الاثنين ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم بوعزة التايك

رقصة الحياة والموت

1

وهو في مركز التعذيب تذكر فجأة قلبه فتفقد ما بداخله. وكم بكى من الفرح لما رأى عندليبا يراقص وردة وهما يرددان: لتحي الحرية. وخوفا عليهما من أنياب الجلاد وشفتيه الحديديتين، أقفل باب قلبه بسرعة ليهدي ظهره للسياط.

وهو نائم بالزنزانة خرجت كلمة "حب" من قلبه وبصقت على قلب الجلاد ثم عادت إلى مكانها لإتمام أمسيتها مع الحبيبين الغاليين.

وأنا جالس بالغرفة 2217 رأيت ملاك الموت يقترب من عبد الفتاح فاكهاني والخجل يتصبب من منجل حصاده لأن حلمه كان القضاء على الجلاد منذ الليلة التي رآه فيها يبصق على صورة ابنته لأن حبها له وتعلقها به يزعجه. ولأن ملاك الموت لا اختيار له، انقض على صديقي ورفيق مساري وساقه إلى ساحة العدم والإعدام غير عابئ لنواح العندليب وحزن الوردة وانتحار كلمه"حب" على صخرة القدر الذي لا راد لحمكه.

وهو في القبر وظلام الوحدة فتح عينيه جيدا ليرى من يجاوره.رأى فراشة تهش على قلبه بجناحيها وهي تردد: لا تخف.أنا جارتك فراشة الحرية. فنم قرير العين والخلود يا فاكهاني.

2

كم كد وجد وعمل وسامح وتسامح ونسي وتناسى. كم تفهم وتعالى وصبر وتغاضى وتجاوز عن الأخطاء. ولما اقترب من الستين كم فرح لأن ساعة استراحة المحارب قد حانت فراح يحلم بالراحة والابتعاد عن النقاش حول الحداثة والديمقراطية والإنصاف والمصالحة. راح يحلم بالعيش في غابة توجد بين جبلين قمتاهما تصلان إلى السماء.

كم تعب من الإنصات إلى أصوات الغربان وكم صار يحلم بالاستماع إلى أغاني وقصائد العنادل. كم حارب و ناضل وضحى. كم تحمل بصمت.

هو الآن يستعد للتقاعد وبرنامجه الوحيد: الوحدة والاستمتاع بشغب ولده وابتسامة زوجته ودعوات أمه ذات القلب الملائكي.

ناضل، عذب، قضى في السجن أربعة عشر عاما دون أن يتفوه بكلمة في حق جلاديه. كان فقط ينظر إليهم قائلا في نفسه: اللهم أرزق ذويهم الصبر لأن حدة أنيابهم النارية تذيب الحديد و الجبال.

مورست عليه أفظع أنواع التعذيب ولم يطلب ولو درهما كتعويض. لم يطلب لا بيتا ولا منصبا.

تعذب صديقي عبد الفتاح فاكهاني كثيرا وقرر القدر أن يعذبه أكثر فمات قبل بلوغه سن التقاعد بثلاثة عشر يوما !

مات وهو يرى أحلامه تحترق أمام عينيه والعندليب يقسم أمام النهر الخالد أنه لن يغني إلا فوق قبره.

3

لا تهتم بالوقت فلنا الأيام والليالي. لنا الشهور والأعوام والقرون لنتعرف أحسن، قال الجلاد لعبد الفتاح فاكهاني الذي لا يحب التعليق على كلام الناس احتراما لحقهم في التعبير. ترك الحرية للعندليب كي يجيب الجلاد.

هاكم يا أحرار العرب ما قاله: حتى أنا لا أهتم بالوقت.. فأنا أغني مع أمواج بحار الحرية منذ الأزل وسأجعل من آهات وألم فاكهاني أنشودة تطير النوم من عينيك يا جلاد وتحرم غربانك من التحليق فوق بلاد العرب.

سأغني ما أشرقت الشمس على قبر فاكهاني وما داعب الشاعر قلب القصيدة وما عاشت الكلمات.

4

هو يئن وهي تعد كم مرة قبلته منذ زواجهما. هو يذرف آهات الوداع وهي تذرف ألحان السعادة التي عاشتها معه. هو يلقي آخر نظرة على متحف قصتهما وهي تلقي بدقات قلبها على روحه.

يهمس لها بقلبه وتهمس له بقصيدة حبهما.ينظر إليها بعينيه الغائبتين وتنظر إليه بسويداء قلبها.

كانت بجانبه وهي الآن واقفة تشير إليه بقبلاتها ساعة ولوجه نفق النهاية.

5

في رمشة عين ولد فاكهاني ودرس وناضل وسجن وأطلق سراحه وتزوج ورزق بابنه أنس ومات في حضن أحلامه.

في رمشة عين أصبح اليساري يمينيا عتيقا واليميني مثالا يحتدى به. في رمشة عين أصبح المعتقل السياسي السابق يصافح الجلاد ويرقص معه فرحا ببزوغ فجر جديد.

في رمشة عين تشتتت مجموعة المونا ليزا وأصبحت رماد ذكريات وأهات زمن ولى إلى الأبد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى