الجمعة ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم ميمون حرش

حيوانات تلفزيونية

 لا أحد يماري، اليوم، بأن إنسان الألفية الثالثة غدا حيوانا تلفزيونيا بامتياز، وعلى هذا الأساس فإن مقولة، " الإنسان ابن وسائل إعلامه" تصح على غرار المقولة المشهورة" الإنسان ابن بيئته"، التلفزة غدت أمه الثانية بالتبني أرضعته من حلبيها وبالألوان ليشب على الطوق ثم ليهيم بها حبا وعشقا متى كبر،سلاحه في الحياة، ليس قلما، ولا منجلا، ولا معولا،ولا كتابا حتى، بل هو جهاز التحكم عن بعد، أما عن قرب، فآليات الاستعمار الجديد هي تتكفل بالتالي، إذ تطلي المشاهد حسب المقاس،تأتيه بيته دون استئذان على شكل توم وجيري لتضمن رضاه وابتسامته حين تبث له برامج، وألعابا بلا حدود( وهو الذي يعيش مشاكل بلا حدود)، وأفلاماً خليعة داعرة الهدف منها هو النيل من قيمنا الإسلامية السمحة، وكذا تشويه هويتنا، كل ذلك لتعيد صياغته حسب الماركة المطلوبة، ثم تفبركه مثل قالب حلوى، وكالقطيع ينقاد دون أن يحرن، مأخوذا بموضة العصر التي تنادي بالانخراط في السياق العام الذي يسيج العقول حتى تفهم الأشياء بشكل مقلوب، لذلك نجد أن بعض المشاهدين لا يكلفون أنفسهم إدراك الأشياء من حولهم بشكل جيد، فيتحول الاستثناء، بالنسبة لهم، إلى قاعدة، فلا تكتفي عقولهم بتبني بعض المفاهيم فقط،بل تتعداه إلى نصرة البهتان الذي تضمره، والدفاع عن الشر القابع فيها، وتعمل تاليا، جاهدة، على تكريسه، و تظل الشاشة، بامتلاكها لهذا السلطان، متأهبة على الدوام للسيطرة على رؤوس المشاهدين من أجل تدجين العقول التي تحمل، وهي لا تفتأ تطرح الأشياء طرحا غير صحيح في كثير من الأحيان.

 جهاز التحكم عن بعد سلاح هو في أصله مثل مسدس كاتم الصوت، يردي المشاهد قتيلا دون ضجة، كذلك الشأن لهذا الجهاز اللعين، لا يكتفي بطلقة واحدة،بل يقذف العقول بقوة الكلاشينكوف،فيحول الرؤوس إلى ما يشبه شبكة صيد، منخورة، ومحفورة،كل ثقب فيها هو في الواقع أثر سيء ستتداعى تبعاته لاحقا، وبقوة ستشكل ذهنيته، وبسلطانها عليه تلفه مثل لفائف التبغ، ومن الداخل سينخره نيكوتين الإعلام الهابط والفاسد، كل ذلك من أجل ضمان الانقياد لكل المفاهيم الخاطئة دون حجاج ولا جدال..

 حين تبث الشاشات هذه القذارة كما أسلفت، وتنتصر لها،وتعمل على تكريرها يوما بعد يوم، فإن المشاهد يتطبع معها، ويتعايش كما لو كانت بدهيات لا شوائب فيها..ألا تكرس بعضها مثلا على سبيل العد لا الحصر أسطورة البوليساريو المضطهدين؟..ألا تنتصر لهم بعض القنوات رغم أنهم ضالون بحكم القانون،و مارقون ماداموا لوَوْا رؤوسهم للوطن وهم مستكبرون،ثم خذلوه بعد أن حضنهم صغارا ليمثلوا عليه دور المظلوم حين كبروا بإيعاز من "الشقيقة"الجزائر التي ترعى هذه الشرذمة الضالة بعينين جاحظتين متورمتين من مرض اسمه" بصحراء المغرب لن أرى":بالعين الأولى تمدهم بالحطب من أجل حريق تريده مندلعا على الدوام، والثانية تظل ساهرة لا تنام لأنها تتطلع إلى مصالح مرسومة تريد تحقيقها على حساب الحق.

 لقد اكتسحت شاشة التلفزة كل المجالات في حياتنا، ثم تُوجت ملكة على عرش وسائل الإعلام، محتلة بذلك الرتبة الأولى..أصبحت مشهورة أكثر من كوكاكولا عند الراشدين قبل الأحداث بيد أن الخاسر الأكبر في كل هذا هو الكتاب،لقد انحسر دوره،وبُخست قيمته؛ من جهتنا نحن ساهمنا بقدر غير يسير في حفر قبره حين أدرنا ظهورنا للكتاب , وأعلنا القطيعة معه لنرضي الشاشات على مختلف أشكالها.. وما نحن اليوم غير بقايا أَنَام لا ينام،أمامها نقبع كبؤساء فيكتورهيجو، بعضنا نخرته المسلسلات التركية، حتى إذا نودي للصلاة ( عفوا لبث حلقة جديدة من نور ومهند أو خليل وميرنا..أوأي مسلسل تركي رخيص) يذرون كل شيء في أيديهم استعدادا للصلاة عفوا للمشاهدة.. وماذا نحن غير قطيع ينقاد لكل حادٍ، عيوننا مصوبة نحو عصاه لا ليهش بها علينا بل ليهشم بها رؤوسنا " الصغيرة"؟.

 لم نعد نقرأ، أصبح الكتاب خير عدو وليس خير جليس، هناك أصوات تنادي:" الكتب احذروها، هي عدوة لكم فاجتنبوها"،وبغض النظر عن غلاء بعضها( حتى لا نتعلل بهذا) فما عاد أحد يقرأ اليوم، همنا مشترك، هو أن نقبع أمام الشاشات مثل الروبيات لا حول لنا ولا قوة.. حيوانات تلفزيونية، جاحظة عيونها لما يبث فيها على مدار الساعة، أطفالنا خاصة، يصبحون مأخوذين بلقطات مصحوبة بموسيقى ليست كالموسيقى، مصحوبة بكلمات ليس كالكلمات، ومشاهد كالسحر تأسرهم، وتخدرهم، وتقتل طاقة الإبداع لديهم، عقولهم الصغيرة تصبح أرضا يبابا في حاجة لسقي وري في غياب شمس القراءة،وحضن الكتاب، والتمتع بقلب صفحاته مع قلم في اليد يسجل المعلومات، والمعارف، وكذا الأساليب الجذابة.

 الروائي الكبير عبد الرحمان منيف في رائعته:" هنا والآن أو شرق المتوسط مرة أخرى" قال بلسان أحد أبطاله: " أحمقُ من يعير كتابا، وأكثر حمقا من يستعير كتابا ويرده"، وبمزاحمة الشاشات وغيرها للكتب لم تعد لها هذه القيمة التي يتحدث عنها الروائي، بل أصبح الأحمق الحقيقي اليوم هو من يشتري كتابا، أو جريدة أو مجلة، أما الأكثر حمقا هو من يحرص على تخصيص مكتبة في بيته، وبدلا من الكتب يجب أن تملأ الخزانات في البيوت بصحون الطاووس، وبأكواب مختلفة الشكل واللون،في انتظار ضيف قد يثني على صالوناتنا، ونضمن أنه متى خرج سينقل حتما ما رآه بانبهار.. هذا إذا نزل بنا هذا الضيف المنتظر( رغم أن هذا لا يحصل لأننا لم نعد نتزاور الآن)، وإلا فقد يعلوها الغبار يوما بعد يوم، و تكتفي ربت البيت بتلميعها كنوع من الروتين القاتل ليس إلا.

 الكتب تجعلنا ننضج بشكل جيد، هي كالشمس في هذا، تمدنا بسعرات حرارية، أجسادُنا وعقولنا في حاجة إليها. وإذا كان صحيحا أن: " البيت الذي لا تدخله الشمس لا يدخله الطبيب" فإن البيت الذي يخلو من الكتب لا تسطع عليه هذه الشمس أبدا، مما يعني أنه سيصبح عرضة لكل الأمراض، وتاليا سيصبح في حاجة لكل الأطباء.

أجل، لقد أصبحنا حيوانات تلفزيونية،وبدون شاشات قد نضيع كأطفال فقدوا أمهاتهم في الزحام، ومثل أفهامهم البسيطة تغدو عقولنا،ما يُبث فيها يروضنا، ويدجننا، وتصبح عقولنا فارغة من الداخل كقصبة،ونضع في أضلعنا، بدل قلوب من دم ولحم، أحجارا.. نتجرد بسببها من كل الأحاسيس، فلا تضطرب أنفسنا أمام ما يجري في الواقع من فظاعات؛ ما حصل في غزة مثلا لم ترتعد له فرائصنا( عفوا تأثرنا، لكن بطريقة العرب التي تختم هذا التأثر بعبارة" نندد ونشجب").. كنا، كالدمى، نشاهد الموت يجثو على أربع، يحصد ويحصد، ونحن، أمام الشاشات، نشاهد ونشاهد، ألم نكتفِ بمجرد المشاهدة؟ ألا نواصل حياتنا الآن كأن شيئا لم يقع رغم أن صانعي العاهات/ الصهاينة لا زالوا يتربصون بنا؟.. ثم ماذا بعد؟ لا شيء سوى بيان يختم ب"نند ونشجب"، تعرفون: لو احتضنت تربة الأرض هذه العبارة، ومثيلاتها لأنبتت رؤوس تماسيح والله.

إن محرقة أطفال غزة اكتوينا بها مرتين : مرة حين لم نجد لمأساتهم سوى الشعارات والمظاهرات، أغلبنا كان يخرج للتظاهر بعد أن يشرب قهوة الصباح، و قد يأخذ نفسا من سيجارة شقراء يردفها بتنهد لا يوصف، أما الثانية فحين كنا نشاهدهم يتساقطون أمام أعيننا وعلى الهواء مباشرة.. والفظيع أن بعضنا شاهدهم و" الساق على الساق "فيما الآخر ممدا على أريكته، ينكش أنفه بيد بلذة، بينما اليد الأخرى ممسكة بجهاز التحكم عن بعد، حريصة على تغيير القناة كلما أصبحت الصور فظيعة و عصية على التحكم بحثا عن مسلسل تركي أو مكسيكي..أوبحثا عن... ألا نخجل ؟! و يا شاشات العالم ـ آنسات كنتن أم سيدات ـ ألا تخجلن ؟ المجد لمن سماكن، و الويل لنا لأننا أصبحنا حيوانات تلفزيونية تتأقلم مع فظائع دون أن ترتعد فرائصنا لنَقــلٍ مباشرٍ فيه أولا و أخيرا عناوين عن هزيمتنا وتخلفنا وضعفنا و هواننا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى