الخميس ٨ آذار (مارس) ٢٠١٨
بقلم محمد زكريا توفيق

حكم المواشي وحكم البني آدميين

كانت الضفادع تعيش حياة سعيدة هانئة في مياه مستنقع دافئة، غنية بيرقات الحشرات، ومحاطة بنباتات البوص والأعشاب. وكانت الضفادع تقضي وقتها في الغوص والقفز والنط والتهام غذاءها الوفير أثناء النهار، والغناء والغزل والحب أثناء الليل.

لكن ظهر بينهم من وجد أن هذه الحياة ينقصها شيء، ليست على ما يرام ولا يجب أن تكون هكذا. بسبب عدم وجود ملك يرعى شؤونهم ودستور ينظم أمرهم. لذلك قرروا أن يرسلوا إلى الإله جوبتير التماسا جاء فيه:

"يا جوبتير العظيم، أعطنا ملكا يحكم بيننا وينظم شؤوننا." ضحك جوبتير من سذاجتهم، وألقى إليهم في المستنقع بجذع شجرة كبيرة.

عند سماع الضفادع لصوت ارتطام الجذع بالماء، أصيبت بالذعر وفرت هاربة من المستنقع في كل اتجاه. ظلت من بعيد تراقب الجذع وهي تظن أنه وحش كاسر. لكن بعد فترة، اكتشفت أن الجذع ميت لا حراك فيه. تقدم أشجعهم وقفز على الجذع وأخذ في الرقص والغناء. عندئذ، تبعه باقي الضفادع وفعلوا مثل ما فعل.

عادت الضفادع إلى أسلوب حياتها اليومي، دون أن تشعر بوجود ملكهم الجديد بينهم. لكنهم لم يقتنعوا. ووجدوا أن هذا ليس طلبهم وما يبغون. لذلك، قاموا بإرسال التماسا جديدا، يطلبون فيه ملكا بحق وحقيقي. ملك يستطيع أن يحكمهم كما يجب أن تحكم الشعوب، أو كما تحكم الشعوب العربية اليوم.

لكن هذا الطلب السخيف أصاب جوبتير بالغضب. فأرسل إليهم على الفور طائر اللقلق كبير الحجم. سرعان ما أطلق لشهيته العنان، وبدأ في التهام الضفادع واحدا بعد الآخر.

هذه حكاية من حكايات "لافونتين" الرائعة بعنوان "الضفادع تطلب ملكا". الحكمة منها، هي أننا يجب أن نكون حذرين في اختيارنا لنظم الحكم التي نحلم بها. النظام الرئاسي لا يصلح للدول الضعيفة المغلوبة على أمرها، ذات النسب العالية من الأمية، والتي يسيطر فيها الجهل والمنافقون ورجال الدين علي عقول شعوبها.

ما يصلح لهذه الشعوب، هو النظام البرلماني والحكومة البرلمانية. الذي يكون فيه الرئيس يملك ولا يحكم. مثل النظام الجمهوري في الهند وفي إسرائيل، أو النظام الملكي عندنا قبل الثورة، أو النظام الملكي الإنجليزي، أو مثل جذع الشجرة الذي ألقاه جوبتير للضفادع في المستنقع ولم يرتضوا به.

يقسم أفلاطون نظم الحكم إلى نظامين: نظام يكون فيه القانون هو السيد. ونظام تكون فيه القوة هي السيد. يأتي أرسطو بعده، لكي يُعّرف الدستور بأنه مجموعة القوانين التي تمنح السلطة لأفراد الحكومة المشكلة وفقا للدستور. ثم يشير أرسطو إلى الرجال الذين يقومون بتأسيس دول دستورية، بأنهم أعظم الواهبين وأنبل الناس.

ماذا يعني أرسطو عندما يقول إن "سولون" في أثينا، وليكورجوس في إسبرطة هم أول من أسسوا دولا؟ وماذا يعنيه بوصفهم أعظم الواهبين وأنبل الناس؟

في حكومة العائلة، الأب يحكم أولاده حكما مطلقا، ولا يكون للأطفال أي رأي أو صوت في الأمر. الأب يفعل ذلك لأنه أنضج وأكثر خبرة من أطفاله ويعرف مصلحتهم. نظام الحكم القبلي أيضا، الأكبر سنا في القبيلة هو الذي يحكم. أكبر منك بيوم، يفهم عنك بسنة. وهو نظام يعتبر امتدادا للنظام الأبوي.

الملوك التي تحكم بالحق المطلق، لا تفعل ذلك بسبب تفوقهم في الخبرة والحكمة والذكاء على رعاياهم، إنما بسبب امتلاكهم للقوة والسلطة دون غيرهم. لكن هذا أيضا نظام حكم يعتبر امتداد للنظام الأبوي.

بالنسبة لأرسطو، نظم الحكم الدكتاتورية والأبوية، لا ينتج عنها دول. أي والله. الدولة لا تتكون أبدا إلا إذا كانت الحكومة دستورية. أي عندما يظهر الدستور، ويُفعّل وتلتزم به الحكومة. فيه دستور مطبق ومحترم، فيه دولة. مافيش دستور مافيش دولة. يعني ببساطة شديدة، الحكم بدون دستور وقانون هو حكم يصلح للمواشي لا البني آدميين.

لهذا اعتقد أرسطو أن "سولون" في أثينا و"ليكورجوس" في إسبرطه، هم أول من أسسوا دولا حقيقية، بوضعهم دساتير لمدنهم. بقيام الدولة والدستور والحكومة الدستورية، يظهر المواطن والمواطنة للوجود. قبل ذلك، ما كان فيه مواطنة أو مواطنون ولا يحزنون.

اختراع الإغريق للدستور يعتبر أعظم تقدم في تاريخ البشرية والمجتمعات. اختراع يقف في عظمته جنبا إلى جنب مع اكتشاف النار واختراع العجلة وترويض الحيوانات وإتقان الزراعة. قبل اختراع الدستور، كانت الناس تحكم كرعايا. أي عبيد أو مواشي. لكن لا يوجد مواطنين في أية دولة من الدول.

لم يكن الدستور الأمريكي هو أول الدساتير، ولم يكن من اختراع الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. بعد الدستور الأمريكي بسنوات قليلة، جاء الدستور الفرنسي، لكي ينهي الحكم الدكتاتوري لملوك البربون. وينشئ أول جمهورية فرنسية، ويعطي مفهوم "المواطنة" بعدا ثوريا جديدا.

الجمهوريات وجدت في العالم القديم. في اليونان وفي روما. الحكومة الدستورية لم تكن الأولى في الولايات المتحدة عام 1787م. الحكومة الدستورية، بدأت في إنجلترا عام 1215م، مع "الماجنا كارتا"، التي كانت أول الخطوات في تقييد سلطة الملك، وزيادة سلطة نواب البرلمان. والتي جعلت الناخبين مواطنين بدلا من كونهم مجرد رعايا للملك.

لكن ما هو الدستور؟ هل يمكن أن آتي بصفحة من دليل تليفونات، أو مجموعة قوانين كيفما تكون، وأقول هذا هو الدستور؟ الدستور الذي يحولنا من مجرد رعايا وعبيد، إلى مواطنين، يجب أن يحمل في طياته ما يحافظ على حقوقنا كبني آدميين.

إذن الدستور وسيلة وليس غاية. نبدأ بالأهداف التي نبتغيها لكي نكون مواطنين صالحين، ثم نطلب الدستور الذي يحمي ويصون هذه الأهداف. الأهداف تختلف من شعب إلى شعب، ومن زمن إلى زمن، ومن مواطن إلى آخر، لكن هناك أهداف عامة أساسية لا يمكن بدونها أن نكون بني آدميين أو مواطنين صالحين.

هذه الأهداف الأساسية هي:

 المساواة

 حقوق الإنسان الطبيعية

 حقوق الإنسان المدنية

 حق كل فرد في طلب السعادة

الحكومات تنشأ لحماية هذه الحقوق. التاريخ السياسي لشعوبنا يفيد بأن معظم حكوماتنا، بما فيهم حكومتنا الحالية، لم تحفظ أو تحمي حقوق الإنسان الطبيعية لنا. هذه هي طبيعة الطغاة والمستبدين الذين يحكمون بقوة البطش لا بقوة القانون. هم يدمرون هذه الحقوق ولا يحمونها.

الحقوق الطبيعية لا يمكن سلبها من الناس. لأنها جزء من طبيعتهم الإنسانية. لذلك يجب حمايتها بكل السبل. أول واجبات الحكومة، هو حماية حقوق الإنسان الطبيعية.

لكن، كيف يتسنى لحكومة، أن ترعى وتحمي حقوق الإنسان الطبيعية؟ الإجابة تكون عن طريق تطبيق القوانين التي تحمي هذه الحقوق. أي تطبيق القوانين التي تمنع القتل والتعذيب الذي يهدد حياتنا وصحتنا الجسدية والنفسية. والتي تمنع الاختطاف والاعتقال والسجن بدون محاكمة.

الحكومات التي تحمي هذه الحقوق، تستمد شرعيتها من رضاء وموافقة المحكومين. هي الحكومات التي تحكم بالحق، لا بالقوة. شرعية الحكومة تتوقف على مدي حمايتها للحقوق الطبيعية لمواطنيها. الدستور الذي يحمي حقوقنا الطبيعية والمدنية، هو الذي يسمح بقيام حكومة شرعية يرضى عنها الناس.

الدستور هو مجموعة قوانين تشكل الإطار العام الذي تعمل به الحكومة بأفرعها الثلاثة، التشريعية والقضائية والتنفيذية. الدستور يحدد الوظائف الحكومية وخصائص كل وظيفة وواجباتها. ويمنح الحكومة السلطة التي تحتاجها لممارسة عملها بنجاح.

الوظائف في الحكومات الدستورية، بما فيها وظيفة رئيس الجمهورية، ليس لها سلطة سوى السلطة التي يمنحها لها الدستور. أي موظف يتعدى على السلطة التي يمنحها له الدستور، يجب أن يعاقب بالطرد من وظيفته، متي يثبت ذلك.

هذا ما نعنيه بأن الشعب يحكم نفسه بنفسه. أي العصمة تكون في أيدي المواطنين. لا في يد طاغ أو بلطجي أو مغامر. يأتي بحجج واهية ليحكم ويستولي على خيرات البلد. ثم يزور التاريخ ويستعبد شعبة ويصادر حقه في الحياة الحرة الكريمة.

الجمهورية أو الحكومة الدستورية في الدولة الرومانية القديمة، تم استبدالها بحكم الأباطرة الاستبدادي. عندما تنازل المواطنون عن كل سلطاتهم للإمبراطور، تحولوا تبعا لذلك إلى رعايا وعبيد بدلا من مواطنين أحرار.

انتقال السلطة من الناس إلى الحاكم، لا يعتبر تفويضا أو توكيلا. إنما في الواقع هو تنازل عن حق طبيعي لهم. تنازل عن المواطنة والسيادة، لكي يصبحوا بعدها مجرد رعايا وعبيد.

هذا التنازل لا يمكن إصلاحه فيما بعد، وعودة الأمور إلى نصابها. تجربتنا مع الحكم الدكتاتوري منذ عام 1952م، خير شاهد على ذلك. فمنذ أن تنازلنا بمحض اختيارنا عن حقوقنا، وبعد أن وضعنا كل السلطات وثقتنا في يد الحاكم، لم نتمكن من استردادهما وعودتهما ثانية إلى أصحابهما حتى اليوم.

التنازل عن بعض الحقوق لممثلي الحكومة حتى يتمكنوا من أداء وظائفهم شيء مختلف. لأن هذا التنازل بمثابة توكيل مؤقت مرهون بالأداء الجيد للوظيفة. يمكن سحبه أو إلغاؤه متي ثبت العكس.

رضاء الأغلبية عن الحكومة، لا يسقط حق الأقلية في المعارضة. المواطنون قد يصبحون معارضين للحكومة لسبب أو لآخر، عندما يشعرون أن هناك قانونا أو تصرفا ما غير عادل، يخل أو يمس حقوقهم الطبيعية، أو لأي سبب آخر. هذا النوع من المعارضة، يعتبر مقبولا طالما كانت بأسلوب قانوني.

الدستور يعطي الناس الحق في المعارضة لرفع الظلم عنهم، ويعطيهم حق التعبير والكتابة وحرية إنشاء الصحف. وعلى الحكومة أن تفعّل ذلك وتحمي القوانين التي تحمي هذه الحقوق.

إذا لم يتيسر للناس التعبير عن آلامهم وإظهار الظلم الواقع عليهم، بسبب إقرار قانون معين أو إجراء ما. وإذا لم نسمح لهم بالتعبير عن شكواهم، فماذا يتبقى لهم بعد ذلك سوى الهجرة إلى بلد آخر، أو اللجوء إلى العنف وحمل السلاح.

المواطنون لهم الحق في تشكيل الحكومة وفقا لرغباتهم. ولهم أيضا الحق في سحق وإلغاء أي نوع من الحكومات، تفشل في حماية حقوقهم الطبيعية، أو تعتدي عليها. حق سحق الأنظمة الفاسدة، له علاقة بالحرية السياسية. الناس لها الحق في تغيير أو محو الأنظمة التي تعتدي على حقهم الطبيعي في الحرية. لأنهم إن لم يفعلوا، سوف يتحولون إلى رعايا لحاكم مستبد.

الحكومة التي تحكم بالقوة الغاشمة، لا يمكن تغيرها إلا بالقوة الغاشمة. هذا يعني التمرد والثورة. بهذا المعنى كتب جون لوك: "من يحكم بدون حق، يضع نفسه في حالة حرب مع من تُستخدم القوة ضدهم. هنا تصبح كل القوانين عديمة الفائدة، ويصبح كل واحد مدافعا عن نفسه ومقاوما للعدوان".

الحكومات الاستبدادية، هي التي تستوجب الإطاحة بها، ومن واجبنا التمرد عليها. لكن بالنسبة للحكومات الدستورية، يكون من واجبنا تعديل وتحسين قوانينها بالطرق السلمية.

المشكلة أن شعوبنا لا تعرف حقوقها الطبيعية. الحكام أيضا لا تفهم أن عليها واجبات أخلاقية قبل شعوبها. لا أعتقد أن أحدا في حكومتنا الحالية أو في مجلس الشعب، يفهم معنى الحقوق الطبيعية للإنسان أو وظيفة الدستور. وإلا لما كان حالنا هكذا.

الحكم ليس فهلوة وشطارة تبين من فينا الذي يستطيع أن يقهر الآخرين. الحكم واجب والتزام. عندما نحكم بقانون الطوارئ لمدة 30 سنة، ثم يعود من جديد، وعندما تزور الانتخابات في كل مرة وتلفق التهم للمنافسين، أو يُعتدى على الدستور ويُفسد القضاء وتُسلق القوانين، حينئذ لا يتبقى لنا، كما يقترح المناضل ممدوح حمزة، سوى تأجير ندابات يكشفن شعورهن ويقمن بالدعاء عند أضرحة الأولياء على من ظلمنا وسلب حريتنا وحقوقنا السياسية. أو نلجأ بالدعاء والتضرع لجوبتير العظيم لكي يرسل لنا جزع شجرة كبير، يكفينا شر اللقالق آمين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى