الثلاثاء ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم أبو طالب

دراسة عن الشاعر اليمني الكبير مطهر الإرياني

إن نهوض أية أمة من الأمم إنما يتحقق بما يسجله أعلامها من صفحات الإبداع ومواقف البناء والإنتاج المتميّز فيخلّدونها ويخلدون بها، وحين يقترن الفعل بفاعله اقتران لزوم وشرط وجود، ويلتقي الزمان بالمكان بعلاقة التواشج والكينونة، ويستقيم البناء بثنائية الأرض والإنسان، ويتكامل الإبداع بتحليق الكلمة على جناح النغم، عندها يكون للفعل الإنساني الإبداعي خصوصيته، وتحققه الذي يغالب الفناء ويثبّت وجوده وحضوره في مدار الزمن.

إن الوقوف اليوم في هذا المقام الشعري الإبداعي وقوف إجلال في حضرة الشعر، وجمال الكلمة، وصدق المعنى، وأصالة الهدف ونبله يتحقق جميعه في نتاج شاعر كبير- بكل معنى الكلمة- ومبدع صادق الإحساس انطلقت روحه من روح شعبه الأصيل والعريق، وغرّدت أنغامه على معزوفة الأرض الخصبة، فتفتحت موهبته مع نسائم علان، وبراعم مواسم الخصب والحصاد، وانسابت كلماته مع هبّات الصَّبا والصِّبا، وأغاريد العمل وأهازيجه، فكان وإياها وكأنهما على موعد في اللقاء، إننا أمام قامة شعرية وتاريخية ولغوية سامقة إننا في حضرة الشاعر والمؤرخ واللغوي الكبير الأستاذ/ مطهر بن علي الإرياني.

من أين نبدأ وأنّى نتجه في الحديث عنه ومعه وهو كما يقول المتنبي:

هذا الذي أبصرتُ منه حاضراً
مثلَ الذي أبصرتُ منهُ غائبا
كالبدر من حيثُ التفتَّ رأيتَهُ
يهدي إلى عينيكَ نوراً ثاقبا

حين طُلبت مني الشهادة لهذا العَلم ما كان لي أن أُأخِّرها أو أخفيها لأنه من يكتمها آثم قلبه؛ كيف لا والمشهود له هو من تفتّحت مداركنا الإبداعية والشعرية على إيقاعات كلماته، ورأينا الريف بعينيه أحلى وأعذب مما عشناه ورأيناه بأعيننا نحن أبناء الريف، وكيف لا وهو من جدَّدَ الموروث الشعبي بحكمة الخبير، وخبرة الحكيم، ونَفَس المتخصص وقدرته، وقد ظهر ذلك جلياً في أهم أعماله، وهي بلا شك من أهم الأعمال الغنائية اليمنية المعاصرة على الإطلاق، وهي: (خطر غُصن القنا، والبالة، وفوق الجبل، وجينا نحييكم، ويادايم الخير دايم، وصوت فوق الجبل...وغيرها) حيث نزع الشاعر في تجديده -كما يقول الشاعر الكبير عبد الله البردوني رحمه الله-:" من روح الشعب ولغته وشكليات أهازيجه وأَحْدَثَ تحولاً شعبياً غنائيا لأنه صدر في إبداعاته من إبداع الشعب، وفرادته تتجلّى في الإحياء لفن الشعب".

إذن فلدى شاعرنا مطهر الإرياني مشروعٌ كبير متكامل عاش له عمره الإبداعي والعلمي منذ البداية، وكل نتاجه يصبُّ في هذا المشروع الواعي، فهو في بحثه وتنقيبه في الحجر والنقوش اليمنية إنما يبحث في ذات المشروع عن الروح اليمنية الحضارية العملاقة المنتجة التي خلَّفت كلّ هذه العظمة وتحدّت الفناء، وتركت آثارها المسندية مزبورةً على الصخور، وحين يؤرخ إنما يضيف إلى رافد الروح اليمنية رافداً آخر يتلمسه في روح الشعب التي تظهر آثارها واضحة في عاداتهم وتقاليدهم وأهازيجهم ونغماتهم في العمل والحياة في السلم والحرب في الحبِّ والمعاناة، فهو بحق كما يبحث في الحجر فقد بحث في البشر أيضاً ليكتمل مشروعه، وهو حين يبحث عن روح الشعب يسعى إلى توصيف تلك الروح وتجسيدها من خلال الكلمة الشاعرة، ومن خلال الكلمة العلمية فيضعها لكي تكتسب الخلود ولا تضيع في معجم كبير هو المعجم اليمني الذي لا يبتعد عن جهد كبار اللغويين العرب في عصور التدوين والاحتجاج أيام الخليل بن أحمد، والأصمعي وأترابهم ورفاقهم فيسجل الإرياني معجمه في أناة وطول بال وقدرة وجَلَد لا يملكه إلا أولي العزم من الباحثين فيأتي بقاموس يمني لغوي خالص في الحياة والأدب والعادات والتقاليد والمعارف والأرض وغيرها، وهو بكل ذلك يكامل ويكمّل مشروعه الإبداعي العلمي التاريخي ليلتفت بعد رحلة سنوات طويلة إلى تراثه الضخم من الإبداع والإنتاج ويرنو إليه بعين الرضا فيقرَّ عينًا ويطيب نفساً بما حقّق، ولكنه ليس كلُّ الرضا لأن النفوس العظيمة لا تقنع بما دون النجومِ:

وإذا كانت النفوسُ كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ

ولا ينبغي لباحثٍ مُنْصف ولا دارسٍ مُحَقّق إلا أن يقف بإجلالٍ وإكبار وقفة أكاديمية أو علمية منصفة أمام هذا المشروع المتفرّد والكبيرْ.

وإذا ما كان لي من كلمةٍ سريعة في هذا المقام – كشاهد على إبداع هذا العَلَم- وأنّى للطالبِ أن يشهد على أستاذه؟! ، ولكنه يشهدُ له كواحدٍ من أبناء جيلٍ لاحقٍ؛ شفيعه في ذلك سعة صدر أستاذه وأريحية طبعه فإنني سأوجز هذه الشهادة في ملمحٍ تأملي تصنيفي ، وإن كانت هذه الشهادة تتلمس طرف الخيط في نسيج عظيم متداخل محكم الصنعة في بعض النتاج الأدبي للشاعر الكبير مطهر الإرياني وهي أشبة بالقراءة غير المكتملة التي تُفْضِي إلى القول بأنه فيما يبدو أن ثمةَ محاورَ ثلاثةٍ كُبرى سَارَتْ فيها مدونتُهُ الشعرية- وأقول الشعرية فقط ولا أقول كل مدونته لأنها تحتاج إلى دراسة بله دراسات كاملة أو رسائل أكاديمية متخصصة ترصد كل جهوده على مستوى الشعر والتاريخ واللغة.

المحور الأول: يتمثل في شكل القصيدة، وهو يقوم على ثنائيتين ضديتين هما: التراث والتجديد.

ينطلق الشاعر من الموروث الشعبي في أشهر قصائده الغنائية – وليس كلها- فيلتقط الفكرة والوزن العروضي والهدف؛ ولكن ليبنيها بناءً جديدا ومختلفا لتوقع السامع، ومن هنا تأتي الدهشة والفرادة فأصلها (الحال- البالة- الدودحيات- الرزفة- أهازيج العمل والعلانيات ...وغيرها) ويقوم الشاعر بالإزاحة في المضمون السابق ببساطته لكي يملؤه بالتجديد المنطلق من إحلال مفاهيم أخرى أكثر حداثة وعصرية وشعرية، فيكون نصّه الجديد محملاً بالوطنية المحلقة، وبالفكر المستنير وبالعاطفة الجياشة التي اتكأت على التراث للانطلاق منه إلى أفق أرحب وجمال أحدث ليس انطلاق مقلّد ولكنه ابتعاث مُجدّد. وكأنما هو طائر الفينيق في الأساطير الإغريقية ينبعث من الرماد ليكون مخلوقاً فتياً معافى، ومن هنا يظهر نَفَس الشاعر الطويل في تحويل البيت الشعري الشعبي مجهول القائل إلى قصيدة طويلة ذات مضمون وموضوع جديد روحه من روح الشعب في غابر عصوره لكن شكله شكل عصري متأنقٌ بديع في واقعه الحاضر.
المحور الثاني: يتحقق في مضمون القصيدة: ولعلَّ القارئ والمتتبع لشعر مطهر الإرياني لن يخفى عليه مفتاح الولوج إلى مضمون غالب شعره؛ وبخاصة منه المرتبط بالريف والزراعة، وذلك المفتاح ظاهر في ثنائية تتكون من حرفين اثنين هما: الحُب (بضم الحاء)، والحَب (بفتحها)، وهو يرى أنهما متكاملتان، وكلٌّ منهما تفضي إلى الأخرى وتستدعيه، فلن يتحقق لقاء الحبيبين ، وحُبُّهما إلا في نهاية موسم الحَبّ والخير القادم بكلّ توابعه الذي يعني حياة الفلاح ومدار عمره، ولنا على ذلك شاهدٌ ودليل من شعره، وهو واضحٌ في جُلّ قصائده وأوبريتاته تقريبا؛ حيثُ يقول:

يا حبيب اللقا في الحقل نِعْلِفْ ونِطْرَبْ
طَابْ وقتَ اللقا في موسم الحُبّ والحَب

إذن فالحُب غذاء الروح، والحَب غذاء الجسد كلاهما لا غنى عنهما في حياة الفلاح، ومن هنا نجد معظم خوالد مطهر الإرياني في المضمون الشعري لا تخرج عن هذه الثنائية، ولنقرأ مثلاً: (الحُبُّ والبُن، وهيا نُغني للمواسم، وعلان موسم الخير، والشرف أو العلف، وملحمة الريف، وأوبريت قران تشرين ثاني وغيرها). وكما هي ظاهرة في خوالده الشعرية فإنها ظاهرةٌ أيضاً فيما يَعُدّه هو من الخوالد الثلاث؛ حين يقول على لسان حُميد بن منصور- وهو ورفيقه علي بن زايد من رفقاء الشاعر وملازميه كلما أمسك بقلم الإبداع- يقول حُميد معترفاً بفضل علي بن زايد:

أخي علي بن زايد
أثنى عليَّ كما حبْ
وانا كما الله شاهد
أقول وما انا مُكذّبْ
علي أخي في الخوالد
الأرضْ، والماءْ، والحَبْ

وإذا كان علي بن زايد والحميد بن منصور هما حكماء الزراعة وشعرائها فإن مطهر الإرياني أصبح ثالثهما حيث أعاد قراءة موروثهما وإنتاجه غنائياً فذكَّرَ بهما وذُكرَ معهما ووصف العمل الزراعي توصيفاً إبداعيا وتحدّث عنه وأرّخ له ولهم في معظم قصائده.
المحور الثالث: يتمثّل في لغة القصيدة: وهي واضحةٌ في ثنائية: الفصحى والعامية.
هذه الثنائية التي كَتَبَ بها معظم قصائده وأوبريتاته دون أي فاصل بينهما بل يتنقل بين الفصحى والعامية بكل يسر وإتقان، ومن هنا يظهر الشاعر المثقف في إِهَاب الشاعر الفلاح، ويبرز صوته ممزوجا منوعاً فيصوغ قصائده في بنيتها بين فصيح (حكمي)، وعامي (حميني) بل تظهر تلك الثنائية في القصيدة الواحدة بما لا يدع فاصلا بين اللغتين أحيانا، ففي قصيدة البالة –على سبيل المثال- نقف أمام هذا النموذج الذي يمثل بقية النصوص في تجربة شاعرنا وتعامله مع اللغة:

خرجت انا من بلادي في زمان الفنا
أيام ما موسم الطاعون قالوا دنا
وماتوا اهلي ومن حظ النكد عشت انا
عشت ازرع الأرض واحصد روحي الذاويه

نجد في هذين البيتين ثنائية الفصحى والعامية فـمفردات: الفناء –دنا- حظ النكد- الذاوية مفردات فصيحة في تركيب شعبي، ولا يخفى أيضاً ثقافة الشاعر بموروث الشعر الفصيح من حيث عمقه وصوره المتمثلة في الاستعارات والطباق وغيرها، فالطباق واضح بين: ماتوا /عشت انا، وأزرع/أحصد، في حين أن التجديد في الصورة يأتي في الاستعارة المُخْتَزِلة للكثير من المعنى في قوله (واحصد روحي الذاوية)، إذن فقاموس الشاعر ولغته إضافة تجديدية أخرى على مستوى اللغة للقصيدة الحمينية، وفيها ثقافة عالية ليست عربية فحسب ولكنها عالمية تـأتي من قراءات الشاعر في الموروث الفلسفي والديني الإنساني عموماً، وهذا رافدٌ آخر مطوِّر للقصيدة الحمينية الإريانية؛ حيث تظهر في قصيدته الملحمة؛ وهي بالفعل كذلك (فملحمة الريف) المكونة من 225 بيتاً تأخذ في بنيتها شكل الملاحم العالمية من حيث المقدمة التي تبدأ بالاستيقاظ مع الفجر وبدء دورة الحياة وتمضي حتى نهايتها، وكأننا في هذه القصيدة أمام ملحمة هوموروسية لكن موضوعها هو الريف اليمني وحياة الإنسان والأرض بهمومهما وطموحهما، ثم إننا نجده يختمها وكأنها نشيدٌ أزلي من أناشيد الأنشاد الدينية بقوله:

واعيشْ للريفْ (راهبْ) وامنحه عمري اجمعْ
وما (صليبي) سواه
واعْلِمْ (مراسيم للتعميدْ) في كل منبعْ
واغسل جميع الخُطاه
(ثالوثي) الطين، والماء، والجمال المنوّعْ
في كل ما في رباه
(نشيد الانشادْ) شعري و(البخور المضوّعْ)
قلبي وروحي فداه

ولا يخفى هذا التضمين والمصطلحات التي لا شك أنها ليست من استخدام شاعر ريفي شعبي عادي، ولكنها من شاعر مثقف يوظف اللغة توظيفاً مختلفا ويستثمر الثقافة المحلية والعالمية، ثم يربطها بمعرفته بالديانات الأخرى بما فيها الديانات القديمة التي تظهر في (البخور المضوّع) وهي من بقايا أقدم الطقوس الدينية التي اشتهرت اليمن بتجارتها عبر العصور الغابرة.

وثمة ملمحٌ لُغَويّ آخر نختم به هذه الوقفة السريعة، وهو أن شاعرنا مطهر الإرياني قد وظّف الرمز في مدونته الشعرية كنوع من التجديد في الحميني باتخاذه (وضاح) رمزاً لكل يمني يلقى صعوبةً أو يعاني من ضيمٍ يقع عليه قد يودي به وبسرِّه في صندوق المجهول، ولكن مع بقاء الأمل والمواساة الواضحة في قوله:

يا ساري الليل يا وضَّاحْ
وضاحْ يا ساري الليلة
لا بدّ لليل ما ينـزاحْ
مهما تراختْ سَرَابِيلة
الليل يا وضاحْ
قد غلَّق ابوابه
وضيّع المفتاحْ
وسربل اثوابه

وهي بلا شكٍ من روائع شاعرنا ذات البُعد الرمزي والعُمق الفلسفي الثوري الذي لا يستطيع الإتيان به سوى شاعر كبير بحجم مطهر الإرياني.
شكراً له على كلِّ هذا العطاء، وهذا الإبداع، وتلك الإضافة المتفرّدة، والثقافة العالية الخالدة في سِفر الإبداع اليمني، وشكراً له أخرى على روحه الحضارية المستمدة من روح اليمن الأصيلة العريقة، وعلى حضوره المتألق في الوجدان الشعبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى