الثلاثاء ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠٢٢

دليل فلسطين

مصلح كناعنة

حين تغطي بهرجة المظهر على دقة المحتوى،

وتصبح حقائق الوطن سلعة في سوق الإعلام المُسيَّس!

أهكذا نحارب الإعلام الصهيوني المزيف ونقدم فلسطين إلى العالم؟!

هذا الكتاب الموسوعي الذي صدر عام 2007 عن "دار الشروق" في رام الله و "الدار العربية للعلوم" في بيروت في نفس الوقت، هو أحد مفاخر عرّابي الثقافة الرسمية في فلسطين، صُرفت عليه عشرات الآلاف من الدولارات، غلافه من أجود أنواع الكرتون المُقوّى، وصفحاته من الورق الثقيل الصقيل اللامع المُعَدّ لطباعة الصور الفوتوغرافية بجودة عالية، أعِّدَّ برعاية "المجلس الأعلى للسياحة العربية في القدس" وبدعم من "UNDP/PAPP"، ساهمت بمجهود إعداده وإنتاجه خيرة المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية مثل "معهد دراسات القدس" و "معهد القدس للبحوث التطبيقية" و "الجمعية الأكاديمية الفلسطينية لدراسة الشؤون الدولية" و "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" و "PASSIA" و "NSU"، وتم العمل عليه بإشراف ومساهمة عدد كبير من الشخصيات الفلسطينية المعروفة مثل خالد الناشف، ومعين صادق، وصالح عبد الجواد، وعبد الكريم عطايا، ووليد أيوب، وهبة فرسخ، وإياد السرَّاج، وأمين طوقان، وياسمين زهران وغيرهم.

وورد على غلاف الكتاب أنه من تأليف الصحفية والإعلامية الفلسطينية المعروفة مريم شاهين، وذلك على الرغم من أن مريم شاهين نفسها تذكر في "كلمة شكر" أن توفيق حداد ألف الفصول عن مخيمات اللاجئين وعن طبريا وبيسان، وعنيا بشناق ألفت فصل الأدب والفولكلور، وكريستيان دبدوب ناصر ألفت فصل الطهو وتوابعه، وهيفا الشوَّا المصري ألفت الفصول المتعلقة بالأزياء والحليّ، ونورما علي خلف ألفت المادة عن المجموعات النباتية والحيوانية... فكيف تكون مريم شاهين هي "مؤلفة الكتاب" وأكثر من نصف الكتاب من تأليف أشخاص آخرين؟! ألم يكن من الأجدر والأكثر دقة وأمانة القول أنَّ "دليل فلسطين" هو من "تحرير" أو "تنسيق" أو "إشراف" أو "إعداد" مريم شاهين؟!

أما الصور الرائعة وعالية الجودة التي تملأ الكتاب وتضفي عليه رونقاً أرستوقراطياً مُذهلاً، فهي من تصوير المصور الأمريكي اللبناني المشهور جورج عازار، مؤلف الكتاب الشهير "Palestine, A Photographic Journey"، والذي تحتاج الكتابة عنه وعن شهرته ومُنجزاته وجوائزه ومناصبه مقالاً ضخماً يستغرق عدة صفحات، ويكفي أن نذكر هنا أنه أنتج بالاشتراك مع مريم شاهين نفسها 50 فيلماً لقناة الجزيرة القطرية منذ عام 2006.

بهرجة الوهم، ووهم البهرجة:

ورد على الغلاف الخلفي للكتاب أن "دليل فلسطين... يستكشف ما كان عليه الفلسطينيون سابقاً وما هم عليه اليوم. يوفر هذا الدليل الغني بالإيضاحات، بدقة ونزاهة، مدخلاً أساسياً لفهم الفلسطينيين وعلاقتهم بأرضهم، في ماضيها وحاضرها. وهو يضع بين يدي القارئ التاريخ المضطرب والتراث الغني لفلسطين جنباً إلى جنب مع روايات مختصرة لموضوعات مثل الشعر والأدب، العادات والحلي، الطبخ والموسيقى. استكشف لحظات الماضي، واستكشف البلدات، والقرى، والمدن ومخيمات اللاجئين التي تنبض بالحيوية في بلد بدأ يظهر إلى حيز الوجود."

هنا ينتهي هذا الحلم الجميل ويبدأ الكابوس! هنا تنتهي هذه المَفخَرة الإعلامية اللامعة وتنفقئ فقاعة الأرستوقراطية التي تريد أن تبهر الناس والعالم بالشكل لا بالمحتوى وبالمظهر عوضاً عن الجوهر:

"بدقة ونزاهة"؟!

هذا آخر ما يتصف به هذا الكتاب اللامع العملاق، وهذا هو الثمن الذي يدفعه العالم الأكاديمي (وتدفعه فلسطين) حين تُغدَق أموال السياسة والمؤسسات المُسيَّسة على صحفيين وإعلاميين كي يقوموا بدور الباحثين الأكاديميين، ولنبدأ بمثال هو أقرب ما يكون إليَّ شخصياً وأستطيع أن أفتي فيه بثقة تامة:

عـرّابَة:

في الصفحات 173-175 من "دليل فلسطين"، وتحت العنوان الفرعي "في جوار الناصرة"، يتحدث الكتاب عن قرية عرّابة، وهي قريتي ومسقط رأسي والبلدة التي أعيش فيها وأكتب منها هذه السطور، ويسميها الكتاب "عرّابا"، وهذه أول مرة في حياتي أرى اسم قريتي مكتوباً بهذه الصيغة باللغة العربية، والسبب هو أن الكتاب أُلِّفَ في الأصل بالإنجليزية ثم تُرجم إلى العربية، وفي النص الإنجليزي ذكرت القرية باسم "Arraba"، فنُقل الاسم من الإنجليزية إلى العربية بشكل تصويري فأصبح "عرّابا"، وذلك لأن من قام بالترجمة لا يعرف عن فلسطين شيئاً ويكتب عن قرى فلسطين كأنه يكتب عن قرى أرخبيلات إندونيسيا أو شواطئ جنوب إفريقيا أو جبال البوسنة!

يقول النص عن عرّابة:

"تقع عرّابا إلى الجنوب من الناصرة وهي بمثابة موقع سياحي رائع. وهي أشبه بقرية جميلة محافَظ عليها جيداً إذا نظرتَ إليها من الطريق العام، لكنها مليئة بالمشاهد التاريخية، بما في ذلك الأضرحة الكنعانية والمساجد العديدة (التي يرجع أحدها إلى القرن الثاني عشر). كما أن عرّابا موطن العديد من البدو النازحين في الشمال، والفنادق العديدة، ومواقع التريُّض في الأرياف تجعل من القرية مكاناً يستحق الزيارة."

ما هذا الهراء؟!

مع أنه من الممكن أن نوافق على القول بأن عرّابة "قرية جميلة محافَظ عليها جيداً"، إلا أنها بالتأكيد ليست "موقعاً سياحياً رائعاً" ولا هي بلداً سياحياً على الإطلاق. وعرّابة بالتأكيد ليست "مليئة بالمشاهد التاريخية" خصوصاً "إذا نظرتَ إليها من الطريق العام"، فمن الطريق العام لا تستطيع أن ترى في عرابة أية "مشاهد تاريخية" ولا أية أضرحة، بل عليك أن تبحث عنها داخل حارات وأزقة القرية.

ومع أن تاريخ عرابة يعود حقاً إلى الحقبة الكنعانية، فإن كل الأضرحة الموجودة في عرابة ليست كنعانية أبداً، وإنما هي أضرحة ليهود أتقياء من القرن الأول الميلادي ولصِدّيقين مسلمين من حركات الدراويش الصوفية.

وعرّابة نفسها ليست "موطناً للبدو النازحين في الشمال" وإنما هؤلاء البدو يسكنون في مواقع قريبة من عرّابة، في الكمّانة والحسينية ووادي سلّامة وعرب السواعد.

أما الحديث عن "الفنادق العديدة" في عرّابة فحو مضحك بالفعل، فليس في عرّابة فنادق، ولم تعرف القرية الفنادق في تاريخها كله، القديم والحديث، اللهم إلا خاناً تركياً عثمانياً توقف عن العمل في نهاية القرن التاسع عشر.

وأما "مواقع التريُّض في الأرياف" فلا أعلم ما هو المقصود بها وماذا يمكن أن تعني في سياق قرية عرّابة، وإن كانت عرّابة بالفعل "مكاناً يستحق الزيارة" فبالتأكيد ليس لهذا السبب.

في البداية شككتُ أن "دليل فلسطين" يقصد "عرّابة جنين"، خصوصاً وأن الفقرة تبدأ بالقول أن "عرّابا" تقع "إلى الجنوب من الناصرة"، وهذا خطأ لأن عرّابة البطوف تقع إلى الشمال من الناصرة وليس إلى الجنوب منها. ولكن لا، فالمقصود في هذا الوصف هو "عرّابتنا"؛ عرابة البطوف وليس عرابة جنين، لأن الفقرة تستمر فتقول: "وفي أعلى الشارع توجد قرية عربية جميلة أخرى هي دير حنا..."!

والغريب في الأمر فعلاً هو أنَّ مريم شاهين وكل مساعديها الأكاديميين الذين يتوخون "الدقة والنزاهة" يعتبرون "عرّابا" من قرى الناصرة مع أنها جغرافيا وإدارياً اعتُبرت منذ بداية الحكم العثماني في القرن الخامس عشر وحتى الحقبة "الإسرائيلية" الحالية من قرى عكا وليس من قرى الناصرة... قرى الناصرة هي الرينة والمشهد وكفر كنا وطرعان وصفورية وعين ماهل وعيلوط، أما عرابة ودير حنا وسخنين (وشعب وطمرة وكابول وغيرها) فهي قرى عكا، وهي "في جوار عكا" وليست "في جوار الناصرة".

سقطات أخرى:

هكذا يستمر "دليل فلسطين" الموسوعي الرائع بسرد أوصاف ومعلومات هي أبعد ما تكون عن الحد الأدنى من "الدقة والنزاهة"، فيرتكب أخطاء لا تليق بطفل من أطفال الجليل. في الحديث عن سخنين في صفحة 177 مثلاً، يقول الكتاب أن سخنين "تبعد عن الناصرة مدة 15 دقيقة فقط". مدة 15 دقيقة في ماذا؟! لا بد أن القصد هو مدة 15 دقيقة في طائرة هليكوبتر، لأن أبسط الناس في الجليل يعرفون أن سخنين تبعد عن الناصرة مدة 40-60 دقيقة بالسيارة أو الحافلة.

وفي الحديث عن "القرى الدرزية على قمة جبل الكرمل" (ص 124) يذكر الأساتذة العظام قرية دالية الكرمل وقرية "اليوسفية"! هكذا: "اليوسفية"!! وبالطبع القصد هو قرية "عسفيا"، ولكن اسم القرية يكتب بالإنجليزية "Usfiya" أو "Isfiya"، ولأن من قام بالترجمة أمّيّ فيما يخص المفردات الفلسطينية فقد أوصله ذكاؤه التأويلي إلى "اليوسفية"!

لقد قرأت هذا الكتاب من أوله إلى آخره، ووجدت فيه أخطاء وسقطات وإهمالات ومغالطات وانتقائيات يندى لها الجبين ويخجل منها أي أكاديمي جدي حتى وإن لم يكن فلسطينياً، وهي لا تنُمُّ سوى عن الجهل والاستهتار، والاستخفاف بفلسطين والفلسطينيين، والاستغباء للقارئ الأكاديمي والعادي من أبناء هذا البلد. وهذا يشمل كل أجزاء الكتاب؛ عن التراث والحكاية الشعبية، وعن الثقافة المادية وغير المادية، وعن الجغرافيا والتاريخ.

كثير من هذه الأخطاء يمكن أن يُعزى إلى الترجمة بكل هذا الاستعلاء والتحيُّز للغة الأصل (الإنجليزية)، ولكن الكتاب لا يذكر شيئاً عن ذلك، ولا يخبرنا من الذي قام بالترجمة وإن كان شخصاً واحداً أو أكثر، بل إنه يقدم لنا نفسه وكأنه كتاب عربي مبين. ولماذا التأليف بالإنجليزية ثم الترجمة إلى العربية في الأساس؟! أما كان كتاب موسوعي مفتاحي إعلامي كهذا يستحق أن يؤلف بلغة بلده وناسه ثم يُترجم إلى لغة جمهوره الغربي؟!

في النهاية، كلمة من القلب: كل الأسماء اللامعة للشخصيات الفلسطينية العظيمة والمؤسسات الفلسطينية العريقة، لا تشفع لهذا الكتاب ولا تفلح في إنقاذه من الحضيض الذي سقط فيه.

ما هكذا يُبحث في تاريخ فلسطين وجغرافيتها وثقافتها وإرثها الحضاري،

وما هكذا تقدَّم فلسطين إلى العالم!

مصلح كناعنة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى