الأربعاء ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم نور الدين علوش

حوار فلسفي مع الاستاد الباحث محمد بوجنال

س ـ بداية من هو الأستاذ محمد بوجنال؟

ج ـ بهذا الصدد يقول عبد الكبير الخطيبي: الأنا اللاأنا هو الأنا .

محمد بوجنال من مواليد الربيعة بثمرة اقليم اسفي حيث انهى دراساته الاعدادية والتأهيلية بثانوية ابن خلدون
خريج جامعة محمد الخامس بالرباط
باحث مهتم خاصة بالفلسفة السياسية
تابع كذلك التعميق في الدراسات السوسيولوجية تخصص النظريات الاجتماعية
حاصل على دبلوم التأهيل في مجال الادارة التربوية
عضو اتحاد كتاب المغرب
عضو الجمعية المغربية للفلسفة
عضو مؤسس للجمعية المغربية لحقوق الانسان
عضو مؤسس للكونفدرالية الديموقراطية للشغل
يشتغل بأكاديمية الدارالبيضاء الكبرى

مؤلفاته:

 العلم شرط العقلانية: مخطوط عير منشور
 في الوضع الدولي الراهن المركز الثقافي العربي 1995
 مهدي عامل وبعض أنصار التغيير المركز الثقافي العربي 1998
 من الدعوة الى إرهاب الأمركة المركز الثقافي العربي 2004
 النظام التعليمي ومشروع عالمية الصراع المركز الثقافي العربي 2008
 الفلسفة السياسية للحداثة وما بعد الحداثة دار التنوير 2010
 السوق والديموقراطية : تسليع الانسان ام تحريره جاهز للنشر
 إضافة الى عدد من الدراسات والحوارات

 باعتباركم من الباحثين في المجال الفلسفي ما رأيكم في المشاريع الفلسفية المطروحة ( مشروع الجابري رحمه الله وحسن حنفي وطه عبد الرحمان...الخ)؟
 من المسلمات المعروفة ان القول بالمشروع الفلسفي معناه، وبالضرورة، القول بالإبداع؛ والعملية هده تقتضي خطوتين: خطوة فحص الموضوع ومراجعته ونقده، وخطوة تجاوزه او قل ممارسة المقاربة الابداعية ؛ والخطوتان مرتبطتان

لقد عرف الفكر الفلسفي العربي ـ الاسلامي نكوصا وتدهورا واضحين مند ابن رشد؛ إلا ان بداية القرن العشرين بدأت تعرف إرهاصات وعي بأزمة الحضارة العربية ـ الاسلامية تجسد أساسا في مقاربة قضاياها المتمثلة في الأصالة التراث، المعاصرة، الهوية الأنا الآخر التي تمت صياغتها في شكل ثنائيات في محاولة لتمس اجوبة لها؛ وقد اطلقوا على هده العملية اسم "المشاريع الفلسفية " التي سنقارب منها، كما هو مطلوب منا، المشاريع الثلاث لكل من محمد عابد الجابري وحسن حنفي وطه عبد الرحمان مع ابداء رأينا في الموضوع

 ج 1 المشروع الفلسفي لمحمد عابد الجابري

يطرح الجابري، في مقاربته مشروع النهضة، مجموعة اسئلة منها: هل استطاع العرب تحقيق النهضة ؟ هل حققوا القدر اللازم الذي يمكن المشروع من إنجاز الثورة ام ان التراجع هو حال وضعهم؟ لاشك ان التراجع داك،في نظر الجابري،هو سيد الموقف في مختلف المجالات وهو مؤشر غياب النهضة. لدلك انكب على الدراسة النقدية للخطاب العربي محملا الفكر العربي ـ الاسلامي مسؤولية فشل حصول النهضة. وفي هدا يستنتج مفكرنا عمق ازمة الفكر العربي ـ الاسلامي وفشله المتمثل من ناحية في اعتماد خطابه تحديد النهضة انطلاقا مما سماه ب"الاحساس بالفارق" اي المقارنة غير الصحيحة بتن واقع عربي متخلف وآخر غربي متقدم؛ ومن جهة ثانية فشله في الجمع بين سلطتين مرجعيتين مختلفتين ومتصارعتين هما الأصالة و"المعاصرة" وبالتالي بين زمنين مختلفين هما العصر الوسيط والعصر الغربي؛ ومن جهة ثالثة تبنيه ثنائيات متناقضة فشل في ايجاد حلول لها كثنائيات الدين /الدولة، الاسلام/العروبة...الخ. وكل هدا يعني ،في نظر الجابري، ان الفشل داك في انجاز النهضة يرجع الى افتقار الخطاب الفلسفي اداة العقل وبالتالي غياب العقلانية.

اطلاقا مما سبق فالجابري يرى ان الذات العربية المعاصرة تفتقر الى ما سماه غرامشي ب "الاستقلال التاريخي التام" والمتمثل في التحرر من سلطتي الغرب والتراث على السواء وهو ما يمكن ان يحصل في نظره بالقراءة النقدية التاريخية للأول وإعادة بناء الثاني. وعموما، فالجابري يرى ان السبب الاساس في فشل انجاز النهضة، مند مرحلة التدوين، يوجد في العقل العربي؛لدلك ركز على دراسته من خلال اعماله الثلاثة:"تكوين العقل العربي"، "بنية العقل العربي"،"العقل السياسي العربي".

صحيح في نظرنا ان الفشل يقود الى البحث في مسؤولية العقل كأداة معرفية؛ إلا ان السلبي في دلك هو كونه ،مند بداية عمله، اعتبر الفكر قوة منفصلة عن حركة التاريخ او قل عن الشروط الفعلية التي طالما عرقلت فعالية المجتمع العربي ـ الاسلامي خصوصا وان الجابري كان فاعلا وشاهدا لمختلف العراقيل التي تعرضت لها مجتمعاتنا وهو في هدا يتجاهل الامكانات الضئيلة التي كان يتوفر عليها هدا المجتمع في مواجهة الاستعمار وبعده الامبريالية...الخ. لذا فالأزمة ليست ازمة فكر في حد ذاته كما ورد في مشروعه بقدر ما انها ازمة الفكر والواقع على السواء. هدا من جهة، ومن جهة اخرى يتضح ان قوله ب"الاحساس بالفارق" في مشروعه هو قول لا يصمد امام النقد اد كيف يمكن المفكر بناء مشروع دون استحضار الآخر(المعاصرة)؛ فالتحليل الملموس للواقع الملموس، ومفكرنا على حق في هذا لا يكفي لفهم تعقد البنية الفكرية او المجتمعية، بل العمل داك يقتضي منهجيا ومعرفيا استحضار الآخر كقدرة وتجربة علما بان هضم واستيعاب تجارب الآخر عملية تعفينا وتجنبنا زمن عيشها؛ نضيف مأخذا آخر يتجسد في قول الجابري بضرورة التحرر من الآخر بالدخول معه في حوار نقدي وبقراءة تاريخية تقر بفهم نسبية مفاهيمه؛ وإذ يقر الجابري بان سبب عدم حصول هدا الحوار هو العقل العربي ذاته إنما يعني القول بتبرير يتميز بالعمومية الصالحة لكل مقاربة دون توضيح او اقتراح لتجاوز هدا الوضع.

لكننا نري ان المشروع الفلسفي لمحمد عابد الجابري يبقى مشروعا دو اهمية كبرى نظرا لوقوفه وإبرازه قضايا المجتمع العربي علي مستويي المعرفة والمنهج مستثمرا في دلك احدث المناهج الفلسفية والعلمية وإن كان ارتباطه بالتراث او قل بالماضي بحثا عن اسباب فشل النهضة يبقى من اهم مآخدنا على مشروعه الفلسفي. وقد صدق قول محمد جسوس حينما قال:يقول الجابري:فليمت الشعب لتحيا التقاليد والعادات؛ ويقول عبد الله العروي: فلتمت التقاليد والعادات ليحيا الشعب.

 ج 2ـ المشروع الفلسفي لحسن حنفي

يعتبر حسن حنفي احد ممثلي تيار التأويل النقدي للتراث ممثلا في ما يسمى ب"اليسار الاسلامي".فعلى الرغم من شعاره داك،فهو تيار تغلب عليه النزعة التوفيقية التي استثمرت مختلف الصراعات بين النزعات العلمانية والدينية للقول بمشروعها الحضاري الذي تعتبره مشروعا جديداْ. وفي هدا نقول ان هدا التيار يجمع بين الفلسفي الايديولوجي والسياسي: على المستوى السياسي يبدو علمانيا،على المستوى الايديولوجي يبدو سلفيا وعلى المستوى الفلسفي يبدو عقلانيا. كما انه تيار يتميز برفض ومحاربة الفكر اليميني بسبب رفض هدا الاخير التأويل النقدي للتراث وكدا رفض فكرة عدم توحد التراث بالإسلام لأن تبني الفكرة الاخيرة معناه خلع القداسة عن التراث. إلا انه يتقاطع مع تيار اليمين في ايمانه بان في التراث توجد حلول كل المشاكل والقضايا ألمجتمعية هكذا ادا كان اليمين يتبنى اليوم شعار"الاسلام هو الحل"، فان اليسار الاسلامي يتبنى اليوم، بدوره، شعار "تجديد التراث هو الحل". وفي هدا يدعو حسن حنفي الى ان تحقيق النهضة يقتضي إرادة العمل وكدا تعقلها؛ فحين نؤسس لبناء العالم فإننا نكون قد اسسنا لبناء التاريخ الذي يبدأ بالتجدر في شعور المواطنين وبالتالي بدايات حصول التغيير الجدري لداك ألقديم إما على مستوى الفكر أو على مستوى الواقع. وقد سمى مفكرنا هده المرحلة، في مشروعه،ب"التجديدية" حيث ركز على ان تجاوز التخلف يكمن في إبراز كيفية واستمرار الذات العربيةـ الاسلامية في الحاضر؛ وهدا يقتضي، وبالضرورة، استحضار مستوى"الشعور" بمعنى ان الذات هي حامل الدلالة وان هده الاخيرة هي ما يصف الاشياء. ومن هنا نقول ان تصوره للحاضر مرهون بتأويله التراث باعتباره شيئا يفكر من خلال الشعور(الفينومينولوجيا)؛ وفي هدا دفاعه عن فكرة استحالة امتلاك الاشياء الدلالة إلا من خلال الشعور الذي هو الذات والموضوع وبالتالي الحضور الحتمي للتجربة والواقع؛ لدا فهو يطرح في كتابه" التراث والتجديد" فكرة ان الشعور ارقى واهم من العقل وأكثر تأهيلا وقدرة على التزام الحياد. لذا فالبداية بالشعور،في نظره، تعتبر البداية اليقينية التي لا تسبقها بداية.
لا شك ان مشروع حسن حنفي مشروعا فلسفيا بحق حيث انه انطلق من الوعي لينتقل لا الى فوق، كما فعل الكثيرون، بل الى هنا والآن، او قل الى الواقع والمواطنين مستلهما في دلك الطرح الفينومينولوجي للشعور.لكننا نرى ان اطروحته تتميز بالمثالية التي تتخذ من الوحي او الشعور نقطة الانطلاق والبداية دون التساؤل عن دلك؛فالشعور ملكة غير مجردة، بل موجودة ،حسب قوله، في ألشيء بل القارئ لمشروعه يقف على العديد من المتناقضات حول مثلا أداة ومرجعية المعرفة: فهو تارة يعلي من قيمة القلب على العقل، وتارة اخرى يكون العكس؛ ثم ونحن نتصفح مشروعه نجد التركيز على الواقع، لكن أي واقع: الواقع الموضوعي؟ او الواقع الشعوري؟ وهنا يطرح علينا السؤال: كيف يحصل التغيير؟ هل بالشعوري نغير الموضوعي ام ماذا لكن ، على الرغم من كل دلك نسجل اهمية الطرح المستنير لحسن حنفي الذي يستهدف مشروعه تحقيق النهضة بالحد من تقديس التقاليد والعادات التي اعتبرها التيار اليميني جزء لا يتجزأ من الدين، مدافعا في دلك عن قدرات العقل كأداة للنقد والبحث في التراث والآخر على السواء في الحدود التي رسمها له بطبيعة الحال.

 ج 3 ـ المشروع الفلسفي لطه عبد الرحمان

هناك مشروع فلسفي آخر له أهميته ومكانته هو مشروع طه عبد الرحمان. بناء هدا المشروع الفلسفي اقتضى من طه عبد الرحمان التأسيس لعلم جديد يتخذ الفلسفة موضوعا له سماه ب"فقه الفلسفة" ومنهج سماه ب "المنهج الاصولي"، علم أراد له وبه ممارسة الابداع الفلسفي العربي ـ الاسلامي الذي فيه يجد المواطن العربي مبررات ممارسة التفلسف "الصحيح" المتمثل في حصر المعنى وتحديده. وحصول دلك يقتضي، في نظر مفكرنا، فك رموز ومفاهيم النص وصولا الى تمحيص انساق المعنى وكيفية تركيبها ليتمكن المواطن من ضبط الغائية النهائية والوحيدة للنص. وفي هدا اعتراف التفلسف "الصحيح" بالثنائية الشهيرة:

الحقيقة/الخطأ. والقصد من هذا النظر في الفلسفة العربية ـ الاسلامية ومراجعتها نظرا لإيمانه بأنها منقولة او قل انها حصيلة عملية الترجمة وهو الوضع الذي جعله يفرض على "فقه الفلسفة" ضرورة النظر في الصلة بين الفلسفة والترجمة للوقوف على قضايا وإشكاليات دلك خاصة وأن تبعية الفلسفة العربية ـ الاسلامية للترجمة قد هيأ لها اسباب الوقوع في آفات التعبير والتفكير والتي لا يكون الخروج منها إلا بما سماه بالفلسفة "الحية" التي تتعارض والفلسفة "الميتة" التي كانت تستند الى عقلانية مبنية على النقد النظري المجرد او المنقول سواء كان تراثا او حداثة وعلى البرهان الصوري الضيق، وكدا على التبعية للمنقول الفلسفي وتقليده؛ ومن هنا دعوته الى ما سماه بالفلسفة "الحية" التي هي شرط الاجتهاد الصحيح وحصول الابداع. الإقرار بهده الثنائية: "فلسفة حية"/"فلسفة ميتة" يوضح لنا ان فكر صاحبنا قائم على واحدية الحقيقة او قل مطابقة الموضوع للعقل، مطابقة مبنية على التصور الاخلاقي والمثل العليا الهيمنة فيها للعقل الصوفي باعتباره السلطة التي تضمن المبادئ التي عليها تتأسس الحقيقة. وبهذا تمكن صاحبنا من الاهتداء الى نهج في العقلانية يكون ملائما للأخلاق الاسلامية. فبما ان العقلانية الغربية ناقصة، فمن الضروري ادن البحث عن عقلانية فوقها تستمد مرجعيتها من التخلق الديني التي تكون وحدها ضامن اليقين المفقود. ومن هنا قوله ان عقلانية الدين الاسلامي هي" أسمى" العقلانيات الممكنة، دين تم فيه "تديين العقل" و "تعقيل الدين".من هنا يرى صاحبنا ان الحداثة لايمكن ان تكون تقليدا بمعنى ان الحداثة هي الإبداع وان التقليد نقيضها حتى وإن قلدها؛ فالحداثة ابداع وتقليدها نسخ لها وكل نسخ هو تشويه لها. وعموما حدد طه عبد الرحمان الحداثة،في مشروعه الفلسفي بثلاث تحديدات: اولها "التنسيب": لكل امة الحداثة التي تنتسب اليها؛ وثانيها "التعديد": يمكن للحداثة ان تتميز بصيرورة التعدد:عندما تفشل الحداثة الاولى مثلا المطلوب ابداع حداثة ثانية هكذا وثالثها "التمكين": ان تصير الحداثة امرا ممكنا لا قدرا منزلا. مما يلاحظ على هدا المشروع الفلسفي انه مشروع غارق في المثالية التي تفصل المعنى والحقيقة عن قضايا المجتمع العربي ـ الإسلامي فالعقل الصوفي، الأسمى، ضامن الحقيقة هو عقل منفصل عن التاريخ او قل انه الثابت الذي به يفسر التحول والتغير، في حين ان العقل ،في حقيقته، هو بنية تختلف باختلاف المكان والزمان، بل وباختلاف ميزان قوى مكوناته هو نفسه. هدا من جهة، ومن جهة اخرى فمشروعه الفلسفي لا يخرج عن الطرح السائد المتمثل في التوفيق بين الدين والعقل دون ان يحدث حتى دلك التوفيق؛ هدا دون ان ننسى استخدامه واعتماده اللغة القديمة باعتبارها افرازا لبنيات مجتمعية لها مكانها وزمانها غير مكاننا وزماننا. لكن من الاكاديمية يعتبر المشروع الفلسفي لطه عبد الرحمان من اهم المشاريع الفلسفية العربية ـ الاسلامية التي استفزت غيرها وأغنت في نفس الآن مختلف المشاريع الفلسفية وغير الفلسفية الهادفة الى بناء مشروع فكري عربي ـ اسلامي شامل وناجع.

  هل تتفقون مع الدين يقولون بأننا نعاني من ازمة منهج وليس ازمة مشاريع فلسفية؟
 نظريا نعتقد ان هناك علاقة جدلية بين المنهج والمشروع الفلسفي وليس لدينا ما يبرر الفصل بينهما؛ فعندما نتكلم عن الازمة فهي ازمة المنهج والمشروع الفلسفي على السواء. وهدا يقتضي منا القول ان من اهم مميزات الازمات غياب الابداع الذي تم تضبيبه تحت مسميات عدة ليست في معظمها سوى إما قوالب جاهزة افرزتها امكنة وأزمنة اخرى كما هو الشأن بالنسبة لأغلب العلمانيين والقوميين؛ وإما قوالب فكرية تستند الى مرجعيات دينية لا تريد هضم فكرة ان الابداع لم يكن في يوم من الايام مرتبطا بالدين كما هو الشأن بالنسبة للتيارات الاسلامية المتعصبة. وفي كل هده الحالات تبقى البنية المجتمعية العربية ـ الاسلامية بنية ضبابية الهوية بفعل تجاهل هده الازمة تناقضاتها الذاتية من جهة، وحال الواقع المجتمعي من جهة ثانية الدين تربطهما علميا العلاقة الجدلية، المتمثلة في الصراع الايجابي واحترام التعدد والاختلاف. ازمة المنهج والمشروع الفلسفي العربي ـ الاسلامي التي استمرت قرونا مند إحراق أعمال ابن رشد الى يومنا هدا وما زالت، حدثت بفعل قوة الدولة الريعية التي عملت على رعاية ودعم والتأسيس لتيارات معادية للفكر الفلسفي، تيارات عملت على تأزيم الفكر والواقع على السواء وتطويعه لعصبيتهم وسلفيتهم، فشاعت بدلك وتجدرت، وما زالت الى اليوم، صيغة :" من تمنطق تزندق". لهدا ، وبفعل انتشار هدا الفكر الديني، التكفيري منه والرجعي، تم اعتبار المنهج والمشروع الفلسفي قضيتين لا حاجة للفكر والمجتمعات العربية ـ الاسلامية بهما: فهما إما إلحاد وفي هده الحالة وجب رفضهما، وإما انهما بحث في الماورائيات وفي هده الحالة ايضا لا حاجة لنا بهما ما دامت الماورائيات من اختصاص الدين الاسلامي. وهكذا ، فوحدة الأزمة خده تمت ويتم تجديرها على مستوى منع دراستها بعدد من الجامعات العربية؛ بل وحتى التي قبلت بتدريسها تحافظ على المسافة بينها وبين الإبداع مع استحضار الاستثناء هنا وهناك؛ جامعات ركز فيها المفكرون، لأسباب ذاتية و موضوعية، على تيمة "العقل والدين"؛ وفي هدا قال فؤاد زكريا في كتابه :آراء نقدية بأن مشكلة التوفيق بين العقل والإيمان ما زالت المشكلة التي تستغرق جهودا فكرية كثيرة وما زال علماؤنا يفسرون الاكتشافات العلمية بمحاولات إثبات وجودها قبلا في النصوص الدينية ورجال دين لدينا يزعمون التنوير لأنهم يتبنون حرية العقل لكن بالحدود التي يسمح بها الإيمان فقط. وهدا معناه عدم الاعتراف بالعقل كقدرة منهاجية وفلسفية. ولا شك ان تهميش وظائف الفلسفة من بين عوامل تأزيمها كدلك والدي اتخد أشكالا متباينة، ومن تم حصر تدريسها في جامعات دون غيرها علما بأنه تعليما يطغى عليه اسلوب التلقين وعرض المذاهب والنظريات المتجاوزة او قل انه تعليم يفتقر القدرة على استيعاب ومواكبة التصورات الفلسفية الراهنة بفعل سبب آخر هو الضعف الملحوظ في حركة الترجمة؛ وهناك سبب آخر لهده الازمة يتمثل في التضييق والتحجيم الذي عانى ويعاني منه موضوع الفلسفة الذي يجب ان لا يختصر في موضوع ما يسمى ب"المشاريع الفلسفية" الباحثة في ازمة هويتنا فقط كأن هدا هو موضوعها الوحيد، في حين ان مجال البحث الفلسفي هو اوسع من دلك وأكثر تنوعا، انه "الكلي" كما سبق القول ؛ بمعنى اننا أمام "الجزئي" الذي يتجاهل "الكلي"، جزئي كان من المفروض ان يوظف للمساهمة الى جانب غيره في عقلنة الكلي؛ فساد الانشغال بما سمي ويسمى ب"مشروع النهضة" حيث ان كل مفكر أصبح يطرح انه صاحب "مشروع للنهضة" او قل ان وحدة أزمة المنهج والمشروع الفلسفي تمثلت في الانصراف عن التساؤلات الفلسفية الحقة المتمثلة في إبداع النصوص باعتبارها إشكالات وقضايا بنية المجتمعات العربية ـ الاسلامية ، ابداع وفق قاعدة "الكلي"؛ كما ان هناك سبب آخر لتفسير الازمة تلك يتعلق أساسا بغياب الديموقراطية وحرية الفكر باعتبارهما اسلوب حياة لا مجرد شعار للواجهة والاستهلاك السياسوي.

 ما يلاحظ على الفلسفة المغربية بصفة خاصة والفلسفة العربية بصفة عامة هو ضعف الفلسفة السياسية، فما هي الاسباب في نظركم؟
 من المعروف ان موضوع الفلسفة السياسية يتمثل في تحديد المشتركات الاجتماعية الاولية القبل دستورية و انتخابية من جهة ، وفي مدى شرعية ومشروعية وطبيعة اسس النظام السياسي وبالتالي النتائج المترتبة عن المقدمات تلك بما في دلك مختلف مؤسساته من جهة ثانية ؛وفي دلك كله يكون استحضار الصالح العام. ولاشك ان الاول في عالمنا العربي ملغى، والثاني يمارس الاستبداد باسم الشرعية الدينية. لدا فالفلسفة السياسية تطرح بصدد هدا الوضع، وهو من صميم اختصاصها، الاسئلة تلو الاسئلة عن طبيعة مقدمات تأسيس وممارسة النظام السياسي السلطة علما بأن المشتركات الاجتماعية الاولية لا وجود لها إطلاقا ؛ وفي هدا تكون طرح أهمية الحقوق الطبيعية والفردية والاجتماعية ومشروعية سيادة الشعب. وكل هدا ،بطبيعة الحال، يقتضي البحث في دلالة الانسان او قل في دلالة إنسانية الانسان واحترامها وتحميلها وتحملها المسؤولية. هدا المعنى لموضوع ونهج الفلسفة السياسية يتناقض وطبيعة النظام السياسي في المغرب والعالم العربي عامة. فهو نظام يتبنى ويدافع عن قدسيته؛ لذا نرى تجاهله الواعي بالتأسيس لتدريسها في المغرب ومجمل الدول العربية ـ الاسلامية علما بأن جامعاتنا تفتقر الى أساتذة يتوفرون على قدرة تدريسها؛ ساعد في وعلى دلك امية وتخلف المجتمع المغربي والعربي عامة الذي يحمل تصورات سلبية، بما فيه مجمل وأساتذتنا عن الفلسفة والسياسة فبالأحرى عن الفلسفة السياسية. وفي هدا الصدد، نظرا لعدد من العوامل، وكتحايل، تم استبدال كلمة فلسفة بكلمة نظرية فأصبح الكلام عن النظرية السياسية التي أصبحت النمط المتخصص في القضايا السياسية دون غيرها الذي هو بالكاد الفلسفة. والبعبع هو ان دراسات الفلسفة السياسية هي دراسات تتميز بالشمولية وطرح السؤال تلو السؤال عكس السياسة التي لا يمكنها تجاوز المباشر وفي تجلياته الضيقة: فالشمولية السؤال يفرضان ضرورة الالمام بالقضايا الاكثر اتساعا وبالتالي تفكيك القضايا تلك لأجل خدمة الانسان المغربي والعربي على السواء والاستجابة لحاجياتهما بالإشراك والاشتراك في صنع وصياغة القرارات والمتابعة والمحاسبة التمتع بالحقوق الطبيعية والاجتماعية. وفي هذا وفي نفس الآن، تقوم الفلسفة السياسية بكشف وضبط العوامل المعرقلة لأداء مهامها وبالتالي عوامل عرقلة تحرير الانسان لتنتقل الى مرحلة التخطيط المنهجي لإزالة العوامل المعرقلة تلك. فالأنظمة السياسية الاستبدادية في المغرب وفي كل العالم العربي تجاهلت التأسيس بجامعاتها لأقسام الفلسفة السياسية دون نكران الاستثناء، والتي اعتبرها زكريا إبراهيم بعبع الانظمة السياسية في العالم العربي؛ فلا نندهش إذن إدا تميزت الفلسفة السياسية المغربية والعربية بالضعف والمحاصرة والتجاهل اليقظ.

  نعم هناك عمل كبير في مجال الترجمة، لكن اين نحن من كتابات أغامبيو وهابرماس وراولز واكسيل هونيث ونغري؟
 فهم الفكرة ، كما هي في عالمنا العربي ـ الإسلامي تقتضي طرح الترجمة كقضية؛ وفي هدا الاتجاه نقول ان الترجمة فعل إشكالي موضوعها تحويل إنتاج فكري: مفهوم او نص او مؤلف...الخ الى امكنة وأزمنة مختلفة لها إشكالاتها وقضاياها النوعية، بل وحتى داخل نفس الزمكان. هدا التحديد ترفضه التيارات الميتافيزيقية المدعومة من طرف الانظمة الاستبدادية لتعلن دونية الترجمة حفاظا على أصالة النص؛ وفي هدا الاطار أصبح تحديدها يتراوح بين: قائل بان الترجمة تلك لا يمكن ان تكون إبداعية، وقائل باختفائها لصالح الأصل وقائل بتجاهل أهمية المترجم بالمقارنة مع المؤلف. انه موقف لم يعمل سوى على تهميش اهمية غنى اللغة والفكر اللذان يوجدان في الزمكان وبالتالي تجريد المترجم من قدراته الابداعية ليبقى مجرد مترجم علما بان الدراسات الحديثة، وعلى رأسها اللسانيات، قد فندت بما فيه الكفاية تلك المزاعم والمواقف الميتافيزيقية؛ هدا مع استحضار تيارات ميتافيزيقية اخرى تؤمن بالترجمة وتختلف حول التصور: من قائلة بالترجمة الحرفية وقائلة بترجمة المضمون. في مقابل هده التصورات الميتافيزيقية، وانطلاقا من التحديد اعلاه نقول ان الترجمة تأويلا دائما يحصل يحصل وفق سياقات تختلف من حيث قواعد المكونات اللغوية والتشكيلات الاجتماعية والثقافية. وفي هدا نسجل في عالمنا العربي ـ الاسلامي نخبة محددة وقليلة العدد مارست وتمارس الترجمة بشكل جاد ومفيد. فالترجمة بهذا المعنى تأويل دو دلالات متباينة حيث يحصل تجاوز النص الاصلي إغناء وإضافة. وفي هدا كله تسهيل لحصول التواصل والتفاعل بين الثقافات والحضارات وإغناؤها. أذن باستحضار انتشار التيارات الفكرية الميتافيزيقية بعالمنا العربي ـ الاسلامي مدعمة في دلك من طرف الانظمة الاستبدادية نكون، وبالضرورة، أمام ضعف الترجمة واللامبالاة باهميتها لأنه، كما سبق القول، الترجمة تعني التواصل والانفتاح على الحضارات الأخرى وفي هدا يتخدر الوعي بقضايا وحقوق الانسان عموما والعربي خصوصا؛ بل يمكننا القول بأنه حتى إدا تمت ترجمة أعمال من مثل أعمال هابرماس او راولز او نغري...الخ فلا تعدو الترجمة تلك سوى تشويها للأعمال تلك بلغة وجمل وفقرات يصعب فهمها؛ ترجمة تكون من إنجاز مفكرين يكونون رهن إشارة الإرادة السلطوية او الارادة التجارية لأصحاب ومديري دور النشر وكلاهما سيان؛ فخد مثلا ترجمة أعمال هابرماس فجلها ضعيف وممل؛هدا دون ان ننكر الاستثناءات كما سبق القول. لد نقول أن تحرير الترجمة للقيام بمهامها رهين بتحرير مختلف باقي المجالات خاصة منها الاقتصادية والسياسية.

  سيدي الكريم هناك العديد من مراكز البحث في العلوم الاجتماعية، لكن هناك ضعف كبير في الفلسفة وخاصة الفلسفة السياسية لمادا؟
 حسب ما نتوفر عليه من معلومات في المغرب فهناك افتقار شبه مطلق لوجود مراكز البحث في العلوم الاجتماعية ادا استثنينا المركز الذي كان يشرف عليه المرحوم عبد الكبير الخطيبي؛ فهده العلوم الاجتماعية بالمغرب، خاصة السوسيولوجيا منها هي بمثابة علوم مضرة باستقرار الشعب في نظر النظام المخزني؛ ويمكن تعميم هدا التصور على باقي دول العالم العربي ـ الاسلامي مع استحضار النسبية؛ إنه الوضع نفسه الذي نجده بصدد الفلسفة حيث نجد جمعيات محدودة في بعض هده الدول وغياب دلك في بعضها الآخركما الحال في المغرب حيث لا توجد سوى جمعية واحدة:" الجمعية المغربية للفلسفة"؛ هدا مع استحضار غياب الاشتغال والفعالية. أما بصدد الفلسفة السياسية فسبق أن قلنا عدم رغبة الانظمة العربية ـ الاسلامية في التأسيس لها سواء على مستوى التخصص بالجامعات او على مستوى الاشتغال بالمراكز. وعموما نقول ان تأسيس مراكز الدراسات والأبحاث هو مؤشر تطور المجتمعات العربية ـ الاسلامية وانتشار الديموقراطية بها كأسلوب حياة؛ أما نقيض دلك وهو الحاصل بالفعل في عالمنا العربي ـ الاسلامي فيعني عدم الحاجة للمراكز وأشكال عدة من الانماط المعرفية وبالتالي الحفاظ على الوضع المتخلف لهده المجتمعات الذي ليس، في حقيقته، سوى الحفاظ على مصالح الطبقة الكامبرادورية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى