الثلاثاء ٢٧ آذار (مارس) ٢٠١٨

حين يرسم القلب تجليات عشقٍ ووطن

زاهد عزَّت حَرَش

هو كتاب آخر كنت أنتظر وصوله من الفنانة تمام الاكحل، بعد أن اتصلتُ بها، لأخبرها أن كتابي «نثرات تشكيل فلسطينية – الكتاب الأول» قد صدر، وكان ذلك في بداية شهر تشرين الثاني/ اكتوبر 2017، وأنني أهديت الكتاب إلى روح رائد حركة الفنون التشكيلية الفنان إسماعيل شموط.. فَرِحَت، وأخبرتني أن كتابها عن سيرة تمام وإسماعيل شموط صدر أيضاً، وانها ستعمل على إرساله لي عن طريق أحد اصدقائهما في رام الله.. أرسلتُ إليها كتابي لكنه عاد إليّ بعد شهرين، فعلى ما يبدو ان الأردن منع دخول مواد من إسرائيل بعد حادثة قتل اثنين من مواطنيه على يد حارس "صهيوني" يعمل في السفارة الاسرائيلية في عمان، اتصلتُ وأخبرتها اني سأحاول إرسال الكتاب مع أحد الأصدقاء الذين يسافرون إلى عمان من وقت لآخر، وانتظرت كتابها، لكنه لم يصل.

في الأسبوع الأخير من شهر شباط، وبالتحديد يوم الاثنين الموافق 26/02/2018 زارني كميلاد قصيدة على بساط الغيب، الصديق الطيب فؤاد نقارة، وهو رئيس نادي حيفا الثقافي الذي يرعاه المجلس الوطني الملي الأرثوذكسي، هذا النادي الذي يعمل بشكل دؤوب ودوري أسبوعياً، في دفع المسيرة الثقافية الفلسطينية خاصة والعربية عامة، ويعزز الإنتماء الوطني الشمولي لذاكرة هذا الوطن الساكن فينا. كان هذا لقاءنا الأول، جاء يحمل لي في جعبته الكثير من المودة وكتاب.. كتاب الفنانة تمام الاكحل آنف الذكر. كان لا بد من ذكر هذه المقدمة كي اعبر عن مدى شكري واعتزازي بصداقة الأستاذ فؤاد نقارة، وتقديراً لكتاب هو رافد من روافد الذاكرة الحية للأرض والتاريخ والإنسان، انسان فلسطين، والذي إستوحيّ عنوانه من كلمة الشاعر الكبير محمود درويش في ذكرى التأبين الأربعين لرحيل الفنان إسماعيل شموط، إذ جاء في ختامها "ودون أن يقول لي: حافظ على الموضوع من جنوح الاستعارة! إسماعيل شموط: يده هي التي ترى وقلبه هو الذي يرسم! ص 244."

حملني الكتاب في رحلة إمتدت لما يزيد على ستون عاماً، بداية من ذكريات الطفولة المشاكسة في أزقة يافا واللد وصولاً لساعات الدمع الحزين، غداة وفاة الفنان الكبير إسماعيل شموط "كانت لحظاته الأخيرة في الساعة السابعة و 49 دقيقة من مساء الاثنين في الثالث من تموز / يوليو 2006. ص 241". أبحرتُ عبر كلمات الكتاب وأمواجه المتدفقة فرحاً حيناً.. وخوفاً ورهبة ودموع يغلبها الأمل بالحياة وحلم العودة في كل حين. ولم أتركه حتى انتهيت منه، في آنٍ لم تغب عن خاطري تلك الأُمسية التي أقامتها بلدية الناصرة إحتفاءً بهما (إسماعيل وتمام) في شهر تشرين الاول / اكتوبر من عام 1977، في قاعة المركز الثقافي البلدي الذي أصبح اليوم "مركز محمود درويش الثقافي" في الناصرة، وذلك بمناسبة تقليد الفنان إسماعيل شموط جائزة فلسطين ووسام القدس تقديراً لمسيرته وعطاءه الفني اللا محدود. في تلك الأُمسية كان أول لقاء لي بهما، وقد سلمني الفنان إسماعيل شموط بطاقة حملت إسمه وعنوانه ورقم هاتفه المنزلي في عمان، ومنذ ذلك الوقت لم ينقطع التواصل بيننا، وقد كان طيب الذكر أبا يزيد، يتصل بي بين حين وأخر، أو يرسل لي رسالة عبر البريد العادي أو الالكتروني ليخبرني عن أعماله الجديدة، ولا زلت أحتفظ برسائلة وصور عن مشروعهما الفني الوطني الكبير الذي حمل عنوان "السيرة والمسيرة".. كما إني ما زلتُ على تواصل هاتفي مع الفنانة الرائعة تمام الاكحل شموط ما بين وقت وآخر. وعلى ضوء تلك الامسية كتبت مقالي الأول عنهما بعنوان "رحلة في الشريان" نُشرَ على صفحات الاتحاد الحيفاوية في الثامن من كانون أول 1977.

احتوى كتاب "سيرة تمام الاكحل وإسماعيل شموط" على اثنان وعشرون فصل من تاريخ حياتهما، اضافة إلى تقديم بعنوان "جيل النكبة" وضعه الروائي اللبناني الياس خوري.. كما احتوى الكتاب على ملحق للوحاتهما بالألوان، وضم أيضاً "فهرست الأعلام" الذي ضمّ أسماء العائلات والشخصيات التي ورد ذكرها بين سطوره. أما الصفحة الأخيرة فقد رصدت للتعريف بمؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تولت إصدار الكتاب. الذي قام على تحريره بأُسلوب شيق أخاذ الأستاذ غانم بيبي نقلاً عما روته وكتبته الفنانة تمام الاكحل.

من سنوات الفرح العابق برائحة بيارات البرتقال في يافا، ومن على شواطئ بحرها ومينائها العريق يبدأ المشوار، حاملاً في جعبته ذكريات حمام الاسبوع "أقف في طشت مملوء بالماء الساخن، أتلذذ بالليفة عندما تغطس في طاسة الحمام الفضية، وبالصابون النابلسي الذي ما زلتُ لا أستمتع بالحمام من دونه حتى يومنا هذا، ص 9 و10" ومن العابها التي كانت تصنعها بيديها إلى طقوس صيد الطيور في يافا، ومنه إلى تلك اللحظات التي ترسم ملامحها تمام بكلمات معبرة جداً "وكان من أمتع الأوقات انتظارنا أجراس الكنيسة التي تُقرع عند منتصف ليلة الصعود، فنتراكض بثيابنا الجميلة لنشارك في الترانيم على ألحان أرغن الكنيسة البديعة، وكذلك زيارات (ابونا غطاس) كل يوم أحد بعد الصلاة كي يبخر بيتنا.. ص 15". صور دافئة مخملية عن حقبة عاشها شعب فلسطين بتجانسه وتآلفه الخلاق، لا تحمل في شغافها سوى حب الحياة. بيد إنها تنقلك بسرعة الغفلة إلى صباح 8/1/1948 لحظة وقوع "الانفجار الذي أصاب مركز البريد الحكومي في السرايا.. حيث يعمل موظفون بالمئات ص 19".

تتوالى الأحداث والرويات عما قاسى منه شعب فلسطين من مجازر واقتلاع وتدمير وارهاب منظم على يد العصابات الصهيونية إبان النكبة، وما بعد النكبة وعلى مدى ستون عاما من الحروب والمجازر التي إقتُرفت بدعم من الامبريالية العالمية وبتواطئ ودعم من الأنظمة العربية الرجعية.. عايشناها جميعاً إمّا شهود وشهداء، وإمّا من خلال الذاكرة الفردية والجماعية لمن كانوا بعيدين عن مسرح احداثها عند اقترافها. لكن عندما تقرأ صوراً يروي تفاصيلها من عايشها بقلبه ووجدانه، تغدو صورة الذكريات أكثر ألماً ووجعاً ينخر مسامات النخاع، فلا تعرف كيف تحبس دموعك وحزك المزمن على مُر مرارة هذا الزمن البذيء.. "تنهد إسماعيل تنهيدة خرجت من قلب مجروح، وتابع يصف النزوح من اللد، والذي رسمه لاحقاً في جدارية (العطش على طريق التيه) دفنّا أخي بأيدينا، ودُفن أيضاً كثير من الناس من شيوخ وعجائز وأطفال. وفي خضم نقل الماء تبلل قميصي فجاءت إمرأة لتمتص قطرات منه، كما رأيت رجلاً ارتمى على قليل من العشب الأخضر المتبقي على الأرض وبدأ يمضغه كي يبلّ جفاف حلقه. ص 67" احداث واحداث تعتصر القلب ألماً لما حل بالناس من جوع وتشرد وحرمان، والعالم يتأرجح على وقع شعارات موبوءة براقة تهتف لإنسانية معدومة.

قامات لا تعرف المستحيل، فرغم موبقات الظلم والظلام تشاطرا جناحي طائر فلسطين محلقَين في فضاء الابداع الفني، في مسيرة شاقة مليئة بالدموع والحزن الدفين، دون التراجع قيد انملة عن تحقيق حلم زمانهما القادم. وفي أول لقاء لتمام مع أعمال إسماعيل غداة التحضير لمعرض "اللاجئ الفلسطيني" الذي افتتحه قائد الامة العربية الرئيس جمال عبد الناصر، والذي أُقيم في نادي الضباط في الزمالك بالقاهرة في 21/7/1954. جاء على لسانها "قلت بصوت مخنوق: ماذا أقول لك؟ انا فعلاً مذهولة. لم أتوقع قط أن يكون هذا مستواك، يشرفني أن أعرض معك، وأتمنى أن نجعل الناس يتحسسون قضيتنا ويفهمون معاناتنا، وأن يتوقفوا عن إهانتنا واتهامنا بأننا بعنا أرضنا. ص 81" من هنا كانت بداية اللقاء الذي لم يتوقف على مدى الزمن القادم، فتحقق اتحاد جناحي طائر فلسطين في رحاب العطاء الفني، في أبهى مظاهر إبداع قل مثيله على بقعة أخرى من بقاع الكون الرحيب.

لا يخلو الكتاب من شاعرية واقعية تروي حادثة عن مدى توق الانسان للحرية، عن "حليمه" تلك الفتاة المحرومة التي نزعت عنها قميص نومها وركضت تلقي نفسها بالماء "وفعلاً، نزلت إلى الماء، قبّلت الموج وقبّلها عدة مرات، وشعرتُ بأنه يحبها، فاحتضنها بحنان ولم يغدر بها.. لم يؤذها لأنها أحبته، وكانت تتوق الى عناقه، فاحتواها بحنانه وقبّلها بشغف، وبادلها المداعبة. ص 102".

في خضم الاحداث تأتي تمام على ذِكر حدث قلّ ما ذُكر عنه في سياق مسيرة الفلسطينيين وطناً وشتات، وهو مشاركة 15 من الفلسطينيين في مهرجان الشباب العالمي السادس في موسكو، وقد جرى افتتاح المهرجان في الثاني من آب من عام 1957. "...وكان يضم خمسة وثلاثين ألف مشترك في أول انفتاح كبير على العالم في بلد اشتراكي. كانت الوفود بأزيائها الرسمية والشعبية، ومئات الألوف من الناس في الملعب وعلى الأرصفة. كل فرد في موسكو مستنفر. مشينا في المسيرة الطويلة في طليعة الوفد المصري يسبقنا علم فلسطين، ووقف الرئيس بولغانين وزعيم الحزب الشيوعي خروتشوف على منصة الشرف، وشاركنا في إنشاد النشيد الموحد لشعوب العالم من أجل بناء مستقبل أفضل، ورفاه وحرية وسلام، والذي راح كل وفد يغنيه بلغته على لحن واحد، ومطلعه بكلماته العربية: آمالنا المقبلات في قلوب تهوى السلام. وبمجرد الانتهاء من النشيد العالمي، أُطلقت 3000 حمامة بيضاء غطت السماء بجمال معناها. ص 120 و 121". في سردها لمجريات المهرجان ووصفها لبلاد الاشتراكية الأولى، لم تخفي الفنانة تمام تأثرها بما لمست وما عايشت على مدى أيام تواجدها هناك.. فتتابع كتابة ذكرياتها عن تلك الأيام بصدق ومصداقية معهودة فيها، رغم علمها أن الكتاب سيصدر في زمن التلعثم الاعلامي المشحون بغبار النفاق السياسي، والمولوث بأموال البترودولار والعنجهية الامبريالية والصهيونية.. فتتذكر أبسط الأمور بأدق تفاصيلها، وتتابع "في النهار كان لنا زيارة لجامعة موسكو حيث الفخامة والعراقة. في الساحة الكبرى أمام الجامعة انتصب تمثال الرئيس جمال عبد الناصر الذي أنجزه أستاذي وأستاذ إسماعيل الفنان جمال السجيني، الفنان الخلوق الذي تنمُ أعماله عن رزانة تفكيره. ص 123 و 124"

في خضم المعاناة والتحدي ومتابعة الخطوات الأولى في طريق دراسة الفنون الجميلة في القاهرة. لم تَغيب عن صفحات الكتاب، الازمات السياسية الكبرى واسقاطاتها على القضية الفلسطينية، ومدى تأثيرها على حياتهما. وان أحداث الحرب الأهلية الأولى في لبنان، والتي دارت رحاها وبوادرها مع بداية عام 1956، حين كان الرئيس اللبناني كميل شمعون موالياً للغرب الامبريالي ورافضاً شجب العدوان الثلاثي على مصر. "في صيف 1958 بدأ الوضع في لبنان يتوتر. وقع البلد تحت وطأة تقاطع مشاريع الهيمنة المتباينة، وبات ساحة من ساحات الحرب الباردة بين الغرب والشرق وحركات التحرر الوطني من جهة أُخرى. وسرعان ما تعزز الانقسام الطائفي وانتشر العصيان، ووصلت الأمور الى حد نزول القوات الأمريكية (بناء على طلب من رئيس الجمهورية) كميل شمعون الذي كان يصر على تجديد رئاسته بخلاف ما يقضي به الدستور. وخلال أيام تفجرت الأرض وخرجت منها الأسلحة وأكياس الرمل والمتاريس وخطوط التماس وسُدّت الطرق، ونزل الشباب إلى الخنادق وأُقفلت الأحياء. وراح ضحية تلك (الحرب الأهلية) مئات القتلى والجرحى والمهجرين، أما عائلتي فلم تسلم بدورها من مواجهة مخاطر تنوعت. ص 130 و 131".

لم تخفي الفنانة تمام قصة الحب التي جمعتهما، تمام وإسماعيل، والتي تعرضت الى هزة عنيفة بسبب حادث وقع بطريقة خاطئة في سبيله، وقد أدى الى انقطاع شبه تام لمدة ما يقاب أربع سنوات. حتى جاء موعد الخطوبة الثانية والتي تمت يوم 10/4/1959، وقد ذَكرت الفنانة تمام الكثير من المواقف المؤلمة والسيعدة بترتيبها الزمني، اضافة الى تلك المشاعر المفعمة بعبير الحب والأمل بحياة سعيدة. "مرت دقائق لا يمكنني وصفها. أكاد اسمع ضربات قلبه تخاطبني. في تلك اللحظة دخلت علينا شريكته أنجل ثم اختفت، فانسحبت من بين ذراعيه، أنظر الى تقاسيم وجهه وتعابيره. يا إلهي! لم أر التعبير الصادق في ملامحه كما في تلك اللحظة! قال بصوت مضطرب: تمام.. لا أريد أن أفقدك ثانية، لم أعد أقوى على فراقكِ، إعملي ما ترينه ملائماً، وليكن للصدق والصراحة الأولوية في حياتنا، وفي كل تصرفاتنا، هذا ما أتمناه منكِ. قلت أنني لم أكذب، ولا أريد الأذية لأحد، بل أريد أن أرضي والدي باحترام التقاليد كما يراها. وافق، ونزلنا في اليوم التالي واشترينا علب (الملبس)، وكانت بسيطة عليها شعار (البارثنيون) المعبد اليوناني المشهور في أثينا. علّق إسماعيل: سيأتي اليوم الذي يكون لدينا فيه نقود، وسنذهب اليه. ص 150".

من كان يعرف ان فنان فلسطيني مشرد، قام بتصميم ثياب وشارات الجيش اللبناني، بأجر لم يحصل على مثيله من قبل. كان لموقف الفنان إسماعيل بالدفاع عن كرامته وكرامة شعبه وقع ذات أثر عظيم، حيث أنه رفض ان يبقى منتظراً على باب مكتب العقيد في وزارة الدفاع اللبنانية، لأن الأخير لديه ضيف أجنبي، في حين أن إسماعيل وصل في الموعد المحدد للقاء، عندها ترك المكان وعاد إلى منزله غاضباً. لكن ما أن مضى وقت قليل على مغادرته، حتى رن هاتف المنزل ليخبرهم انهم "من وزارة الدفاع" سيحضرون الى بيت إسماعيل فوراً. "كان إسماعيل يتكلم بحرقة وكل ما فيه يرتجف غضباً، فخفت عليه. فوجئ العقيد بهذا الرد، وكان واقفاً يستمع. لم يجلس ولم يطلب منه إسماعيل الجلوس. فما كان منه إلا أن رفع قبعته العسكرية وحيّاه تحية عسكرية بيده وبضربة قدميه معاً، وعلّق: أحييك يا أستاذ إسماعيل وأحيي بلدك وشعبك وكرامتك وكرامة شعبك... تأكد أنني أحترمك عن قناعة، وستكون كرامتك فوق كل شيء... هذا المساء سيكون العقد هنا في منزلك لتوقيعه. ثم التفت إليّ: يا مدام، عندكِ خبز وزعتر وزيت؟ قلت: نعم. قال: أحضريها لأتقاسم اللقمة معكم فيصبح بيننا خبز وملح. هذا هو العقيد فؤاد الحسامي. ص 163".

وعن موظف الاونروا الفلسطيني والتحقيق مع الفنانه تمام، بسبب تقديمها دروس في الفنون للطالبات الراغبات، رغم ان تدريس هذا الموضوع لم يكن مدرج في برنامجهم التعليمي... فجاء التحقيق معها حول قيامها به تطوعاً دون أجر.. حتى وصل الأمر لإتهامها بالإنتماء الى الحزب الشيوعي. "قال: نحن لدينا معلومات أنك شيوعية. استغربت وقلت: ما الدليل؟ قال: أنت قلت أنك تخدمين شعبك مجاناً، وهذا لا ينطبق إلاّ على الشيوعيين، إذاً أنت شيوعية. قلت ساخرة: يا ريت، لو أن هذه الصفات لا تنطبق إلاّ على الحزب الشيوعي فأنا سأبحث عنه وألتحق به... ص 166". هكذا كانا في مواقفهما كما في أعمالهما الفنية الوطنية المعبرة عن مأساة فلسطين وشعبها، لا خنوع ولا تخاذل.

كان الرئيس جمال عبد الناصر قد اشترى لوحتين من معرض "اللاجئ الفلسطيني" الذي افتتحه عام 1954، وقام بإرسالهما إلى مكتب الجامعة العربية في واشنطن. وقد دعيّ الفنانان من قبل منظمة الطلبة العرب في امريكا، لإقامة معرض لهما على هامش مؤتمر منظمة الطلبة السنوي عام 1964، على أن يتجول المعرض في الولايات المتحدة. ويا لها من مفاجأة حدثت هناك، عندما اكتشفا أن اللوحتين التين أرسلهما الرئيس عبد الناصر إلى مكاتب الجامعة العربية ما زالتا في الصندوق. "وهناك أيضاً اكتشفنا أنهما ما زالتا في الصندوق بعد عشرة أعوام على وصولهما، لأن رئيس المكتب فلان لم يكن يحب الصور المأساوية! ولما كانتا مسجلتين عهدةً على المكتب كلوحتين من عمل الفنان إسماعيل شموط من دون أي مواصفات أو عناوين، فقد اقترح إسماعيل التالي: إما أستبدلهما بلوحتيين أُخريين، وإما أنشر خبر (تخزينهما) في الصحف وأرفع الموضوع إلى الرئيس عبد الناصر! ما كان أمامهم إلاّ الموافقة، واسترددنا اللوحتين واحتفظنا بهما في مجموعتنا الخاصة حتى اليوم. ص 171".

ومن جريمة إغتيال غسان كنفاني 1972، وكمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار وزوجته عام 1973.. وما سبقه من احداث ايلول الاسود في الاردن، التي تلاها وفاة الزعيم القائد جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 1970، ورغم الحزن واليتم الذي أحس به كل مواطن عربي مخلص. كان أول رد فعل قام به الفنان إسماعيل... "رسم إسماعيل الرئيس الرمز جمال عبد الناصر على لوح خشبي 200x120 سم.. رسم وجهه وفي عينيه احمرار الدمع المحشور في مقلتيه كما رأيناه في افتتاح معرضنا في سنة 1954. جاءت اللوحة آية في التعبير عن عينيه، وعُلقت على شرفة مكتب منظمة التحرير، ونكسنا العلم الفلسطيني، وطبعت صورة اللوحة ملصقاً انتشر في الصحف وكل بيت تقريباً. ص 178."

ورغم المآسي الوطنية التي تكدست عاماً بعد عام، إلا ان مسيرة العطاء الفني كانت مرادفة لها تحمل آلامها وتنقل آمالها وأمنياتها بالتحرير والعودة. فمن معرض في الصين إلى معارض أخرى في العالم العربي وأوروبا.. فيزداد التعب والمعاناة، وتشتد ازمة الفنان إسماعيل شموط ويتعب قلبه.. "في السابعة من صباح 29 كانون الأول / ديسمبر 1976 دخل إسماعيل غرفة العمليات. جلست وحدي في غرفة الانتظار أرتعش خوفاً عليه وعلى أطفالي الثلاثة في بيروت المشتعلة... ص 187". ومن تعب الى تعب، ومن هموم الى نجاح، مما فاقم الارهاق والتدهور في صحة الفنان إسماعيل شموط، ليخضع لعملية قلب مفتوح للمرة الثانية. "أُجريت العملية الثانية بنجاح في 11/12/1981، واكتشفت ان إسماعيل ترك هذه المرة وصية خبأها في ثيابه، وما زلت أحتفظ بها حتى اليوم. وهناك زارنا محمود درويش هذه المرة أيضاً، فدخل ومازح إسماعيل: إنتَ بتعملها مخصوص يا إسماعيل بهذا التاريخ عشان تقضي أعياد الميلاد ورأس السنة في لندن؟ ص 205".

جاء عام 1982 وجاء معه العدوان الصهيوني على لبنان والمقاومة الفلسطينية.. بقيادة شارون، والذي كان هدفه القضاء على المقاومة الفلسطينية وعلى قائد الثورة الرئيس ابو عمار.. "وصلنا إلى حيث كان الأخ أبو عمّار، والأخ أبو جهاد، والأخ أبو إياد لتوديعهم. ودّعناهم، وقال لي أبو عمّار وهو يحتضنني: بس بكاء يا تمام، نحن المنتصرون لأن شارون راهن على سحقنا وعلى قتلي في أيام قليلة، وعلى ان يقف فوق جثتي كي يُنهي الثورة، لكنه لم يستطع، ولن يستطيع. ص 209". انتقلت العائلة للعيش في الكويت، وفي مطلع آب 1990، سادت اجواء عدوان يشبه العدوان الصهيوني على لبنان، خوف وهلع، والأخبار تعلن عن احتلال العراق للكويت، كما "عاثت القوات (العراقية) نهباً وخراباً... ص 221". هنا لم تذكر الفنانة تمام الاتصال الذي جرى بين إسماعيل والقائد أبو عمار، حيث عبر فيه الفنان إسماعيل شموط عن اعتراضه على موقف أبو عمار الذي دعم فيه موقف صدام حسين في إحتلال الكويت، والذي أدى فيما بعد الى ملاحقة الفلسطينيين والتضيق عليهم هناك، بعد انسحاب الجيش العراقي منها.. وقد حدثني عن ذلك الفنان إسماعيل شخصياً عبر اتصال هاتفي للإطمئنان عنهم. وقد كان لمثل هذه المواقف السياسية الخاطئة تأثيراتها السلبية على القضية الفلسطينية برمتها. ومن جراءها أيضاً اضطرت العائلة إلى الانتقال للعيش في ألمانيا.. ومن بعدها عادت لتستقر في العاصمة الأردنية عمان.

ومن التناقضات المريبة التي رافقت حياتهما... "وصلنا إلى مطار برلين حيث عاملت الشرطة صناديقنا الضخمة معاملة مرحّبة، الأمر الذي جعلني أتحسر على الفرق في المعاملة بين بلادنا وبلادهم (الغريبة). ص 222". لم تشرح هنا الفنانة تمام كيف كان التعامل معهما في المطارات العربية "الشقيقة"، لكن كلماتها عن "الحسرة" من جراء ذلك التعامل، يُذكرني بما روت لي الفنانة سامية حلبي، غداة حرب لبنان الثانية 2006، حين وصلت الى لبنان لتشاهد اثار العدوان المدمرة هناك، وحين قررت السفر عبر الحدود السورية والاردنية الى فلسطين، كان يستغرقها ذلك الأمر ساعات طويلة من الإنتطار على معابر الدول "الشقيقة"، في حين انها لم تضطر للإنتظار أكثر من نصف ساعة عند مرورها بمعبر وادي الأردن.

يتحقق حلم العودة لهما ولو في زيارة خاطفة لثرى الوطن الحبيب. "كان ذلك يوم السبت الموافق فيه 16 آذار/مارس 1997. كم حلمّ بالعودة إلى الوطن وإلى مسقط رأسه، وكم غاصَ في كوابيس الرحيل والترحال، وها هو اليوم في شوارع اللد وتحت سمائها وعلى باب منزله. كان يدور حول نفسه في الشارع ويصيح: أنا مش مصدق عيني... أنا في اللد، يا إلهي... هذا بيتي، وهذا باب مرسمي الصغير، تركت ألواني وفراشيّ ولوحتي لم تكتمل. حولوا بيتنا الجميل إلى نادٍ للضباط فيه أسلحة للقتل بدلاً من الزهور التي كنت زرعتها بيدي!.. ص 227". وهكذا الحال مع الفنانة تمام أيضاً.. هناك امام باب بيتها في يافا، الذي احتلته إمرأة غريبة كتبت على بوابته "صالة شوشنا فِنكلشتاين".. "لأ يابا، مش راح أنسى. مهما غيّروا فلا ولن يستطيعوا تغيير شيئين، لا هواء يافا ولا بحرها. ص 229". لكني أعتقد انهم غييروا الكثير من الأشياء، حتى هواء يافا وبحرها، رغم أن الكثير من معالمها الفلسطينية ما زالت باقية، إلا ان يافا اليوم لم تعُد يافا التي كانت.

جاء عام 2000 حاملاً في جعبته مشروع "السيرة والمسيرة".. الذي تكلل بإنجاز 19 جدارية زيتية بمقياس 200x180 سم، استغرق العمل فيها مدة أربع سنوات، لتخرج إلى النور معلقة على جدران المتحف الوطني وكلية الفنون الجميلة في الجامعة الاردنية. إذ كان الافتتاح في 1/11/2000.. "فقد حضر نحو 1000 شخص، بعضهم لم يتمكن من مشاهدة اللوحات لشدة الازدحام، فجرى تمديد المعرض مرتين. وذكرت إحصاءات المتحف أن ما يزيد على 30.000 شخص زاروا المعرض الأمر الذي اعتُبر حدثاً غير مسبوق. بعد ذلك تبنَت (مؤسسة التعاون) نقل المعرض إلى عواصم أوروبية... عدنا بالمعرض إلى عمان لنبدأ جولة في البلاد العربية: في الإمارات العربية المتحدة جميعها، والقاهرة، وبيروت، ودمشق، وحلب. وكنا، إسماعيل وأنا، اتفقنا على نقطتين: الأولى، ألا تباع أي لوحة منه مهما يكن المبلغ المدفوع أو الشاري، إذ كانت هذه اللوحات هدية لشعبنا الفلسطيني والأجيال الصاعدة كي يعرف ما جرى لشعبنا،... ص 233 و 234". ولو قدر أن عُرضت هذه الأعمال للبيع لوصلت قيمتها إلى رقم لم يصل اليه أي عمل فني في تاريخ الابداع العربي والفلسطيني بأي مقياس أو ابداع كان.

بعد سلسلة من الإنجازات الضخمة والنجاح المثير للإعجاب، وبكثير من الجهد والتضحية الجسيمة، ينقلك الكتاب إلى مرحلة الوداع، يوم رحيل الفنان إسماعيل شموط بعد إجراء عملية جراحية لقلبه في المانيا، لتناجيه الفنانة تمام بكلمات من القلب.. "حبيبي إسماعيل، أخذوني إلى غرفة كنتَ فيها وحدك، نائماً مبتسماً... قبلتكَ كثيراً. آه، هيك رحلت يا إسماعيل! ألم يكن العهد بيننا بأن نرحل معاً؟ ذهبتَ يا حبيبي إسماعيل وأخذت معك شمس حياتي وهواءها! ص 241".

قبل أن أختم حول ما جاء في الكتاب، لي ملاحظة هامشية عليه، وخاصة بالصور التي وردت فيه باللونين الاسود والأبيض، إذ انه كان بالإمكان معالجتها "رقمياً" بواسطة برنامج على الحاسوب، لتبدو أكثر وضوحاً مما هي عليه. كذلك الأمر بالمخطوطات اليدوية، في الصفحات 70 و 143، إضافة إلى لوحة "المعشوقة" التي في الصفحة 216 بالاسود والابيض، التي كان يمكن الإستغناء عنها، لأنها وردت بشكل جميل في الصفحة 272 بالألوان، مع إشارة إلى ("المعشوقة" والمقصود بها فلسطين) إشارة ليست في مكانها. لكن على الرغم من أي شيء، فقد صدر الكتاب بشكل تقني ومهني جيد لا غبار عليه، وبغلاف بسيط لكنه رائع وجميل. ونوع الخط الذي طبع به الكتاب مريح للقراءة، ولا توجد فيه أخطاء مطبعية، مما يدُل على أن من قاموا على إنجازه بذلوا جهداً لا يستهان به.

ختاماً..
"كتبت عن الفنان إسماعيل شموط بمناسبة الاعلان عن جائزة سنوية باسمه، توزع للمتفوقين في الفنون التشكيلية جاء فيها:

صديقي أيها العاشق الكبير
سَميّتكَ "إلى أين.."
سَميّتكَ "العطش"..
سَميّتكَ "النزوح.." و"الرحيل.." و"البكاء"..
سَميّتكَ.."هنا جلس أبي"..
سَميّتكَ "ذكريات النار.." و"الأزهار.."
سَميّتكَ "الحدود.."
سَميّتكَ "تل الزعتر.." و"شاتِلا.." و"اللّطرون.."
سَميّتكَ "الرمان.." و"الصُبّار.." و"الزَيتون"..
سَميّتكَ "الرُبوع.." و"الدُموع.." و"الرُجوع"..
سَميّتكَ "الدار.." و"المخيم.." و"الحَنوّن"..
سَميّتكَ "الصُمود.." و"المُقاتِل.." و"الفدائيون"..
سَميّتكَ "حارسُ النار.." و"الجذور"..
سَميّتكَ "العروس.." و"النساء.." و"الصبايا"..
سَميّتكَ "المرايا.."
سَميّتكَ "الشهيد.."
سَميّتكَ "إرادة الحياة.."
سَميّتكَ "العودة.." سَميّتكَ "الحنين"..
سَميّتكَ.. وسَميّتك..
فإذا أنت فلسطين! كل فلسطين.

وإلى الآن

أكثر من صداقة كانت بيننا، فرب أخ لم تلدهُ لك أمك، ولذا استمرت هذه الصداقة حتى بعد رحيله، وثابرت الفنانة العريقة، تمام الأكحل بالاتصال والتواصل، وهكذا أجدني ملزمًا أخلاقيا وإنسانيا، وعرفانًا لتاريخ هذان الرائدان لحركة الفنون التشكيلية الفلسطينية، أن لا أتوانى في تقديم كل جديد عنهما، من باب أضعف الإيمان!"

نشرت هذه الكلمة في صحيفة "الاتحاد الحفاوية" يوم الاربعاء 28/01/2009

زاهد عزَّت حَرَش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى