السبت ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٢٠

رثاء وطن

عبد الملك بومنجل

لِمن وطنٌ أبصرتُه فشجاني
وأدركتُ من أسراره فدَهاني
وطالعتُ منه حُرقةً شَجَنيةً
وطالعَ منّي مكرماتِ زماني
فأجهشتُ بالأشجان حين رأيتُهُ
وأجهشَ بالأشواق حين رآني
فكابدتُ جرحي، ثم لملمتُ عبرتي
ورُحتُ أواسي جرحَهُ بلساني :
أيا وطنا من كبرياء حضارةٍ
ومن تربةٍ موفورة الخفقانِ
ومن ثورة أهدى لها الكون شمسَهُ
وأهدى لها من سحرِه القَمرانِ
ومن كوثرٍ ينسابُ بحرا، ويرتمي
سهولا، وتبرا ساحرَ اللمعانِ
ومن مرمرٍ يفترُّ نبضا، ويرتوي
منابعَ دُرٍّ دائمِ الفورانِ
أراكَ، وفي العينين غمٌّ وحيرةٌ
كأنّ بكَ الضدّين يعتركانِ
أرى جسمك المهزولَ تعلوهُ صُفرةٌ
كأنّ به جرثومةَ السرطانِ
أراكَ أسيّا، كالح الوجهِ، شاحبا
وقد زاغت العينان والقدمانِ
فيا وطني المَكروبَ: ما لكَ والأسى؟
أما زلتَ مكرَ الغادرين تعاني؟
أما زال فيك القومُ سودٌ دماؤهم
وحُمْرٌ تواريخٌ لهم وأماني؟
أما زال فيك النهشُ يغرزُ سُمَّهُ
ففي كلِّ وكرٍ مِخْطَفٌ ويدانِ؟
أيا وطني المسلوبَ: ما لَكَ والأسى؟
وكيف أقمتَ الآن دارَ هوانِ؟
أجبني، وكفكِفْ يا أخي جرحَكَ الذي
أصابَ سوادَ القلبِ حينَ رماني
أجبْني، أنا تاريخك المزهرُ الذي
بنى أُسَّه، ثم ارتقى، العُمَرانِ..
فلم يستطع كفّا عن الحرقة التي
لها في دمي قلبان يحترقان
ولكن أقام الإصبعين كليهما
وأومأَ: إني والأسى أَخَوانِ !
فهاجَ جراحَ القلبِ منّي إشارةٌ
وسالَ على الخدّينِ نهرُ بيانِ:
أنا يا أخي رمزُ البشاشةِ، إنما
أحالَ حياتي مُرّةً رجُلانِ :
 لئيمٌ أقامَ الجورَ في الحكمِ شِرْعةً
وراحَ يُديرُ الحكمَ بالرَّوَغانِ
يحيط زوايا حُكمِهِ بحُصونِهِ
ويفتكُّ مني تُربتي وزماني
فتُرْبي يُبيحُ الناهبينَ ثمارَهُ
فيمتدُّ منها للجهول مَبانِ
ويمتدُّ فيَّ الجوعُ والرَّوعُ والأسى
وتغرسُ فيَّ النائباتُ هواني
وعُمري يبيعُ الماكرينَ جيادَهُ
ليعزلَهُ عمّا بنى العُمَرانِ
ألمْ ترَ كيف انهدَّ في الكون رايتي
وغابَ بريقُ المجدِ عن خفَقاني
وكيف استقلتْ عن جذوري ملامحي
وبُوعِدَ ما بيني وبين لساني
وكيف استقرّتْ في عروقي دماؤهم
وكيف كبا في الفارغات حصاني
وكيف استمرّت لوثةُ الغدرِ في دمي
وكيف أضاعَ المارقون كياني؟
وكيف..؟ ولا تسألْ عن الحُرَقِ التي
يُكابدُ كُلٌّ جمرَها ويُعاني:
فراغٌ، وفَقرٌ، واكتئابٌ، وفتنةٌ
وبحرٌ من الأحزانِ أحمرُ قانِ!
بذا ساسَني القومُ الذين أَحلّهم
عليَّ الذي لم يغتفرْ ثوَراني
فأوهمني ما رُمتُ ثم أحالني
على من يدير الحكم بالروَغان!
 وغِرٌّ قضى في نومِه طولَ يومِهِ
وقد كان يُرجى أن يثورَ لِشاني
وأن يستردَّ الروحَ أرهقَها الأسى
وأن يستفزَّ الرافضين هواني
وأن يستمدَّ العزمَ من شُرُفاتهِ
ليسعفَ حالي أو يردَّ كياني
لقد كان ذا يُرجى، ويا لتعاستي:
فقد خاب فيمن قد رجوتُ رهاني!
بُليتُ بشعبٍ من رمادٍ، ونُخبةٍ
مُهلهَلةٍ لا تستقيمُ لِبانِ
إذا خاطبَ العزمُ الرمادَ رأيتَهُ
يموجُ بأوهامٍ له وأغانِ
وإن خاطبَ القومَ المُسَمَّينَ نُخبةً
بَصُرتَ بجندٍ للهوى وغوانِ
ألستَ ترى شعبا يراود خبزَهُ
بكدحٍ يقاسي ذلَّهُ ويعاني
ويعرف أن الشاربينَ دماءَهُ
فشا شرُّهم واجتاحَ كلَّ مكانِ
ولكنه يُلقي إليهم بحبلِهِ
إذا ما لغا اللاغي بيوم رهانِ!
بيومٍ يمُدُّ الوهمُ فيه ذراعَهُ
ويمتدُّ فيه للدجى فَرَحانِ..
بيومٍ يشدُّ الليلُ فيه خِناقَهُ
على بلدٍ يشتاقُهُ القمَران!
فيا أيها التاريخ عذرا فإنني
أطالَ هواني، بل أضاعَ كياني
لئيمٌ أصابَ القلبَ مني سهامهُ
وغِرٌّ تخلى عن يدي ورماني
فها أنذا بين اللئيمينِ ثورةٌ
أقامت برغم العزِّ دار هوانِ
وها إنني والمكرماتُ شهيدةٌ
تُمدُّ إليكم للنجاة يدانِ!

عبد الملك بومنجل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى