الأحد ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠

رواية «عذبة» لصبحي فحماوي وحتمية العودة إلى فلسطين

محمد حسن عبد الله

الإهداء الذي تصدّر رواية صبحي فحماوي الأولى (عذبة-2005)، وهو العتبة الثالثة، بعد لوحة الغلاف والعنوان، ونصه:"إلى عمي عبد الرحمن الحسن، الذي بقي هناك تحت شجرة البلوط الكنعانية العملاقة"(10). وسيتردد وصف شجرة البلوط الكنعانية العملاقة غير مرة (ص48، 52) والرواية تعرض للكفاح الفلسطيني إبان زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى. ذلك الانتداب الذي مارس التمكين لليهود المهاجرين إلى فلسطين، والتضييق على أهل البلاد من العرب، مما استدعى قيام جماعات مقاومة مختلفة، منها: تلك الجماعة التي قادها أبو درة، وكان من مجاهديها عم الكاتب، الذي جرى إعدامه ورفاقه، ودفنهم تحت تلك الشجرة الكنعانية العتيقة.

ولنا مع رواية"عذبة"وقفة تستحقها، فهي تمثل"روعة الاستهلال"الروائي عند هذا الكاتب، و"جوف الفرا"الذي يحتوي في باطنه كل أنواع الصيد(11) إذ يقول الراوي (عماد المنذر) في رواية"عذبة"لصبحي فحماوي، أن (عنان) هاجر إلى بلاد النفط في بداية شبابه، وحمل جنسيتها، فشغل منصباً مرموقاً، ولكن تجاوزاً غير مقصود جرده من العمل وجرّده من الجنسية، فأصبح لزاماً عليه أن يتذكر أصله الفلسطيني، وأن يتخذ إجراءً يعيده إلى فلسطين، ولكن ما السبيل وجدار الفصل العنصري حاجز يصعب اجتيازه لفرد، ومن المحال أن تتسرب من خلاله عائلة؟! هنا يأتي الاقتراح/الشطحة::"صار عنان يفكر في العودة من جديد، ولكن كيف يعود؟ فكل السبل مسدودة؛ والجدار العازل حول فلسطين مقوى من الجانبين! وحتى لو عاد هو فماذا..؟ فكر في الجيل القادم وسألني ذات صباح: ما رأيك يا عماد لو زوجنا كل أولادنا وبناتنا إلى بنات وأولاد أهلنا في الأرض المحتلة؟ ما رأيك بشبابنا وصبايانا المنزرعات بمنازلهن في حيفا ويافا والجليل والقدس؟ ما رأيك في أن يلتقي الشباب والشابات على سنة الله ورسوله بالأحضان، فيتزوجون و... كنت أنا أول المؤيدين لهذه الفكرة الحتمية..العودة إلى فلسطين عريساً أو عروساً، ولم لا؟ ألست أنا أقدم من انتظر حبيبته"عذبة"منذ أكثر من خمسة وأربعين سنة؟ فكر عنان كثيراً بالأمر وقال لي: سأبحث لهم هناك، وسأزوجهم داخل فلسطين48، ليعيشوا فيها ويخلفوا أبناءً وبناتاً داخل الوطن"!!

فهذا حل (مستقبلي) آخر، قد يبدو أقل غرابة من التحول العلمي للخلية، ولكنه ليس دونها واقعية، وامكاناً للتحقق!!

تعليق في منتصف الطريق:

سبقت الإشارة إلى أن الكاتب الذي لم يغادر الموضوع الفلسطيني، كان يضع بين عينيه جوهر قضية وطنه السليب، وما يعاني أهله من محن، ما بين الاعتقال داخل الوطن، والشتات خارجه!! كما سبقت الإشارة إلى أن عناصر بناء الرواية: الزمان، والمكان، والشخصية، والحدث.

هذه أمور مستقرة بكونها تمثل (الهيكل العظمي للرواية).. أية رواية!! وقد اعتمد القسمان السابقان على عنصر الزمن، إذ عاد أولهما إلى الماضي السحيق، يكشف عن كنعان ويمجده، ويظهر أثره العميق على حضارات العالم، وكأنما يتلمس الروائي عنده (تذكرة عبور) إلى العصر وإلى فلسطين خاصة، مانحاً أهلها العرب حقهم التاريخي الموروث. واستشرف ثانيهما الزمن الآتي، فضرب في المجهول حتى رصد التحولات الممكنة، فاختار من بينها ما يعيد تشكيل هوية الإنسان، وعلاقته بسائر العناصر والكائنات. فكان الخيال العلمي الذي أوصله إلى الإنسان الأخضر (الثالث) الذي اعتنق البراءة، وتحرر من كل أدران الحضارة، حتى وإن كان كيانه يعتمد على أحد منجزات تلك الحضارة!! ومن ثم لم يعد – في عنصر الزمن – غير الزمن الراهن أو القريب، وهنا يتجلى العنصران الآخران من خلال الشخصيات والمكان. وإذا كان المكان (الجغرافي) محدداً بأرض فلسطين، وهي المرتكز، لتتوالى دوائر الأماكن قرباً وبعداً عنها، جغرافياً أو تأثيراً ؛ فإن الشخصيات لن تذهب بعيداً عن هذه القسمة ذاتها، فشخصيات الرواية يحتل فيها الإنسان الفلسطيني مركز الدائرة، ومن بعده تختلف النسب والاتجاهات ما بين العرب الأقربين (مكاناً أو نسباً) وغير العرب بمن فيهم أولئك الذين اغتصبوا أرض فلسطين، وأكرهوا جانباً من أهلها على مغادرتها قسراً، بطرق مختلفة.

الاتجاه الثالث: حلم الصحوة القومية:

هناك عبارات مأثورة متداولة بين أبناء فلسطين (جيل 1948– وشهرته: جيل النكبة) ؛ فعلى الرغم من أن خطة دولة الانتداب البريطاني على أرض فلسطين، وإعانتها للصهيونية العالمية كانت واضحة ولا يُختلف علي ما يتوقع منها، فإن أهل فلسطين قد تجمعوا، وتسلحوا في حدود قدراتهم الهزيلة، ودون فرض تنظيم صارم يحمي الحقوق ويتصدى للموجة العاتية، بمقاومة متكافئة مع الفعل ذاته. وقد أدرك اليهود نقاط الضعف في الوجدان العربي، فأمعنوا في الإعلان عن الفظائع التي يرتكبونها إذا استولوا على موقع، لتكون النتيجة: رحيل المواقع التالية، تفادياً لهذه الفظائع، وبخاصة ما يتعلق بالنساء، وشرف البنات والزوجات!! وفي هذا السياق تتردد العبارة المأثورة وهي أن قادة الجيوش العربية التي اجتازت حدود فلسطين منتصف ليل 15 مايو 1948 هم الذين أغروا المقاتلين وكافة أبناء فلسطين بالرحيل عنها، ليتاح للجيوش أن تقاتل العدو الصهيوني (دون رهائن)!! وليس في مقدورنا ولا يطلب منا أن نستوثق من صحة هذا القول، أما ما ترتب على النزوح فإنه أدى إلى تسليم الكثير من المواقع للأعداء دون قتال، وهذا جعل من مهمة الجيوش العربية عملاً شاقاً، وبخاصة مع ضعف التدريب، وهوان التسليح.

مع هذا فإن عرب فلسطين الذين نزحوا عنها لم يكن أمامهم – مرحلياً- غير النزول في مخيمات اتخذت لها مكاناً، فيما بقي من أرض فلسطين، أو في المناطق المجاورة لها. لقد عنيت روايات فحماوي برصد هذه الفترة الزمنية، بكل ما تنطوي عليه من ضياع، وعناء، وقهر، وشعور بالغربة والعجز، واختفاء أسباب الرزق وسبل التعليم. لقد صور صبحي فحماوي هذه الجوانب، لا نبالغ إذا قلنا إنها حاضرة في كل رواياته، وإن اختلفت مساحة الاهتمام، ومدى تجذرها في موضوع الرواية. وسنعرض لبعض صور هذه المعاناة على فظاعتها، وما أكسبت – من وجه آخر- الفلسطيني: المرأة خاصة – من طاقة مقاومة الضياع، والدفاع عن كيان الأسرة بما يستدعي من الاحتيال على مصادر الرزق، وتدبير طرق لتعليم الأطفال، وتدبير بدائل وظيفية وثقافية.. إلخ.

وقد اخترنا عنواناً لهذه الفقرة"حلم الصحوة القومية"، فالمعروف أن أرض فلسطين كانت الأكثر سخاءً، وأهلها الأكثر ثراءً وتقدماً من بين أقاليم الشام، ولهذا كان يرحل إلى بلادهم الكثير من جيرانهم في لبنان وسورية خاصة، وهؤلاء الجيران هم الذين تبنوا الحلم القومي قبل غيرهم، ولكن بفعل النكبة أصبح أهل فلسطين (النازحون) الأكثر تعلقاً بحلم الصحوة القومية، بعدّها أحد المفاتيح المهمة لولوج المستقبل، سواءٌ بطرد اليهود من فلسطين، أو بحملهم حملاً على قبول حق العودة للنازحين. سيعاني الحلم القومي موجات من الصعود والهبوط ما بين الثورة المصرية(1952)، والوحدة المصرية السورية، والانفصال، وثورة اليمن، والنكسة(1967).. إلخ. غير أن عوامل إحباط هذا الحلم القومي كانت أكثر تأثيراً ومثولاً من عوامل استلهامه والعمل بمقتضاه لدى الفلسطينيين. فلا يغفل صبحي فحماوي عوامل الإحباط والتفرقة بين الفلسطينيين أنفسهم في معاملة جيران فلسطين لهم، الذين حملوا منذ البدء صفة"لاجئ"، ومنحوا بطاقات، وكما تقول الرواية الأولى:"عذبة"– ص77:"إن وكالة الغوث أعطت المئونة والغوث لللاجئين أهل المدن وأهل القرى، وحرمت منه البدو؛ إذ قالوا يومها: لم يكن للبدو ارض يفقدونها، فهم رعاة متنقلون في مرج ابن عامر، وصحراء النقب، وبئر السبع وغيرها، ولذلك فهم غير متضررين من الهجرة!!"والمفارقة المحزنة حقاً أن هؤلاء البدو، الذين وصفوا بأنهم لم تكن لهم أرض يفقدونها كانوا الأكثر تضرراً، لأن هذه المناطق ذاتها – المتاحة والمباحة لهم سابقاً: مرج ابن عامر.. إلخ. أصبحت بيد الدولة اليهودية، التي لن تأذن لهؤلاء البدو بالإقامة بها! هذه التفرقة التي مارستها وكالة الغوث، لم تكن بعيدة عن أساليب أخرى للتفرقة مارستها الدول العربية المجاورة لفلسطين والبعيدة عنها على السواء، وهكذا أصبح يمكن أن يقال:"أنت وطني ولا لاجئ؟"(16). وفي رواية"حرمتان ومحرم"يصطدم اللاجئ المسافر للعمل في بلاد النفط، بدرجة من الجفاء والاستهانة تجعله يرى أن (العربي على العربي مثل الشحم على النار)!!(17). كما يُحبس الفلسطينيون في الحافلة انتظاراً لقدوم السفينة، فلا يؤذن لهم بالتريض خارجها، ويسمعون بآذانهم هذه العبارات: (انتم عرب جرب وغير حضاريين)(18)... (بلا مؤاخذة معظمكم فلسطينيون، وغير مسموح لكم بالنزول على سطح القمر، أسف على سطح الأرض، خوفاً من التسلل والهروب إلى داخل البلاد)(19).

لا نجد ضرورة للاستمرار في رصد مظاهر الهوان والمعاناة، التي عاشها ويعيشها اللاجئون في المخيمات، وفي محاولة التوطن في دول الجوار(العربية)، وإن كان من الضروري أن ننبه إلى أحداث (صابرا وشاتيلا وتل الزعتر)، وأحداث أيلول الأسود، ولسنا بصدد تحديد من الجاني، ومن الضحية. فقد كانت النتيجة لا تذهب بعيداً عن أعداء القومية العربية، وفيما يمكن أن يعلق عليها من استخلاص واجب العودة إلى ارض فلسطين.

محمد حسن عبد الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى