الأحد ٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
رُؤى ثقافيّة «284» على خُطا المتنبِّي (2ـ2)
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

(دَرْسُ طريقِ هروبه وتتبُّعه ميدانيًّا)

 5-

إن السؤال المنهاجي الذي يستفزُّه ذلك البحث الجادِّ المتفرِّد الذي أنجزه (الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع)، تحت عنوان «على خُطا المتنبِّي (دَرْسُ طريقِ هروب أبي الطيِّب المتنبِّي من الفسطاط إلى الكوفة)»، (الرياض: كرسي المانع لدراسات اللغة العربيَّة وآدابها، 2017)»، هو:

أ المتنبِّي جغرافيٌّ أم شاعر؟

أ يهدف الشاعر عادةً إلى تقرير الحقائق والوقائع والمواضع الجغرافيَّة، أم إلى تصوير مشاعره بالكلمات، وقفزات خياله بالعبارات، والتطريب بهذه وتلك؟

إن أبا الطيِّب- وإنْ كان قد مَرَّ بتلك الطريق التي رسمها مؤلِّف «على خُطا المتنبِّي» أو بقريب منها، كما هو معلوم من أخباره ومن شِعره- لا نستطيع الجزم أن كلَّ ما قاله يماثل خطَّ سيره، كما تقوله لنا وثيقةُ رحَّالةٍ أو تقريرُ جغرافي. فالرجل يظلُّ شاعرًا، قد يستدعي ذِكر مكان لإيحائه التعبيري، أو لتساوقه مع صياغة بيت، وما ينبغي أن يؤخذ قوله مأخذ قول الإخباري؛ وليست تلك بغايته، ولا هي بصناعته، وإنما قد يوظِّف أسماء الأماكن لشِعريَّتها، وربما على السماع، لا أكثر. فإذا أضيف إلى هذا ما عُرِف عن أبي الطيِّب من الإدلال بمعارفه، والمباهاة بعِلْمِه، والمفاخرة بذاته، والمغالاة في وصف نفسه، ازدادت مشروعيَّةُ التحفُّظ على تفسير ما يورد في شِعره على أنه يعبِّر عن حقائق جغرافيَّة أو تاريخيَّة خَبِرَها واقعيًّا بالفعل. ولهذا يمكن أن نسأل، مثلًا: لماذا قدَّم المكان المُسمَّى (الكِفاف) على (كَبْد الوِهاد)، إنْ كان قد مَرَّ بالأخير أوَّلًا، حسب رسم الباحث لطريقه؟ أذلك للضرورة الشِّعريَّة؟ لقد كان بإمكانه القول:

رَوامي الكِفافِ ككَبْدِ الوِهادِ
وجارِ البُوَيرَةِ وادي الغَضَى

ليُفيد، بإضافته كاف التشبيه قبل الاسم «كَبْد الوِهاد»، مرورَه بكَبْد الوِهاد أوَّلًا، دون أن تؤدِّي ضرورةٌ شِعريَّةٌ إلى مخالفة الواقع المكاني. وما يليق بشاعرٍ بحجم المتنبي أن تقف ضرورةٌ وزنيَّةٌ دون أن يقول ما يريد كما يريد. وها نحن هؤلاء نجد له المخارج العَروضيَّة، لو أراد ترتيب الأماكن حسب مواقعها في شَمال الجزيرة العربيَّة. وكذلك في قوله:

ومَسَّى الجُمَيعِيَّ دِئداؤُها
وغادَى الأَضارِعَ ثُمَّ الدَّنا

فقد كان يُفترض أن يشير إلى (الأَضارِع) قبل (الجُمَيعِي)؛ لأنه متقدِّم في مكانه، وَفق خريطة الباحث. وقد علَّل الباحث، (ص170)، هذا التقديم والتأخير بضرورة الوزن. لكن لو تأمَّلنا لما وجدنا هنا ضرورةً أصلًا؛ فقد كان بإمكان الشاعر أن يقول:

ومَسَّى الأَضارِعَ دِئداؤُها
وغادَى الجُمَيعِيَّ ثُمَّ الدَّنا
أو
وغادَى الأَضارِعَ دِئداؤُها
ومَسَّى الجُمَيعِيَّ ثُمَّ الدَّنا

فالوزن (المتقارب) لا يختلُّ، قدَّمَ الشاعر أو أخَّر، ومَسَّى أحد هذين الموضعَين أو غاداه.
لقد جاءت القصيدة في وزنٍ من أسهل الأوزان على الشعراء وأكثرها غنائيَّةً، وإنْ لم يكن الشاعر «متنبِّئًا». وهو وزنٌ مِطواعٌ للتعبير عن موضوع القصيدة، من جهة، مصوِّرٌ حركة الإبل والخيل، بين مِشْيَة الخَيْزَلَى والهَيْذَبَى، من جهةٍ أخرى. كما أن القافية على رويِّ الألف قد جعلت القصيدة تبدو كأنها من الشِّعر المرسَل؛ لأن هذا الرويَّ- وإن كان جائزًا اتِّخاذه رويًّا، ما لم يكن للمدِّ- هو في العربيَّة في جُملةٍ من أكثر مفرداتها، يأتي في الفعل: «مضَى»، مثلًا، والاسم «الهَيْذَبَى»، والمصدر «غِنَى»، والحرف «ذا، وها، لا». وقد يكون أيضًا ذا أصلٍ واويٍّ أو يائيٍّ أو ألفيٍّ. ولهذا فتلك أسهل تقفية على الإطلاق؛ حتى إن القارئ يكاد لا يشعر بالقافية في القصيدة، للِين الرويِّ، وسكونها، وتنوُّع الحرف قبلها بتنوُّع كلمات القافية. ولو كان أبو الطيِّب كـ(أبي العلاء المعري)، في حساسيَّته الموسيقيَّة المفرطة، للزم ما لا يلزم، كي يُسنِد رويَّه بالتزام حرفٍ قبله. فلا ضائقة وزنيَّة بقيت أمام المتنبِّي، إذن، ولا تقفويَّة، ولا ضرورة لشاعرٍ بعد هذه البسيطة الإيقاعية، التي تُشبه دماثة الصحراء وانبساطها أمامه. ومن هنا، فلو ابتغى أبو الطيِّب ترتيب أسماء المواضع حقًّا، وَفق مواقعها الجغرافية، لتأتَّى له ذلك بيُسر، كما مثَّلنا آنفًا.

لذا ما ينفكُّ التساؤل قائمًا عن مرور الشاعر حقيقة بجميع المواضع التي أشار إليها في قصيدة فراره من (مِصْر)، وبالترتيب نفسه المذكور في دراسة الباحث. بل أكثر من هذا: التساؤل عن مدى معرفة أبي الطيِّب بتلك المواضع، ما دامت المادةُ التي بين أيدينا لا تعدو قولَ شاعر. وممَّا يؤكِّد هذا إشارةُ الشاعر إلى (عُقدة الجَوف)، على أنها موردُ ماء، في حين أن عُقدة الجَوف هي (أبارق)، كما ذهب إلى ذلك (حمد الجاسر)، وهي التي عناها أبو الطيِّب. وهذا المكان لا ماء فيه ولا كلأ، بل هو صحراء قاحلة، كما ذكر الباحث! (ص173). ولو صحَّ أن عُقدة الجَوف هي (دُوْمَة الجندل)، كما ذهب إلى ذلك الباحث، لكان السؤال: كيف شربت إبل المتنبي «بماء الجُراويّ» وهي في عُقدة الجَوف، أو دُوْمَة الجندل؟:

إِلى عُقدَةِ الجَوفِ حَتّى شَفَتْ
بِماءِ الجُراوِيِّ بَعضَ الصَّدى

لأن الجُراويَّ يصبح وراءها حين تصل إلى دُوْمَة الجندل! ثمَّ كيف رجع الشاعر حين وصل إلى الجُمَيعِيّ، وهو موضعٌ على حدود (العراق)، إلى الأضارع، وهو مكان يقع قبل دُوْمَة الجندل؟! ليقفز من هناك فجأة إلى (أعكُش)، في العراق:

ومَسَّى الجُمَيعِيَّ دِئداؤُها
وغادَى الأَضارِعَ ثُمَّ الدَّنا
فَيا لَكَ لَيلًا على أَعكُشٍ
أَحَمَّ البِلادِ خَفِيَّ الصُّوَى

لا تفسير لهذا كلِّه، إلَّا بالتسليم بأن الشعراء يقولون ما لا يفعلون، وأنهم في كلِّ وادٍ يهيمون، ومَن يتَّبعهم مِن البُلدانيِّين، محتكمين إلى أقوالهم، هم الغاوون!

من أجل هذا، كنتُ وما زلتُ، أرى في البحث في شِعريَّة الجغرافيا ما هو أجدى من الانشغال بالجغرافيا الواقعيَّة عينِها(1)؛ يقينًا بأنه يكمن وراء اختيار الشاعر للأسماء ما هو أبعد من ظاهر معناها، إنْ لم يكن في وعي الشاعر فهو بلا ريب في وعي النصّ. من حيث إن منهاج التمسُّك بواقعيَّة الإشارات الشِّعريَّة المطلقة لا تنحصر خطورة نتائجه أحيانًا في إفقار شِعريَّة النصّ، بتحويله إلى محض وثيقةٍ واقعيَّةٍ، بل قد تتجاوزه إلى تمزيق النصِّ إربًا في سبيل التحقيق الجغرافيّ؛ لأن أسماء الأماكن، هي- قبل كلّ شيء- مفرداتٌ شِعريَّةٌ، يصرِّفها الشاعر وَفق مقتضياته الدِّلاليَّة، من فنيَّة أو رمزيَّة، كحالِ كلِّ ما تَحوَّل عن طبيعة الواقع إلى طبيعة الفن. وفي هذا ما يجيب عن حَيرة الحائرين: أين (وادي القُرَى) المقصود في قصيدة المتنبي؟ وأين (وادي المياه)؟ وما علاقة أحدهما بالآخَر؟ وإلى أين كان ينوي المتنبي التوجُّه؟ لقد كان المتنبي ينوي التوجُّه إلى الشِّعر وحده! وتلك أسئلةٌ جغرافيَّة، لا محلَّ لها في الشِّعر، في حقيقة الأمر، ظلَّت تتردَّد لدى الدارسين مع الشعراء حين يتناولون بشِعرهم المواضع! وسبب الحَيرة أن هذه المفردات تَرِد على ألسنة الشعراء لأسباب فنيَّة تخييليَّة، لا علاقة لها بالواقع بالضرورة، في حين يُصِرُّ البُلدانيُّون على نفي طبيعة النصِّ الشِّعري ووظيفته، ليجعلوا منه وثيقةً جغرافيَّة. وهو ما كان قمينًا أن يُفسد قراءات الشِّعر من ناحية ويُفسد كتب البُلدان المتكئة على الشِّعر من ناحية أخرى.

وأمَّا الاحتجاج بما جاء في خبر هروب المتنبي، فأغلب الظنِّ أن ذلك الخبر بُنِيَ على ما وردَ في شِعر المتنبي نفسه، وكثيرًا ما كانت القصص الإخباريَّة تُبنَى على القصائد في تراثنا العربي، منذ قصة (المهلهل/ الزير سالم) إلى خبر هروب (أبي الطيِّب المتنبي).

 6-

ختامًا، يُلحظ أن المؤلِّف ربط بين قِصَّة هرب المتنبي، بما أضفيت عليها من لمسات خياليَّة، وقِصَّة هجرة (النبي، صلى الله عليه وسلَّم). لكن الأقرب من هذا إلى الاحتمال الربط بين تلك القِصَّة وقِصَّة نَبِيٍّ آخر، هو (موسى، عليه السلام)، وهروبه من (فرعون مِصْر)! غير أن عملَ الباحثِ القيِّمَ نفسَه لم يخل من تعظيم أبي الطيِّب والدهشة لإفلاته من براثن (كافور الإخشيدي)! وإنْ كانت لا تبدو في مثل هذه الحادثة درجةٌ عُليا من الغرابة، فضلًا عن الإعجاز أو الخوارقيَّة. فأمثالها تحدث في كلِّ زمانٍ ومكان، حتى في عصرنا هذا، على الرغم من تقدُّم وسائل المراقبة وسرعتها غير المسبوقة في التاريخ. وإنما يستدعي الأمر درجةً من الفطنة والتضليل والأعوان، وهو ما توافر لأبي الطيِّب.

(1) وهو ما يَلمحه بعضُ القدماء، على نحوٍ ما، ولاسيما باضطراب العلاقة بين أسماء الشِّعر وأسماء الجغرافيا، يُنظر مثلًا خَبَر (ابن المناذر): (الأصفهاني، (2008)، الأغاني، تحقيق: إحسان عبّاس وإبراهيم السعافين وبكر عباس (بيروت: دار صادر)، 18: 130- 131).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى