهوتها فانكسر خاطري))! ويحسب القارئ أن ذلك التعبير أو قل التصوير يمكن أن يستوقفه ويشده ليدهشه، لما فيه من براعة التصوير وتخير المفردات! وقد يبدو للقارئ، أنه على الرغم مما فعلته المهرة، فإنها بقيت محفورة في أعماق الكاتب لا تبرح مكانها في وعيه ولاوعيه!

 يتكرر مشهد السقوط عن صهوة المهرة في نهاية القصة. مرة أخرى، يقول الراوي في تأثر بالغ((وفجأة، فجأة فجأة، أسقطتني مهرتي عن صهوتها فانكسر خاطري. تضحكون لهذا المقلب الذي نسجته لي مهرتي ونفذته ببراعة))! ففي كل مرة يوشك الراوي على الإمساك بتلابيب مهرته، وإحكام القبض عليها، حتى تعود إلى سابق فعلتها، إلى إسقاطه من جديد، وهكذا دواليك. بعد أن يواصل القارئ مشواره متتبعاً أحداث القصة، آنذاك فقط يكتشف سر السقوط وسر ما يعتمل في صدر الراوي!

وإذا كان خاطر الراوي قد انكسر (ألف سلامة)، وهو انكسار مرحلي، ما يعني، تلقائياً أن توقعات القارئ قد انكسرت هي الأخرى! ذلك بأن الكسر الذي وقع في خاطر الراوي قد يتبعه كسر في توقع القارئ، إذ لم يكن متوقعاً أن يقع الكسر في الخاطر، وهو ما يسمى بالانحراف أو العدول عن المعنى الحقيقي. على كل حال، سنرى من يضحك في النهاية كما يقال! وهذا ما حدث بالفعل، ذلك بأن الكاتب لم يضحك فحسب وإنما فاز وضحك وسعد أيضاً! لقد تحول السقوط عن صهوة المهرة وتكراره، مرة بعد أخرى إلى محرك رئيسي في القصة وذلك على مستوى الفعل السردي الذي ينفتح على الزمن الماضي وعلى تصاعد الأحداث فيها.

يعاود الراوي النهوض مجدداً من دون أن يستسلم لسقوطه أبداً، إلى أن تحصّل أخيراً على مبتغاه وحقق مناه. صحيح أنه لم ينجح من المرة الأولى، وليس بالضرورة أن تنجح المحاولة من المرة الأولى، لكن إصراره وقبوله للتحدي أثبت قدرته على تحقيق النجاح والوصول إلى الغاية المنشودة، فالنجاح حليف كل مثابر. وفي ذلك وحده ما يمكن أن يشكّل معادلاً موضوعياً يسقطه الكاتب على القارئ، فليس البيان دائماً في سرد الفكرة بقدر ما هو في ترجمتها إلى صورة متحركة ومؤثرة!

 ثمة لوحة فنية أخرى لافتة، أقرب ما تكون إلى لوحات المتصوفة، فيها يشاهَد الراوي وهو يقترب من ((مهرته))، فهو يحبها لا بل يعشقها، وهي، كذلك، تبادله الشعور نفسه إنه يحاول الإمساك بها والاتحاد معها، إلى أن يبلغ هذا الشعور حد التماهي والاتحاد الكلي فتتقارب المسافات وتسد الفجوات، ويكاد مراده أن يصبح في متناول اليد، أو هكذا يخيل إليه، لكن فجأة، وما هي إلا لحظات حتى تعود المهرة لتفلت من بين يديه، يقول ((بات الجسم كلاً واحداً موحداً، بل إنني أدعي أن المسافة بين جسمي وجسمها ؛ جسم مهرتي [لن نظن فيك الظنون، واضح أنه جسم مهرتك، لا حاجة للتفصيل، وأنت القائل للتو: الشرح يقتل الفن! م. خ.] تقلصت، بعد تأثير الحلم المشترك وعودته)) ! كأني بلسان حاله يريد أن يقول: أنا هي وهي أنا!

في مرحلة ما، يطلعنا الراوي على ما آلت إليه حاله وحال مهرته، ويقول ((مضت الليالي وأصبح كل منا حلما، بالنسبة للآخر، أنا أحلم بها.. تنظر إلى البعيد تاركة شعرها الأسود يتطاير في مداه وأركض محاولاً أن أركض كي أصل إليها، دون أن يكون لي، دون أن أصل))! وفي سياق متصل لكنه متقدم نقرأ ما يقول ((الحلم ابتدأ يعود ليكون واحداً. اختفت شعرة معاوية، لم يعد أحد يفكر في أي عضو آخر من أعضاء جسمه))! وليست تلك الأفكار والرؤى مجرد أضغاث أحلام، وإنما هي أحلام حقيقية، وما الأحلام، في منظور ما، سوى انعكاس للوعي بالواقع، يترجمها العقل الباطن، وقد تكون انعكاساً أو بالأحرى اكتشافاً للمستقبل. هنا تكمن مهارة الكاتب وحذقه في قدرته على الكشف عن المشاعر التي يمكن أن تغمر القلب الإنساني!
 

3

 
 من جديد، يُرى الراوي وهو يحلم بلقاء ((مهرته))إلى أن يخيل إليه بأن اللقاء بينهما يوشك أن يتحقق ولا بد منه كما يقول ((قرب الحلم بيننا، وهكذا بات اللقاء مجدداً، أمراً مفروضاً ولا بد منه)) وإذا بالراوي ومهرته يندفعان، بلهفة، كل باتجاه الآخر((واندفع كل منا اندفاعة مهر راغب في الحياة لا يرده راد عنها. هي اندفعت وأنا اندفعت))! وبالفعل يحدث اللقاء الموعود، ويتحقق الاتحاد المنشود، وفي ذلك يقول ((اعتليت صهوتها اعتليتها، وأنا أعرف أنني اعتليتها))! ولكن ما أن يبلغ الفرح لديه أوجه، معتقداً أنه أخيراً، في طريقه إلى تحقيق غايته التي طالما سعى إليها، ويقول ((فانطلقت انطلاقة فرح مباغت مجنون، وكنت على صهوتها مثل فارس عربي ثكلته أمه، وعاد مجدداً ليعتلي صهوة مهرته. انطلقت بي مهرتي، جن جنونها))! واستطاع بمعيتها أن يصل إلى مناطق كانت مجهولة بالنسبة له، ولشدة فرحه ونشوته العارمة باللقاء راح يصهل كالمهرة تعبيراً عن سعادته ((وصلت إلى مناطق معتمة تجلت فيها ألوان الحياة كلها حتى أنها راحت تصهل وجن جنون محسوبكم، فراح يشاركها الصهيل. أنا وهي رحنا نصهل، كأنما نحن صوتان ينطلقان من حنجرة واحدة، وحدنا صوت طالما تاق إلى وليفه الصوتي))! إنها علاقة عاشق ومعشوق، في رحلة المعرفة المضنية وما يلزمها من مجاهدات ؛ غاية الغايات لدى المتصوفة، هكذا يعبّر عن إحساسه في اختراق الحجب والوصول والتجلي. حتى الطبيعة من حوله كما تخيلها راحت تشاركه فرحة اللقاء فنقرأ قوله ((ابتسمت وردات الحلاج، اختلفت ألوانها، جن جنون العصافير، فراحت تبتعد عن أشجارها، محلقة في فضاء سرمدي بعيد))! يلتفت الكاتب، في إشارة ذكية، إلى بعض الجوانب المشرقة في تراثنا، فيختار كتابات الحلاج، ليجعل منها وروداً ملونة، منثورة على الطريق لفائدة ومتعة كل طالب. لقد تجلت الصورة بأروع ما يكون في فضاء لا يعرف له مدى أو منتهى، شعور غامر لا يكاد يوصف ((طارت روحانا أنا وهي إلى أجواء سحرية لا حدود لها، فبدت مثل جنات تجري من تحتها الأنهار وبدونا فيها أنا وهي، خالدين أبدا))! وكان أن خلد مهرته مثلما خلدته! هكذا إذن تكون القصة الخالدة، وهكذا يكون الأدب الخالد وكل فن آخر، وكذا صاحبه!

وبالنظر إلى الكاتب مرة أخرى فإنه يُرى، في غير موقف، مصوراً أكثر منه معبراً، إن صورة واحدة لتعادل ألف كلمة، ولاسيما من خلال تلك اللوحات الفنية الرائعة، الحافلة بالصور التي يمكن أن تستدعي وقفات تأملية وأخرى وجدانية، مثال ذلك: تلك التي جمعته مع مهرته في حالي الشد والإرخاء! وأخرى توضح بأنه، في مرحلة ما، أصبح قاب قوسين أو أدنى من الوصول، لكن، فجأة تسقطه المهرة مرة أخرى لتعود الحكاية من جديد، إلى نقطة البداية وهكذا دواليك! ويثبت واقع الحال أن حكاية أديبنا إنما تذكر القارئ بأسطورة سيزيف من الميثولوجيا الإغريقية القديمة حين حكمت عليه الآلهة بأن يدحرج صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، ولكن قبل أن يصل القمة تتدحرج الصخرة إلى الوادي، فيعود إلى دحرجتها من جديد إلى القمة، وهكذا عود على بدء يظل إلى الأبد. فأصبح رمز العذاب الأبدي مع أنه يفعل ذلك وهو مسرور وسعيد!

 من الواضح، أن الكاتب قد أجاد في ابتكاره لشخصية المهرة، التي ترمز إلى شيء ما قريب إلى عقل الكاتب حبيب إلى قلبه. إن الصورة التي يرسمها الكاتب للمهرة، غير منفصلة البتة عن عالمه، وقد أضفى على الأحداث سمات غير اعتيادية أو خارقة لأنها متخيلة، وذلك حين أنسن المهرة وجعلها تتكلم على هيئة الإنسان. أما علاقته بمهرته فقد كانت وبقيت وسوف تستمر علاقة حميمة، لا بل علاقة عاشق ومعشوق كما قدمنا، على الرغم من محاولاته المتكررة ركوب مهرة جامحة وترويضها، وهي تتمنع عليه دون أن يحبط أو ييأس أو يشعر بأي كلل أو ملل أو تراجع. بل على العكس تماماً، فإنه يصمم على الانتظار والمحاولة مرة ومرات إلى أن ينجح وقد نجح أيما نجاح! يؤكد ذلك ما يرسله النص، كسلطة حقيقية تحكم منتجه مثلما تحكم مستقبله، من إشارات تعبيرية وصوتية، وأخرى تصويرية، يمكن أن تساعد القارئ في مقارباته الكشفية والتنويرية. ما يعني أن البحث في النص لا يكون بحثاً عن مجرد معناه، في نص يضمر أكثر مما يظهر وتمتزج فيه أو تتجاور المؤثرات الصوتية ، مثال ذلك: تضحكون، الوقوع المدوي، راحت تصهل، أنا وهي رحنا نصهل، جن جنون العصافير تضحكون لهذا المقلب، انطلقت انطلاقة فرح مجنون الخ... مع المؤثرات الحركية ، مثال ذلك: أوقعتني مهرتي عن صهوتها، فإذا شدت أرخيت، أركض، حتى ابتدأ كل منا يتحرك باتجاه الآخر اندفعت في طريق هي صنعته، هي اندفعت وأنا اندفعت، أسقطتني الخ... مع المؤثرات البصرية ، مثال ذلك: مهرة، عقب سيجارة، سيجار كلينتون ومونيكا، شعر أسود يتطاير في مداه، القحقوح، الرأس، جسدينا، انطلقت انطلاقة فرح مباغت مجنون العصافير، مناطق معتمة الخ...

ويلزم أن نضيء في السياق ذاته: ليست جماليات التلقي، وفي مقدمتها فعالية توليد المعنى أو إنتاج الدلالة، على صعوبتها وحاجتها إلى بعض الجهد الذهني الخاص، إلا مقاربات أفقية ورأسية متفاوتة في مداها. وهي، في ذلك، أشد ما تكون شبهاً بفعل الحجر في الماء متى ألقي فيه. فالإشارات والعلاقات النصية، مثال ذلك: اللغة والشفرة والسياق والفراغات وتفاعلاتها، إضافة إلى مكونات المتلقي، مثال ذلك: النفسية، والثقافية والنماذج الثقافية السائدة هي التي تتيح للمتلقي وتساعده على أن يتكهن أو يتخيل المعنى المضمر في ثنايا النص، لكن ليس على نحو قطعي!
من جهة أخرى، ليس بالضرورة أن تأتي الصورة، التي يتذوقها القارئ أو يستشعرها على هيئة ما تراه العين المجردة، بل قد تأتي، أحياناً، على صورة وجدانية، انفعالية أو تفاعلية محسوسة، أو أية صورة متخيلة أخرى، يمكن أن تتشكل في ذهن المتلقي. ومعروف أن الصورة تظل أصدق من أي تعبير!
 

4

 يدهشنا الكاتب وهو ينقلنا من عالم واقعي إلى عالم فني متخيّل حافل بسياقات سردية من أجمل ما يكون، مع ما يترك عامداً، من حين لآخر، بعض الفراغات وهو ينتظر أن يملأها القارئ وهو يعيد إنتاج النص. وقد يلحظ القارئ على هذا النص وهو يجوب آفاقه أنه إضافة إلى كونه نص صورة وإشارة أكثر منه نص عبارة، فالكاتب يحدّث القارئ بأسلوب جذاب يشعره كأنما هو موجود أمامه، يروي له مجريات أحداث القصة على لسانه، يشارك المهرة من حين لآخر، في صنع الحدث، لكنه هو من يقبض على خيوط ذلك النسيج، وهو المحرك لأحداث القصة، هو بطلها وراويها، متوسلاً من خلال ذلك تقريب القارئ منه وجعله كأنما يستمع إليه مباشرة، لتلقى القصة لديه قبولاً واهتماماً متزايدين فيزداد اقتناعاً بصدقها وواقعيتها.

 وليس ذلك فحسب، بل يحاول إشراك القراء كافة بأحداث القصة ووضعهم في الصورة أو أن يعيشوا التجربة ذاتها، في أقل تقدير، والتي يمكن أن تحدث معهم، فيقول ((تضحكون لأنكم لستم أنتم من انكسر خاطره. طيب انتظروا عيشوا لتروا، عيشوا ليحصل لكم مثلما حصل لي... وألا تنسوني، يوم يصيبكم مثلما أصابني ويوم تسقطكم مهرتكم عن صهوتها فينكسر خاطركم تذكروا هذا جيداً.. لا تنسوه!)) . حقاً ما أصاب أديبنا قد يصيب كل واحد فينا ممن يخوضون التجربة، وما حدث له مع مهرته حدث ويحدث لغير واحد فينا، مرة بعد أخرى! ولطالما كنا نتعامل معها برفق ولين وصبر والصبر مفتاح الفرج، إلى أن تنقاد لنا كل مهرته أو تستجيب!

كذلك، يكثر الكاتب من توظيف الخيال داخل السرد، متجاوزاً ذلك الخط الوهمي الذي يفصل بين الحقيقة والخيال ليجذب القارئ ويشوقه أكثر وأكثر. ولا يستبعد المرء تداخل الكاتب بالأحداث، بل على العكس تماماً، وذلك بفعل تأثره النفسي والروحي فضلاً عن قربه من مسرح الأحداث، وفي تصويرها لا في مجرد التعبير عنها، كأن ينقل أحداثها أو يسجل مجرياتها عن كثب.

5

ومما تجدر الإشارة إليه، أن القصة تحتفي ببعض المظاهر الحداثية ومنها:

  الإيحاء: أظهر النص لغة حمالة أوجه متعددة، من الإيحاءات والدلالات والتداعيات مثال ذلك: هذا ليس زمن الضحك، ألم تعلموا أن هذا زمن الهذيان أيضاً؟! فإن شدت أرخيت شعرة معاوية، قصاص الأثر يبحث عن أية شعرة سيجار كلينتون ومونيكا، بقايا ليلة حمراء، يلعب الشدة بورق مكشوف، الشرح يقتل الفن، وشو هالحياة اللي بده الواحد يظل يفكر فيها بعضو واحد من أعضاء جسمه؟ لماذا لا ننتقل إلى الرأس؟ قرب الحلم بيننا، أنا وهي رحنا نصهل.

  الجمع بين شخصية حديثة (فورستر) وأخرى تراثية (الحلاج)، تأكيداً على علاقتنا بهم من خلال الآثار التي خلفوها.

  الاتساع أو التوسع: ينسج الراوي كلامه في فضاء مجازي، له حضوره اللافت بما في ذلك التشخيص أو الأنسنة مثال ذلك: انكسر خاطري، عبث بنا الحلم حتى أغرانا، الحياة ابتدأت تبتسم، جن جنونها، جن جنون العصافير، أنا وهي رحنا نصهل، ابتدأت مهرتي في إظهار شعرة معاوية، تنقلنا أفكارنا، ابتسمت وردات الحلاج.

  الثنائيات المتناقضة المتجاورة: الوضوح والغموض، التصوير والتعبير، الحقيقي والخيالي، الخداع الفني في مقابل الصدق المضموني، التباعد والتقارب، التواصل والانقطاع، الشد والإرخاء، أنا وهي. 

 طريقة السرد: يستخدم الكاتب طريقة السرد المراوغ موهماً القارئ بواقعية ما يحدث أمام سمعه وبصره، وأن الكلام يدور عن مهرة حقيقية لكن الأمر في حقيقته لا يعدو كونه مجرد عمل متخيّل ليس أكثر!

 كسر النمطية: أي النمذجة التقليدية، والتشكل النمطي في القصة، الذي أصبح من مخلفات الزمن الماضي.

 كسر توقع القارئ: كانت نهاية القصة مفاجأة بالنسبة للقارئ من خلال النجاح الذي تحقق.

  الترميز والأسطرة: المهرة ترمز إلى شيء ما، وأسطرة الواقع مع ما في ذلك من اتكاء على أسطورة سيزيف اليونانية القديمة.

  الإنسان في المركز: نجح الكاتب في التركيز على الإنسان (أنا في المركز لا في اللامركز) حيث يتم التركيز على الإنسان، وعلى همومه، أو ما يقض مضجعه والكشف عن ذاته بأسلوب مثير ومدهش!

6

مهما يكن، فإن نهاية القصة كانت من أجمل ما يكون! ذلك بأن نجاح القصة، ونجاح الكاتب، حتماً ما كان له ليتحقق لو أن السقوط المتكرر عن صهوة المهرة لم يتم. لقد كان إسقاط المهرة للراوي عن صهوتها جزءاً لا يتجزأ من نجاح القصة عينها وشرطاً أساسياً لا يمكن تجاوزه، لأجل تحقيق ذلك النجاح المأمول. للوصول إلى نجاح القصة كان لا بد من المرور بالسقوط عن صهوة المهرة! هذا هو المشهد، وهذا ما حدث بالفعل وفي ذلك نجد الكاتب يقول ((بعدها تعالوا وحاسبوني تعالوا وسوف تجدونني بالانتظار. لن أكون وحيداً، ستكون هذه القصة معي))! 
 
 
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى