الثلاثاء ١٩ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم محمد زكريا توفيق

رسائل من مصر «الفلاح المصري»

نشأ جون نينيه (1815-1895م) في مدينة جنيف. بدأ في اقتفاء أثر ملك القطن من ميناء هارفر وحتى جورجيا. هناك تعلم نينيه كيفية إنتاج أفضل أنواع القطن.

استقر نينيه في دلتا النيل كمزارع ومصدر للقطن وصحفي. في الوقت الذي كانت قناة السويس، التي تم حفرها حديثا، تقع بالقرب من مزرعته.

كان يعيش نينيه بالقرب من الفلاحين المصريين. وراح يتابع بكل دقة جميع الخفايا التي تتعارض مع حقوق الإنسان. أرسلها في صورة رسائل من مصر في الفترة الحرجة بين (1879-1882م) لصحف فرنسية وإنجليزية وسويسرية منها التايمز.

هذه الرسائل تعتبر تحقيقا مهما حول مصر قبل الاحتلال البريطاني عام 1882م.

كتب لنا جون نينيه عن الفلاح المصري في كتابه رسائل من مصر ترجمة الأستاذ فتحي العشري يقول:

قمت بجولة داخل مصر ومررت بأفضل أقاليم الوجه البحري. في كل مكان من هذه الأرض الغنية بالطمي، والتي لاتستطيع أن تفصح عما ارتوت به من عرق وجهد مضن لإنتاج محاصيل وفيرة من القطن وغيره.

في كل مكان، ظهرت على وجه الفلاح المصري قسمات أنهكها الاستياء والبؤس. غير أن المصري بطبعه ليس نكد المزاج، يأخذ مشاكل هذا العالم بهدوء يحسد عليه، ربما بسبب تدينه العميق.

الأسرة من الفلاحين التي تستطيع أن تعيش على خبز يومي جاف أسود وبعض المش، إلى جانب بصلة كبيرة مخللة، هي في الواقع ليست أسرة فقيرة بالقياس بغيرها من عوام الفلاحين.

هذه الأسرة لا تمتلك أثاثا، إذ يقوم الحصير مقام السرير. أدوات المطبخ من الفخار متناثرة حول كوخ من الطين، يتكدس فيه الأب والأم والأبناء بلا نظام، عندما يأتي الليل ويحل الظلام، مع نباح كلب بدون داع ولا هدف.

فلا هناك شيء يستحق السرقة، لقد أخذ جباة الضرائب والمرابين كل نقوده ولم يبق له منها شيئا. أما الملابس فالزي هو زي الفقر الموحد، لا يتغير أو يتبدل، من العيد للعيد.

لم تعد الأمور كما كانت بالأمس. لقد غادرت البشاشة الهادئة الوجوه السمراء. وسقط طفل النيل وحفيد الفراعنة تحت وطأة نظام لم يترك له سوى عينين للبكاء.

إلا أن الدموع الصابرة في صمت، والتي تقاسي منذ ألفي عام بدون شكوى تثير الشفقة والإعجاب. ينتزع الكرباج صرخاته عندما يلقي المسكين نظرة على أقدامه المتورمة والدامية. لقد كان أجداده يعاملون فيما مضى بالطريقة نفسها، وكأن القدر يأبي إلا تخليد هذا النظام الكريه.

إن وضع الفلاح المصري غير محتمل. عما قريب لن يستطيع هذا الفلاح أن ينتج محاصيله. فهناك المديرون وجباة الرسوم والضرائب. ومن ناحية أخرى، هناك المرابون الأجانب الذين يقرضونه المال لزراعة حقله وتسديد ما عليه من ضرائب.

يدفع الفلاح المقترض ، بعد أن يقدم ضمان رهني، فائدة تتراوح بين 2.5 و 10% شهريا. ويكون موعد السداد مع جني المحصول أو قبله. ليس أمام الفلاح حق الاختيار، فحينما يطلب المرابي، لا يكون هناك مجال للتأجيل. وإلا تنهال ضربات الكرباج وتفتح السجون وتبكي النساء وتصرخ الأطفال.

هذا ما ينبغي ذكره والاعتراف به. فالشر يرتكب والجروح بشعة وغائرة. وممولونا مرهفو الحس الخيرون لا يرون هذا الأمر. لأن هذا يصدم أحاسيسهم وأعصابهم. على كل، الفلاحون المصريون في كل العصور، قد ولدوا كي يملأوا خزائن الحاكم، ليس إلا.

قد يحدث، وقريبا، ألا ينفذ الفلاح تعهداته. إما لنقص النقود أو المنتج. فالأعوام ليس دائما كريمة، خصبة أو رحيمة. عندئذ تتضخم الأرقام بدفاتر المرابين. فتصبح المئة جنيه إسترليني، 200، و 300، و 400، أو 500، بل وألف جنيه.

يترتب على ذلك استدعاء القانون. والحكومة غائبة عن الساحة. بسرعة شدية يجد الفلاح المصري المسكين نفسه وعائلته وقد ألقي بهم على قارعة الطريق.

إذا ما استمرت تلك الأوضاع ولم يحدث علاج سريع، فإن نصف الفلاحين أو ما يزيد عن ذلك، سيجدون محاصيلهم قد تم الحجز عليها قبل جمعها.

أسوأ ما في الأمر، هو أن غالبية المرابين هم من مواطنو الدولة العثمانية، من غير المصريين، المتمتعين بالحماية الأوروبية. وأن أصحاب هذه الوظيفة، أثروا بشكل هائل.

لقد كان أحد الفلاحين البؤساء يقوم بالأمس بدفع مبلغ 52100 جنيه استرليني سدادا لقرض تبلغ قيمته الأصلية 500 جنيه.

إن الأرض هي كل شئ بالنسبة للفلاح. جاموسته وأرضه وعائلته هم كل شئ. بالنسبة له، هذا أقصى ما تبلغه السعادة الإنسانية. فما الذي يتبقى لديه إن فقد أرضة وجاموسته وتشردت عائلته؟

انتهت رسالة جون نينيه عن الفلاح المصري في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

فهل فلاح اليوم بأسعد حالا من فلاح الأمس؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى