الأحد ٢٠ أيار (مايو) ٢٠١٢
بقلم نور الدين علوش

حوار فلسفي مع الدكتور ربوح البشير

شكرا لكم صديقي نور الدين على منحي هذه الفرصة الفلسفية، والتي ستمكنني من فتح نافذة تواصل مع القارئ الفلسفي في وطننا العربي العزيز.

 بداية من هو الدكتور ربوح البشير؟
 عموما يكون السؤال «من هو» سؤال نيتشوي في صميمه، لأن نيتشه يبحث عن الفاعل الذي يقبع خلف رؤانا ويسكن في جوف أحكامنا. ويتميز بكونه سؤال يخاطب الذات في أعلى مراتب نرجسيتها وعشقها القاتل لذاتها، وبالرغم من أهمية هذا السؤال في تاريخ الفلسفة الغربية لأنه شكل منعطفا أنطولوجيا بصبغة ابستيمولوجية، تنزل فيه الخطاب الفلسفي كمهمة توقفت عن البحث في الماهية باعتبارها الشيء في ذاته طبقا للتصور الكانطي، إلى النبش عن الكائن القوي الذي يتواجد خلف المعرفة وفي تعاريفها ويمسك بزمامها ويوجهها وجهة مصالحه ورغباته، فالحقيقة هي الوجه الآخر للقوة، فالعلاقة بينهما هي كعلاقة الوجه بالقفا. إلا أنه سؤال حتمي في طرحه وفي الإجابة عنه، يتطلب منا أن نحذر - تماشياً مع نصيحة اسبينوزا – من أن نهيج مشاعرنا النرجسية الموجودة في وضع الكمون ونطلقها من عقالها فتستبد بنا ونصبح عبيدا لها من حيث لا نحتسب.

عذرا على هذا المدخل الفلسفي، لأنه تذكرة فلسفية لأي باحث يتوهم أنه أصبح من أولي الرأي والعزم الفلسفيين. أو أنه خط لنفسه توجهاً معرفياً جديدا في أسئلته وإشكالاته، ربما هي بعض الأهواء المريضة التي أصابت البعض من مثقفينا.

واحتراساً منها، أو خوفاً من السقوط في مطباتها، أقدم نفسي على أني الباحث المتواضع في مجال الفلسفة : ربوح البشير، من مواليد (21 أوت 1967) بمدينة رأس الوادي، وهي ذات المدينة التي ولد بها العلامة الكبير البشير الإبراهيمي، وأعمل حالياً أستاذاً للفلسفة بجامعة الحاج لخضر، باتنة، الجزائر، عضو بالرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، صدر لي كتاب عن المفكر عبد الوهاب المسيري، تحت عنوان " مطارحات في العقل والتنوير، عبد الوهاب لمسيري أنموذجا" عن دار الفارابي، مشارك في إعداد دراسات فلسفية عديدة برفقة كتاب من الجزائر والوطن العربي تحت إشراف الرابطة.

 سيدي الكريم ما هو رأيكم في الوضع الفلسفي العربي؟
 أود قبل الإجابة على سؤالكم، أن أنبه سيادتكم إلى أن سؤالكم يصف حال الفلسفة العربية بصفة "الوضع" لأنه صفة أو لفظ يختزن حمولة غير متعينة أنطولوجياً وابستيمولوجياً، بمعنى أن السؤال عن الوضع يستبطن قبلياً حكماً سلبياً مسبقا، مؤداه أن الفلسفة العربية لم تملك بعد وضعا يؤهلها إلى أن تتحدث عن نفسها كميدان بحث فكري من حيث إشكالاتها ومناهجها ورؤاها، هذا من جهة، أو أنها لم تصل بعد إلى مرحلة تمكنها من تقديم رؤية فلسفية بمواصفات عربية وبعمق قومي منفتح على الغير، فهذا وضع استشكالي بامتياز انخرطت فيه الفلسفة العربية، أو أنها لم تنهمم بقضايا الأمة ولم تكن صوتها المعرفي الذي يتحدث عنها. لأن القومي يمكن أن يكون، أو يجب أن يكون جسراً نحو التعالق مع الكوني. وما هو الكوني في شرعته الأولى ؟؟، إنه قومي وقد أخذ صفت الكوني والعالمي لأن أصحابه أرادوا له ذلك.

وبالرغم من هذا الحديث الذي يتكلم بنبرة تشكيكية، فإن الوضع الفلسفي العربي هو في حالة مخاض معرفي ينبئ بولادة مشاريع فلسفية واعدة من جهة أطروحاتها ورؤاها ورغبتها في إبداع مقولاتها التحليلية الخاصة بها. وهي علامة صحية على أن الفلسفة في الوطن العربي بدأت في أخذ مكانة هامة في الوعي العربي المعاصر.

  تتفقون مع الرأي القائل ,بأننا نعاتي من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فلسفية؟
 أتفق أولا مع الرأي الذي يتحدث عن وجود أزمة، لكني أختلف معه في تقييمها، فالأزمة ليست دوماً علامة سلبية على دخول الفلسفة العربية مرحلة العسر في التعبير عن ذاتها أو في صياغة رؤية واضحة عن وضعها التاريخي أو الانشغال بقضاياها المصيرية كقضية الديمقراطية، الوحدة، الدين، طبيعة الحكم السياسي، المواطنة، الغرب، الثقافة، اللغة، الهوية، التراث، الحداثة.... وإنما الأزمة من وجهة نظري علامة على أن الفكر الفلسفي العربي المعاصر دخل المرحلة التي كان مضطرا إلى دخولها، فقبل الأزمة كان الوضع السائد – وهنا عودة إلى مفهوم الوضع- هو وضع اللا قدرة على التفكير في قضايانا وفق تصور فلسفي، أي كنا نفكر في هذه المسائل وفق مرجعيات تراثية يغلب عليها الطابع الخرافي الذي يستمد مواد تفكيره من الحواشي والهوامش حيث نجد العقل الكسول التابع الذي لم يدخل بعد مرحلة التفكر الفلسفي ويبدأ قي طرح الأسئلة المقلقة والجارحة.

أي أن الدخول في الأزمة هو في حد ذاته مؤشر على أن الفكر العربي شرع في التفكر في قضاياه بعيدا عن هيمنة التراث ومتونه المحنطة. بحيث بدأ في معالجتها فلسفياً أي بالرجوع إلى اجتهادات العقل الإنساني ومقدرته غير المنتهية في توليد المعاني وتأسيس المقولات التحليلية، وهي خطوة عملاقة خطاها الفكر العربي في جو تهيمن عليه الخرافة ويستسلم طواعية للرؤى الميتافيزيقية دون أن يسأل عن مصداقيتها ومقدرتها، فهو يسأل بها ولا يسأل عنها.

هذا عن الأزمة كعلامة على حضور الفلسفة وانغراسها في الخطاب الفلسفي المعاصر، بمعنى أن الحضور الأنطولوجي في فضائنا قد أنجز، أما عن هويتها المتأرجحة، بين المنهج والمشاريع فهي مسألة أخرى تحمل في نظري أبعادً ابستيمولوجية أكثر منها هموما أنطولوجية. لأن الذي يحمل مشروعاً مثل الجابري وسعيه نحو إخضاع التراث للمنهج البنيوي، طه عبد الرحمان وطموحه في تأسيس أنطولوجية عربية إسلامية، الطيب تيزيني وحرصه على مركسة القراءة المنهجية للتراث العربي، علي حرب ومسعاه نحو فكفكة الخطاب الفلسفي العربي، فتحي التريكي وتماهيه مع نزعته الكوسموبولتية في دفاعه عن العيش سوياً، فتحي المسكيني ودعوته الملحة صوب بناء هوية منفتحة على التأويل وحق الإنسان الأخير في الدفاع عن قداسته الأنطولوجية باعتبارها الشيء الوحيد الذي يستحق الاحترام، عبد العزيز العيادي وانغراسه في الدراسات الفينومينولوجية، أبو يعرب المرزوقي واجتهاده في التوفيق بين الخطاب الفلسفي والديني وكأنه يحمل نزعة رشدية جديدة، حسن حنفي وترحاله في فضاء الفكر الفلسفي كي يعثر على فلسفة عربية أصيلة، محمد أركون وهاجسه المعرفي في تطبيق المنجزات الحداثية على التراث العربي، صادق جلال العظم ودفاعه المستميت عن علمانية تخرجنا من وهدة التخلف، حسين مروة وبحثة عن موقع قدم للرؤية الماركسية في تراثنا العربي، ناصيف نصار الباحث عن طريق ننجز فيه حلمنا في تحقيق استقلال فلسفي برؤية عقلانية، عبد الوهاب المسيري ومشروعه المعرفي الذي يبحث فيه عن نموذج معرفي يحتوي على خريطة إدراكية متميزة عن الرؤية الغربية، زكي نجيب محمود وتوجهه نحو تبني الخطاب المنطقي في تحليل التراث العربي لاكتشاف ما يتحتويه من مناطق خرافية، عبد الرحمان بدوي ومنطلقه الأنطولوجي ومنهاجه الموسوعي في قراءة الفكر الفلسفي، والدكتور عصمت سيف الدولة في نضاله القومي من أجل بناء تصور ثوري لوضعنا التاريخي....وغيرها من المشاريع الواعدة. سيمهد بالضرورة لظهور فلاسفة من طراز جديد يبحثون في مسألة المنهج بطرقة جادة.و في وسط هذا الزخم الفلسفي يمكن أن تتبلور مناهج عديدة تحمل خصائصنا العربية وتتعانق مع رؤى كونية.

 سيدي الكريم كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن فلسفة ما بعد الحداثة، هل فعلا نحن نحتاج إلى فلاسفة ما بعد الحداثة في حين أن حداثتنا لم تكتمل بعد؟
 الشيء الجميل في الفلسفة أن كل موضوع يجب أن يستشكل فلسفياً كي يجلب إليه النفوس النبيلة كما وصفها "هيغل"، ومنه نقول أن مابعد الحداثة من جهة تسميتها كمرحلة تاريخية هي أيضاً إشكالية، حيث يقول عبد العزيز العيادي :" إذا كان ليوتار يعود بهذا التحول إلى أواخر الخمسينات من القرن الماضي فإن أنطونيو نغري يعتبر ما بعد الحداثة مرادفاً لما بعد 1968. من جهتنا " عبد العزيز العيادي"، نحن لا نحبذ استخدام مصطلح ما بعد الحداثة لأنه مصطلح مخاتل ولا يسمي الأشياء بأسمائها، وأسماؤها هي الامبريالية والليبرالية الجديدة ومجتمعات المراقبة. وإذا جوزنا استخدام هذا المصطلح فبصفة مؤقتة ونتيجة كثرة تداوله لبيان الفرق بين نمطين من إنتاج المعارف ومن صنع الوجود هما نمطا وصيفتا الحداثة وما بعدها، وحتى لا نقول ما كان قالع فوكو مشمئزا ساخرا :" ما هذا الذي يسمى ما بعد الحداثة؟ أنا لست على علم بذلك"(عبد العزيز العيادي، فلسفة الفعل، ط1، 2007، دار علاء الدين، صفاقس، تونس، هامش صفحة 185). ورغم ذلك فإننا يمكن أن نتحدث عن حداثة عربية خالصة لأننا نعيش أزمة – أعرف أنه حديث غريب – في ظل خطاب فلسفي ينظر إلى الأزمة على أنها علامة على تدور الوضع الفلسفي العربي، في حين يمكن اعتبار الأزمة مرحلة ضرورية لفهم ذاتنا ومعرفة إمكانياتها وهي خطوة لازمة للخروج منها والدخول في أزمة جديدة أكثر تعقيدا وتطورا. وهذا يقتضي منا أن ننفتح على جميع الخطابات الفلسفية، حتى التي تسمي نفسها ما بعد حداثية، فنحن ما زلنا لم نعش بعد سردية التنوير العقلي ولم نكتشف بعد إمكانيات العقل وفتوحاته الهائلة، ولم نتحرر من عقابيل الامبريالية كما تحدث عنها ادوارد سعيد، أي أننا لم نخرج بعد من القصص الكبرى.

  في سياق الدفاع عن الحداثة يبرز اسم هابرماس، ماذا عسانا أن نستفيد منه في العالم العربي؟
 هذا بالفعل ما نحتاجه بالتحديد وهو سؤال الاستفادة من المنتوج الفلسفي الغربي، إذ بانفتاحنا على فلسفة هابرماس التواصلية، نستطيع أن نتعلم منه أن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد ولم يصل إلى مرحلة الإفلاس المعرفي والقحط الأنطولوجي، وأنه بالتالي يحق لنا أن نتحدث عن حداثة مخصوصة لم تبدأ بعد، ومن صلبه ينبثق خطاب التواصل المبني على أخلاقيات جديرة بأن ترفع من حداثتنا إلى أعلى المراتب، فلا حداثة بدون حوار معقلن يدور حول فكرة البرهنة باعتبارها مطلب أنطولوجي قبل أن تكون مقتضى معرفي فـ :" من يرفض البرهنة عليه أن يخرج من دائرة الإنسانية فوراً".

 سيدي الكريم اسمح لي أن انتقل بكم إلى كتابكم الجديد الذي يتناول فكر المسيري رحمه الله حدثنا عن أهم الأفكار الواردة فيه؟
 يعالج الكتاب مسألة رئيسة في الدراسات المسيرية وهي: أن الفكر الغربي ، وإن تعددت قضاياه ومناهجه ومفرداته التحليلية، يرتد في نهاية الأمر إلى مقولة واحدة وهي مقولة العقل المادي، الذي يتحرك في فضاء طبيعي يستمد جميع مقولاته من الطبيعة وهو بالتالي فهو يعادي كل منزع ميتافيزيقي يسعى إلى البحث عن تفسيرات خارج السقف الطبيعي. إن القراءة الفيبرية لظهور الرأسمالية في الفضاء الغربي تعود إلى قيم مادية خالصة مثل الزهد المادي، التقشف، الإخلاص في المهنة باعتبارها نداء رباني جواني، الحرص على مراكمة الثروة ومقاومة الرغبات التي يمكن أن يتسلل منها التبذير، فالشخص البروتستانتي هو الرجل الرأسمالي المستقبلي. وذات التمشي حدث في القراءة اللسانية لفرديناند دو سوسير، التي انهممت بمسألة هامشية في مجال اللغة وهي مسألة الدال والمدلول. غير أنها انتقلت من هامش الفكر إلى مركزه عندما بدأ العقل الغربي في مهاجمة اللغة كونها المعقل الأخير للميتافيزيقا الغربية. ومنها توجه فيلسوف التفكيك دريدا صوب اللغة وخاصة لغة الفلاسفة ومن بينهم "هيغل" ولكنه حرص على إتباع طريقة طريفة في التعامل مع النصوص الفلسفية المسكونة بالدوال أصلا لأنها ولدت مفككة بحكم احتوائها على معاني مزدوجة مثل: الفارماكون فهو الداء والدواء معاً. وفي مجمل الدراسة تبين للمسيري أن العقل الغربي في صلبه مادي / طبيعي .

  في الأخير ما هي مشاريعكم المقبلة؟

 الحمد لله أولاً على هذا الانجاز المعرفي، والشكر موصول لجميع أفراد الرابطة، وأعني بحديثي الدكتور إسماعيل مهنانة، هذا الأنطولوجي الجديد بأفقه النيتشوي المنفتح على الحياة، وصديقي الفلسفي الدكتور اليمين بن تومي برغبته في اختراق عالم التفلسف وهو الأديب والروائي والمبدع والأنيق في لغته المبهرة، وأخي البعيد / القريب من قلبي الدكتور علي عبود المحمداوي.

مشروعي المستقبلي بحول الله سيكون حول مفهوم الهوية والمثقف عند مفكرنا ألطلائعي ادوارد وديع سعيد، باعتبار الهوية مسألة شائكة في فضاء التفكر الفلسفي المعاصر وتعالقها مع مفاهيم أخرى داخل مسطح الاستشراق، ودور المثقف ما بعد الكولينيالي الذي يسعى إلى إنجاز مشروع التحرر واستكماله وفي ذات الوقت البحث عن هوية متميزة في ظل عولمة وامبريالية جمعت في فضائها هويات متعددة.

وفي الأخير، أشكركم جزيل الشكر على هذا الحوار الذي مكنني من التواصل مع النفوس النبيلة المنتشرة في وطننا العربي، وما أكثرها ... ومن بينها النفس الرائعة التي يحملها أخي وصديقي نور الدين علوش.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى