الثلاثاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم هاتف بشبوش

ريتا عودة، حين يكونُ الحبُّ شعراً وحواساً (1)....

(من دون الحب لاشيء يبقى من حواء.......فيكتورهيجو)...

ريتا شاعرة من أمصار فدوى طوقان، من البلد المسلوبة على الدوام، حيفا، فلسطين المقاومة. عملت مدرسة للغة الإنكليزية، صدر لها العديد من الدواوين ومنها: ثورة على الصمت 1994، مرايا الوهم، قبل الإختناق بدمعة، رواية ثلاثية، ثم ديوانها موضوع دراستنا هذه (مباغتاً جاء حبك) وغيرها. شاعرة نثرية وتجيد بشكل كبير كتابة الهايكو والقصائد الوامضة، قاصة ومترجمة زاهية في الشفافية مع كل مايعتمر في النفس من حزنٍ وألم على وطن تشظى، كل ذلك كان واضحا في ابداعها، صادحا فيما ترمي اليه المرأة وهي تسطر أجمل أناشيدها للوطن الأم (الأرض) أو الحنونةِ التي غنى لها الشعراء من كل صوب وحدب. كل ماتكتبه ريتا واضحا وكأنه ينتمي الى السهل الممتنع، البعيد عن الغموض والتوغل العميق الذي يحجب المهم عن القراء المتلهفين للمعرفة الثورية والعاطفية الآنية لا الإنتظار المريرالناجم من فك شفرة النص والنصية المتخفية وراء أجمة التورية. ولم أقرأ لها شعرا عصيا على التفسير الا القليل و هذا يتأتى لكونها إمرأة شرقية عربية لاتريد الإفصاح بالشكل العلني فيما يدور في خلدها خوفا من أحابيل المجتمع والسهام التي تمرق على حين غرة.

إستطاعت ريتا أنْ توصل رسالتها الى أبعد الأماكن والى النفوس التواقة مثلها لتغيير مانعيشه في شعوبنا من أمراض، فها انا العراقي قد إستطاعت ريتا عودة الفلسطينية انْ تغرز في داخلي شيئاً مما تقولهُ فيثيرني فأكتب عنها وأنا البعيد كل البعد عنها جغرافيا.

نستطيع تصنيف الشاعرة ريتا ضمن شعراء الثورية المغلّفة بالحب، لنيل المطالب بالكفاح لا بالتمني. هي مدرسة لكنها إتخذت درب الأدب الذي لايسلم صاحبه من الأرق وسهر الليالي والعناء الطويل. شاعرة لها الصدى الذي نستطيع سماعه، لما فيها من روح خلاّقة متواصلة مع الحدث في مانقرؤه عنها وحبها لوطنها بشكل فائض يجعلها محبوبة في وسطها الأدبي.

ريتا طائرالشوق الذي ينشد ألم كل محب تعلّم المعرفة من داخل الحب، هي الشجن بكل مافيه من جمال، والكلمة الساحرة التي تحكي قصص فلسطن وجدائل صغارها وكل الثكالى من جراء الظلم المرئي وغير المرئي. أراها معلمة مروضة للكلمة أو للفكرة العصية على المنال، مروضة لغوريلا الحرف ولكل روح قارئة رائية قد توّطن فيها عنف بني الإنسان بشتى صوره. ولذلك هي كما الجميلة الممثلة الإنكليزية (نعومي وات) في الفيلم الخيالي المثير (الملك The King) والتي روضت الغوريلا الرهيب برقصاتها المموسقة مما جعل الغوريلا منتشيا ناعسا ناسيا عنفه المدمر، فأحبها حبا عظيما ساحرا يدهش العقول. الغوريلا الذي أصبح فيما بعد دعاية حقيقية في الكثير من مدن ألعاب العالم اليوم.

ريتا عرفتها قبل أكثر من عشر سنين في الحوار المتمدن الموقع اليساري الضخم حيث كنا نتلهف في نشر نصوصنا قبل إنطلاق الفيس بوك وتويتر، فهي الصديقة التي تستحق بجدارة أن نلتفت اليها في كل صغيرة وكبيرةٍ من تفاصيل الشعرفإن غابت نستدرك انّ هناك من الفراغ الماثل أمامنا. هي الترانيم التي تقترف الوله السكران الذي يجعلنا وكأننا تحت اقدامنا الريح أوكإننا ممسوسون بكل مايصيبنا من شدة الحب والوجد الغافي في أعماقنا، هي المخيالة التي تمنيتها أن تكون هناك في أغلب شوارع براغ التي زرتها ذات يوم لكي تنثر الإعلانات حول الحفل الأوبرالي للدون جيوفاني، الحفل الذي يعلّق شرائط (كازانوفا) والعاطفة في كل مكان بدلا من دوي القنابل وكل ماينتمي الى العنف الإسرائيلي، الحفل الذي يرسم لنا تلك القرون الرومانسية بالرغم مما مرت به تلك الحقبة من منغصات الحروب لكنها في كل أحوالها أفضل بكثير من فلسطين الدمار أو عراق الدواعش. الشاعرة المثابرة ريتا تشكو من ضياع ما كافحت من أجله ثم في النتيجة جاء غيرها من يحصد ذلك. وهكذا هي الحياة للآسف على طريقة (الوطنية للفقراء والوطن للأغنياء) لنقرأ الشاعرة ماذا تقول في الثيمة الآتية:

أنا كالنحلةِ
أجتهد
لأصنع، أجود أنواع العسل
ثم يتسلل عابروا الطريق
الى أقراصي
ليسرقوها....

في الإستدراكات تنقلني هذه الثيمة الى أبعد مديات التأريخ، ففي كل الدهور هناك من يسرق الثورة التي يقوم بها الكادح وكل معدم ذاق الأمرين من الرأسمالية الجشعة. ففي هذه الثيمة وصفت لنا الشاعرة أرقى المعاني في كيفية كفاح النساء من أجل العدالة وأولهنّ (هيباتيشيا) التي أعدمت من قبل الكنيسة الى (جميلة بوحيرد) المناضلة الجزائرية الشهيرة.

وأنا أستمع لريتا ذات صباح جميل فوجدت نفسي أمام ومضات بصوت دافيء وحنيني ينقلني من عوالم الشعرالى طقوس الغناء والخطابة والإلقاء. شعرت وكأنني في حضن الوطن الذي يبعد عني آلاف المسافات. لديها إلقاء شجاع وناعم يستطيع أن يدخل في شرايين المستمع ككلمات وصوت مندلق ذو تأثير ناجم من رخامة عذوبتها. لديهاالإلقاء الترنيمي المبهج والمؤثر في نفس الوقت. الإلقاء موهبة فطرية وهبة من الخالق أو هو ضرب من الحظ ولذلك نرى محمود درويش كان محظوظا للغاية في القائه بشكل عام وبشكل خاص في قصيدة (لاشيء يعجبني) الذي اذهل الكثيرين بها معنىً وإلقاءاً. المقطع الذي إستمعت اليه بصوت ريتا عودة كله ينتمي الى دنيا الجمالات ينتمي الى فلسطين الزيتون والكروم والثورة والحبّ بجميع ألوانه.ريتا عاشقة فعلا لكل ماينتمي الى رقّة الإحساس والحلم الكامن في إنوثتها المتطلعة للثورة والحب معا، فهي المرأة المتزوجة والأم والشاعرة التي يشار لها بالبنان.

وأنا أستمع للصوت أيضا الذي قسم الشعر الى مفازات عديدة، منها الكلمة، الموسقة، النعومة، التحليق، الشدو الهاديء مرة ثم يصعد مرة أخرى قليلا لكي يعطي الشعرمهنته الفطرية والمهنية، شعرت من انها استطاعت أن توصل الكلمة سينمائيا، حركة وصورة وكل ماينتمي الى عالم الصوتيات الذي أرادت من خلاله أن تقول صرخة (أنا موجود) الديكارتية التي اشتهرت في التأريخ ومازالت حتى يومنا هذا. لنرى في النص الآتي (كوني أنت):

كوني
كما تشاءُ لك الفراشات
أنْ تكوني
كوني غجرية
كوني رغيفَ الجوعى
دمعة الحزانى
كوني ريتاي
إياكِ الاّ تكوني......

هنا تروم الشاعرة الى عدم الإنتماء، حرة كما بوهيمية الغجر الطبيعية، أولئك الذين نجدهم في كل الأمم يوزعون الطرب وكل ماينتمي الى الصفاء والحرية. أما مطلع الثيمة (كوني) فهي تمنّي أو رغبة تصارع الشاعرة مع كينونتها، فذات يوم كتب الشاعر المصري كامل الشناوي (كوني كماتبغين لكن لن تكوني / فأنا صنعتكِ من هواي ومن الظنوني) والتي غناها العندليب عبد الحليم حافظ.

الحب الكامن في سريرة الشاعرة خلق ابداعا وسحرا لايشيخ مادام هناك لقاءا دائميا بينها وبين شعرها الآتي والماضي وما ينتظرها في الأوان لديمومة العلاقة الضاربة في الإحساس الأدبي المحظ. ريتا شاعرة وامضة ولدينا الشهادة على ذلك في نصوص عديدة تلك التي التي أعطتها موسومية (ومضات عشقية):

حين خلق الله الإنسان
خلقهما ذكر وانثى
كنتُ أنا
وكنتَ أنتَ

هنا ريتا بقيت على باخرة البحث عن رفيقها فوجدته في نهاية المطاف بذاك الوفاء الذي حملهما على جنح البراق السندبادي فطارا معا وهبطا معا.

هناك لوحة عن ملك وولي عهده تسمى اسطورة الحب والجنون وقصتها عن انيسيا"خادمة زوجة الأمير (بيدرو) وريث العرش الذي وقع في حبها بعد وفاة زوجته. ارتبط بها وانجب منها الأبناء والبنات، الملك لم يكن راضيا عن هذه العلاقة وكذلك بقية النبلاء فأمر بقتلها في الدير أمام أطفالها بدم بارد، لكن حبيبها الأمير بيدروا رفع شعار (لنقتل الذئاب)، فلاحق القتلة واحداً بعد الآخر، وكان ينتزع قلوبهم وهم أحياء ثم يمزقها مثلما مزقوا قلبه الرحيم والصبور. وبعد وفاة الملك (الفونسو) والد الأمير بيدرو- أصبح بيدرو هو الملك فأخرج جثتها من القبر ووضعها على العرش! وأمر بمبايعتها كملكة من قبل كل النبلاء وذلك عبر تقبيل يد الجثة. واللوحة هذه للرسام الروسي ‏كارل بارلوف 1834م، وتظهر النبلاء وهم يحملون السكاكين فيما تعلووجوههم نظرات شريرة، ويستعدون لقتل (انيسيا) بعدما تلقوا الإشارة من الملك الذي ينظر ببرود لتوسلات الضحية ونشيج اطفالها. الإستعراض أعلاه هو بمثابة التأكيد لما قالته الشاعرة ريتا (كنت أنت وكنت أنا) توأمين سياميين ولايمكن فصلنا تحت أي ظروف قاهرة.
تقول ريتا مهما إبتعدت انت عن الآنا التي تخصني تراني جانبك تحت أي ظرف كان. لنقرؤها أدناه في ومضة عشقية مشابهة أخرى:

يتبـــع في الجــــزء الثانــــي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى