الأربعاء ٨ شباط (فبراير) ٢٠١٢
غياب مراكز مختصة في الفلسفة
بقلم نور الدين علوش

سببه قصور في النظر والرؤية

سؤال: بداية من هو الدكتور محمد ايت حمو؟
 أجد صعوبة في النظر إلى مرآتي الخاصة الذاتية التي قد تكون مقعرة ولا تعكسني بصدق وموضوعية ونزاهة، لأنني أريد أن أرى نفسي تتلألأ في مرايا الآخرين الصافية والموضوعية والحيادية، ومع ذلك، فلابد مما ليس منه بد. فأقول عن نفسي: أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي المعاصر بشعبة الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، ظهر المهرازـ فاس ، منذ سنة 2003، حاصل على شهادة الإجازة في الفلسفة من هذه الشعبة بفاس منذ سنة 1994. وحاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة يوم 6/07/2001 من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس ـ الرباط ، بميزة مشرف جدا. عضو مركز الدراسات الرشدية بفاس. صدرت لي العديد من المقالات في الكتب الجماعية التي هي عبارة عن ندوات وموائد علمية مستديرة بين المتخصصين في الفلسفة نظمتها شعبة الفلسفة بالرباط، ونشرتها كلية الآداب بالرباط في سلسلة ندوات ومناظرات. إضافة إلى مقالات في المجلات الفلسفية المتخصصة بالمغرب وخارجه. (مدارات فلسفية، فكر ونقد، الفكر العربي المعاصر،...). أما المنشورات الفردية، فأذكرها حسب ترتيبها الكرونولوجي:

  1. "ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف"، دار الطليعة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى تشرين الثاني (نوفمبر) 2010.
  2. "الدين والسياسة في فلسفة الفارابي: من التأسيس البرهاني للسياسة إلى التأسيس الحجاجي لها"، الناشر: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2011.
  3. "فضاءات الفكر في الغرب الاسلامي: دراسات ومراجعات نقدية للكلام"، الناشر: دار الفارابي، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى 2011.
  4. "أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر"، السلسلة: مقاربات فكرية، منشورات الاختلاف ـ الجزائر، دار الأمان ـ الرباط، الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيوت، الطبعة الأولى 1433ه ـ 2012م .

 سؤال: باعتباركم من الباحثين في المجال الفلسفي، ما رأيكم في المشاريع الفلسفية المطروحة: (مشروع الجابري وحسن حنفي وطه عبد الرحمان، ومحمد أركون..)؟
 إنها مشاريع فلسفية منحت الوجه المشرق للمغرب والمشرق بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، مهمومة بهم الحداثة والخروج من التقليد والتخلف الفكري والثقافي، كل على طريقته و"ليلاه". فهي مشاريع تمثل قراءات معاصرة وحداثية للتراث بتعدد الحداثة والطرق القائدة إليها. فالحداثة ليست واحدة ووحيدة، بل متعددة ومتكثرة. يطبعها الاختلاف بدل التماثل والتجانس. فلنأخذ كل مشروع من بعض هذه المشاريع على حدة على سبيل التمثيل لها، لا المفاضلة بينها. ولنبدأ أولا بطه عبد الرحمان الذي سعى في مشروعه الفلسفي إلى تمييز الحداثة المبدعة عن الحداثة المقلدة، والإبداع الموصول عن الإبداع المفصول، والاستعاضة عن التقليد والقصور والوصاية بالإبداع والرشد والتحرر، لتدشين التجديد الحداثي، وتحقيق الحداثة الإسلامية المتميزة عن الحداثة الغربية. فالإبداع في الفلسفة عند هذا الفيلسوف يوجد على طرفي نقيض من التقليد، سواء كان هذا التقليد لتراث الآخر، أو لتراث الأنا، متى تم النظر إلى التراثين دون نقد أو تمحيص أو مساءلة. فهو لا يدعو إلى تقديس التراث الإسلامي، بل يدعو إلى ضرورة مراجعته مراجعة نقدية علمية، وفتح باب الإبداع على مصراعيه، وذلك عبر ممارسة القطيعة مع التقليد الذي كاد أن يترسخ طبعه في نفوسنا بوجهيه القديم والحديث. إذ لامناص من الاستعاضة عن الاستقلال المقلد بالاستقلال المبدع، وعن الإبداع المقلد بالإبداع المبدع، وعن الاعتيال بالقدرة على العطاء، واختيار طريق الإبداع بدل طريق الإتباع. فبين الإبداع والتقليد برزخ لا يبغيان. ولننتقل بعد هذه الإطلالة الموجزة على الفيلسوف طه عبد الرحمان إلى الفيلسوف محمد أركون صاحب الإسلامولوجيا التطبيقية، الذي يعد أحد أبرز أقطاب القراءات الجديدة للتراث في الفكر العربي المعاصر، وأحد أهم المشاريع التنويرية التي تتنفس بخياشيم الحداثة في العالم العربي. فقد تطلع محمد أركون إلى قراءة حداثية للتراث ، بحيث يرى أنه لا غنى للمثقفين المعاصرين من الانخراط في نقد العقل الديني في العالم الإسلامي دون تردد أو تأخر، وبكل جرأة واقتدار. فقد وسم مشروعه بـ"نقد العقل الإسلامي"، تمييزا له عن مشروع الفيلسوف محمد عابد الجابري الموسوم بـ "نقد العقل العربي". ويرجع محمد أركون الاختلاف بين مشروعه ومشروع محمد عابد الجابري إلى كونه يكتب باللغة الفرنسية لأنها لغة الدقة والنقد والتعمق، وفي كلمة واحدة هي لغة "تتفوق" على اللغة العربية التي "تتضايق" من اقتران النقد بـ"العقل الإسلامي"، مشيرا إلى أن الفرق أو الاختلاف الجاثم بين مفهوم العقل الإسلامي ومفهوم العقل العربي يؤول إلى أن المفهوم الأول يحيل إلى الوحي الذي لا يترك للعقل سوى مهمة خدمته. والعقل الإسلامي بهذا المعنى لا يختلف عن العقل المسيحى والعقل اليهودي. أما المفهوم الثاني ـ أي مفهوم العقل العربي ـ فهو اختيار ضال ومضلل في نظر محمد أركون الذي يحكم بالوهي والوهن على التبريرات التي يوردها الجابري لإقناع القارئ بالاختيار الذي ارتضاه، بل إن مؤاخذة محمد أركون للمفكر المغربي محمد عابد الجابري لا تقتصر فقط على عدم استساغته وقبوله لهذا الاختيار، بل تتعداه إلى وسمه ووصمه بـ "العنصرية"، وغيرها من النعوت القدحية التي بقيت شروحاته وتأويلاته أسيرة لها. ولا يترك محمد أركون مناسبة تمر دون أن يضع مشروعه الفكري الذي عنونه بـ"نقد العقل الإسلامي" في مرتبة لا يرقى إليها مشروع محمد عابد الجابري المعنون بـ"نقد العقل العربي"، عندما يحاول أن يتصيد أكبر قدر من الفروق بين المشروعين. وإذا كنا قد حاولنا التنبيه في هذا الصدد إلى ناي محمد أركون بمشروعه عن الجابري، فذلك ليس تصفيقا ولا تصفيرا لأحدهما ضد الآخر. فكلا المشروعين ـ نقد العقل الإسلامي ونقد العقل العربي كغيرهما من المشاريع الأخرى ـ غير منزهين عن الانتقادات، وما أكثرها من الأصدقاء قبل الخصوم، ناهيك عن خلوصهما إلى نفس الخلاصة أو يكادان. فقد تعرضت هذه المشاريع كلها (الجابري، محمد أركون، طه عبد الرحمان، حسن حنفي إلخ) للنقد العنيف الذي ليس قدحا أو عيبا، بل منقبة مادام أنه يبتغي التقويم والتصحيح والتعديل. ولنمثل هنا بالكتابات الأركونية التي تعرضت لانتقادات متعددة ومختلفة وحتى متباينة بتباين التوجهات والمشارب والمناهل والاختيارات التي ارتضاها هؤلاء النقاد والباحثين المعاصرين. وهذا ما يعترف به محمد أركون نفسه عندما يستهل أحد كتبه بالتنبيه إلى هذه الانتقادات التي حكم عليها بالبطلان والخطأ والحدة زاعما أن أصحابها لم يحالفهم الحظ في امتلاك ناصية معانيه ومقاصده ومراميه، بل إنهم قصروا في الاجتهاد ولم يتجشموا عناء التدقيق والتمحيص! حيث يقول، تمثيلا لا حصرا، "أشعر بقلق أكبر عندما أتذكر سوء التفاهمات التي دفعت عددا كثيرا من القراء العرب إلى توجيه القول بالباطل والتأويل الخاطئ والهجوم اللاذع ضد ما كتبت ونشرت. وللأسف فهم لا يقرؤون بإمعان ولم يجتهدوا حق الاجتهاد لإدراك ما قصدته، وفهم ما عبرت عنه بمصطلحات تدفع دائما إلى التوسع في البحث والتثبت في التفسير والتأويل"( محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني : كيف نفهم الإسلام اليوم؟، سبق ذكره، ص. 5).

 هل تتفقون مع الذين يقولون بأننا نعاني من أزمة منهج وليس أزمة مشاريع فلسفية؟
 قد تكون مشكلة المنهج هي مربط الفرس في الفلسفة العربية المعاصرة، وبيت القصيد في ما أصاب ملامحها من ضمور وشحوب وتجاعيد. فلو أخذنا الفيلسوف محمد أركون على سبيل المثال، فإننا نجده يتكأ على آخر ما استجد من جديد ومكتسبات وكشوفات متعددة في ميدان المفاهيم والمناهج والآليات والمباحث الغربية التي تحققت في مختلف العلوم الإنسانية (علم الاجتماع، علم النفس الاجتماعي، التاريخ، التحليل النفسي، الأنتروبولوجيا، السيميولوجيا، اللسانيات، إلخ)، دون تجشم عناء مساءلتها ومراجعتها وكيفية الجمع بينها كلها في عملية التوسل في البحث بها، ليس فقط في البيئة العربية الإسلامية المخالفة التي تحتاج إلى عملية تبيئتها فيها، ولكن في الجغرافية الغربية التي أينعتها قطافا دانية. وهذا ما يجعله فارسا في التفكيك والهدم دون البناء والبديل. فهو يقدم نفسه باعتباره يقوم بفتح الأضابير وورشات العمل وفرز الأسئلة الخاطئة أكثر مما يقوم بتقديم الأجوبة النهائية عليها. وقد حاول محمد عابد الجابري الناي منهجيا بمشروعه عن محمد أركون بالتنبيه إلى الاختلاف الذي يجثم بثقله بينه وبين هذا الفيلسوف الذي تستعبده الأداة، على حد قول الفيلسوف محمد عابد الجابري في هذا النص: "وهنا أسجل أني أختلف مع الأستاذ أركون الذي يبدو من تحليلاته أنه يريد أن يبين من خلال الموضوعات التي يدرسها صلاحية الأداة التي يستعملها، إنه يريد أن يبرهن على صحة الأداة، وبالتالي يجعل الموضوع في خدمة الأداة، لا العكس"( محمد عابد الجابري، ندوة ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، بمناسبة مرور ثمانية قرون على وفاة ابن رشد، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، يونيو 1979، ص. 249).

 سيدي الكريم ما هو وضع الفلسفة اليوم ؟
 لقد تبوأت الفلسفة العربية الإسلامية مكانة سامية على خريطة الفلسفة العالمية ترجمة وتحقيقا وتأويلا ونقدا. ولكنها مازالت لم تستعض بالقوة اللازمة عن اللاحوار بالحوار، (أنظر مقالي:"الحوار: الغائب الأكبر بين الفلاسفة المغاربة المعاصرين"، جريدة القدس العربي، السنة الثالثة والعشرون ـ العدد 6869 الأربعاء 13 تموز (يوليو) 2011 ـ 12 شعبان 1432ه، ص. 11). والإتباع بالإبداع، مما جعلها لا تطرح من الإشكاليات إلا التي طرحها الغرب، ولا تقدم من الحلول إلا تلك التي قدمها الغرب، وكأني بالفلسفة العربية الإسلامية المعاصرة رياضة ذهنية لا علاقة لها بالمشاكل التي يعج بها الواقع العربي الإسلامي المتخلف، وما أكثرها وأعقدها وأفقمها، وفي مقدمتها التطرف بجميع أشكاله، والاستبداد بجميع أطيافه، وغياب قيم الحرية والديموقرطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية، إلخ. ولا يغرنك بعض المفاهيم الرنانة أو اللامعة، فليس كل ما يلمع ذهبا، ولا كل ما يرن فلسفة. ولذلك قد يمثل الإبداع الغائب الأكبر في وضعية الفلسفة في العالم العربي الإسلامي الراكد والآسن منذ قرون. وهو ما يجعلنا لا ننظر كثيرا بعيون الرضا إلى حال الفلسفة في هذه المنطقة الجغرافية إلا لماما وفي ما ندر. فالعديد من الأسماء الفلسفية ارتبطت بمذاهب فلسفية غربية. فهذا عبد الرحمان بدوي صاحب المذهب الوجودي، ووجوديته اقرب إلى هيدغر منها إلى فيلسوف أوجودي آخر. وهذا زكي نجيب محمود صاحب الوضعية المنطقية و"خرافة الميتافيزيقا". وهذا محمد عزيز الحبابي صاحب المذهب الشخصاني، ورائد "الشخصانية الإسلامية". إلخ. غير أن هذه المدارس الفلسفية التي افتتن بها هؤلاء الرواد حد التقديس، سرعان ما "توقفت عن أن تكون" برحيلهم، ولم تعرف أي إشعاع أو امتداد أو تأثير أو استمرارية بعد رحيلهم. وهو ما يعني بتعبير سعيد بنسعيد العلوي "فشل استنبات مذاهب فلسفية نشأت في تربة أوربية، تتصل بواقع أوروبا الغربية في الأزمنة الواقعة بين الحربين العظميين وإلى خمسينات القرن الماضي[...] ليس من الغريب،والحال كذلك، أن يكون أثر فلسفات الفلاسفة المعاصرين العرب أثرا قليلا، لا، بل إنه لا يكاد يذكر".

وحتى لا نظهر بمظهر من يعطي انطباعا سلبيا على فلاسفتنا وفلسفتنا، وهي أسرتنا الفكرية وشعبتنا التي ننتمي إليها، سننظر إليها بعيون جيل دولوز الذي عرفها في كتابه "ما هي الفلسفة" بكونها إبداعا للمفاهيم، ولنتساءل على ضوء هذا التعريف: ما هي المفاهيم التي أبدعتها الفلسفة العربية الإسلامية المعاصرة؟ فإذا كانت الفلسفة الغربية قد أبدعت المفاهيم عبر تاريخها الطويل، مثل المثال الأفلاطوني، والكوجيطو الديكارتي، إلخ، فما هي المفاهيم التي أبدعها فلاسفتنا العرب المعاصرين. الجواب طبعا لا يخرج عن كوننا عالة على مفاهيم فلسفة غيرنا، بحيث أصبح العالم العربي المعاصر يقتات مفاهيمه من مائدة الآخر الغربي بدل أن يعمل على إبداع مفاهيمه الخاصة به. وهذا هو شرط التفلسف بعيون دولوز، طبقا للقاعدة: "وشهد شاهد من أهلها". وفي هذا الصدد يميز طه عبد الرحمان بين صنفين من المقلدين: الصنف الأول يسميه ب »مقلدة المتقدمين» ، الذين يقلدون الأوائل من المسلمين، ويسقطون مفاهيم "الأنا" على مفاهيم "الأخر". والصنف الثاني يسميه ب »مقلدة المتأخرين» ، الذين يقلدون الأواخر من غير المسلمين، ويسقطون مفاهيم "الأنا" على مفاهيم "الأخر". دون أن يعني هذا القول من قريب أو بعيد أنني أتحيز أو أتخندق لمشروع ضد آخر، لأن هذه المشاريع الفلسفية الكبرى يجب أن نضعها على قدم المساواة في الهم والغم على سوسيولوجيا الثبات والجمود والسكون في العالم العربي الإسلامي.

ويمكنني القول بأن وضع الفلسفة اليوم في المغرب تخصيصا وتدقيقا له وجهان أو مظهران. وجه ظاهري تبدو فيه الفلسفة في أزهى مراحلها، بالنظر إلى التعميم التدريجي لتدريس الفلسفة في الجامعات المغربية، وفتح الشعب بالعديد من المدن المغربية رويدا رويدا، مثل مكناس والقنيطرة ومراكش والدار البيضاء إلخ. بعد أن كانت حكرا على مدينتي فاس والرباط. ناهيك عن كون الأسماء الفلسفية الكبرى التي أنتجت مشاريع فلسفية في العالم العربي(الجابري، محمد أركون، طه عبد الرحمان حسن حنفي، إلخ) ينتمي جلها إلى المغرب الكبير. ووجه خفي لا يدركه إلا من له دربة بتدريس الفلسفة في هذه الجامعات والمراكز والمعاهد العليا، حيث أجهز الإصلاح الجامعي بين مزدوجتين ـ ويا ليته كان إصلاحا فعلا ليكفينا مؤونة الحديث عنه ـ على البقية الباقية من الكيف والجودة. فأصبحت الامتحانات تستأثر بالقسط الأوفر من السنة الدراسية على حساب التكوين والتدريس، بحيث تحولت مهمة الأستاذ الذي كان بالأمس "فار مكتبات" إلى أشبه بكاتب إداري يتيه بين الآلاف من الأوراق شبه الفارغة التي تصيب الرؤوس بالدوار. وهذا ما يجب تداركه حتى لا يكون لتعميم الفلسفة نتائج عكسية، ويصبح جعجعة بدون طحين، ويهدد الفلسفة باستئهال نعت الفلسفة البتراء، والفيلسوف الزور، والفيلسوف البهرج، والفيلسوف الباطل بتعبير الفارابي. فالإصلاح الجامعي الذي حدث بالأمس يحتاج بدوره إلى إصلاح جامعي جديد اليوم، واللجنة الصباحية التي تم تعيينها في الشروق تحتاج إلى لجينة مسائية يتم تعيينها في الغروب، والآلهة التي صنعتها الوزارة الوصية في الصباح يجب أن تأكلها في المساء، حتى لا تبقى مصرة على وثنيتها، ومرددة الآية الكريمة:"هذا ما وجدنا عليه آباؤنا".

إننا مطالبون اليوم بتعليم التفلسف وكيفية التفكير وتمكين الطالب من أدوات العمل وآليات إنتاج المعرفة والاشتغال على النصوص وامتلاك حس النقد بدل تعليم الفلسفة. فالفلسفة هي محبة الحكمة، والحكمة عندي هي التفلسف والمفاهيم. وتبعا لذلك تصبح الفلسفة هي محبة المفاهيم وإبداعها والاشتغال عليها ونقدها أو تطويرها، وإغنائها أو تفقيرها. فلا بد من العودة إلى المنهج السقراطي في تعليم الفلسفة عن طريق الجدل والحوار والتعاون والتآزر في إنتاج المفاهيم وتحديدها، وهي المهمة التي حاز سقراط قصب السبق فيها. فالسؤال الفلسفي هو المبتدأ والمنتهى في عملية ممارسة التفلسف وإبداع المفاهيم لدى سقراط. هذا السؤال الفلسفي الذي يمتاز بخاصية الأولوية لدى هيدغر، ولا تفيد الأولوية لدى هذا الفيلسوف الجانب الكرونولوجي بتاتا، ولكنها أولوية ذات علاقة بالأهمية، بالنظر إلى شساعته أو شموليته أولا، وربطه بالعمق والبحث عن الأساس ثانيا، وعلاقته بالأصل، أو ما يسميه هيدغر "بالقوة الاصلية" ثالثا.

  كما تعرف فقدت الساحة العربية والمغربية الكثير من رموز البحث الجامعي في مجال الفلسفة : محمد عابد الجابري ، محمد أركون، فؤاد زكرياء، عبد الرحمان بدوي، لكن هناك من الباحثين الشباب من يحاول أن يكمل المسير، هل انتم متفائلون بمستقبل البحث الفلسفي؟
 إن رحيل هؤلاء الباحثين والرموز الفلسفية خسارة فلسفية كبرى للعقل العربي الإسلامي يصعب تعويضها، ومع ذلك، فلا ينبغي أن نقول بأنه "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، لأن التفاؤل بالمستقبل يجب أن يملئنا، فالأرض التي أنجبت هؤلاء بحكم التاريخ والجغرافيا، قادرة على أن تنجب أمثالهم وأشباههم، ولم لا أفضل منهم، من الباحثين الذين سيستأنفون مشاريعهم بالتطوير والتنقيح والتعديل أو بالنقد والاعتراض ونسج مشاريع فلسفية جديدة بديلة تلتقط ذبذبات الحراك الديموقراطي الذي لم ينتجه الفيلسوف العربي الذي يعيش في برجه العاجي، بل أنتجه المعذب في الأرض الذي يبحث عن "الخبز الحافي" ليملأ به معدته. وهذا لا يعني أن هذا الفيلسوف العربي أنتج مشاريع للتهدئة أو للتلهية عفى عليها الزمن، لأن هذه المشاريع لها صلاحيتها وتستحق الاهتمام.

وإن أخوف ما أخاف هو أن تنتج هذه المشاريع الفلسفية ـ أو على الأصح المدارس الفلسفية ـ أساتذة يشعلون حرب داحس والغبراء بينها، ويدخلون في مفاضلات عكاضية باباها الفكر الفلسفي المعاصر الذي يعلمنا القول بالعقلانيات المختلفة والمتعددة. ويحضرني هنا الباحث السوري هاشم صالح الذي يتعصب كثيرا لمشروع محمد أركون في شروحه وتفسيراته وتعليقاته، التي تجعل من محمد أركون «المهدي المنتظر»، و«شخصية المنقذ» ! فأركون هو «الانقلابي»، و«الجذري»، و«الخطير»، و«الحائز على قصب السبق»، و«المتمكن»، و«الجريء»، و«المقتدر»... وغيرها من النعوت والأوصاف التي يطلقها عليه في هوامشه وتعليقاته حد التخمة ! مثل قوله مثلا: "هنا تبدو انقلابية فكر أركون بشكل جذري، من هنا خطورته على التقليديين وخطورة التقليديين عليه" (محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، هامش الصفحة . 215). وقوله كذلك: "يمكن القول بأن محمد أركون هو أول مفكر مسلم يتنطح لهذه المهمة الحاسمة بكل تمكن وجرأة واقتدار". (المرجع نفسه، هامش الصفحة .82). وقوله أيضا: "أركون ... يعرف الغرب من الداخل أكثر من أي مثقف عربي آخر"، (هاشم صالح، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر ؟ تأليف محمد أركون، سبق ذكره، ص . 25). ويقول معلقا على إحدى نصوص محمد أركون في نص مليء باللمز والغمز إلى المشاريع الفلسفية المخالفة لمشروع محمد أركون، وفي مقدمتها مشروع محمد الجابري: "إنه لشيء يدعو للدهشة والاستغراب أن يتنطح أصحاب «المشاريع» (كمشروع نقد العقل العربي، أو غيره) لتجديد التراث والخروج من المأزق، دون أن يقولوا كلمة واحدة عن الشيء الأساسي ! أقصد عن نقد العقل الديني، أو تفكيك التراث الإسلامي من الداخل، أو تعرية الانغلاقات التراثية المزمنة ... وبالتالي فهي مشاريع للتهدئة أو للتلهية، ولا تؤدي إلى أي تحرير في العمق. وحده نقد العقل الإسلامي بالمعنى الجذري سوف يؤدي إلى ذلك"( الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ص . 168). وهلم جرا. بينما الموضوعية تقتضي النظر إلى هذه المشاريع الفلسفية باعتبارها مدارس مختلفة ضمن جنس القول الفلسفي تتكامل وتتعاضد في ما بينها. فلا أحد يستطيع أن يزعم بأن محمد أركون وحده يمتلك الحقيقة التي ينبغي الاستمرار في البحث عنها، فالآخرون من أصحاب المشاريع الأخرى لهم نصيبهم من الحقيقة، وإلا لكان العالم العربي الإسلامي كله قد اكتسح من قبل مشروع واحد. ولكننا نعلم أن هناك عدة مشاريع في العالم العربي: كمشروع الجابري، وطه عبد الرحمان، وحسن حنفي،... إلخ. ومن غير المعقول أن يكون أصحاب كل المشاريع الأخرى على ضلال ومحمد أركون وحده على حق.

 هناك الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، في المقابل لا نجد مراكز مختصة في الفلسفة. إلى ما ذا تعزو في نظرك هذا الغياب؟
 إن بعض الأسباب تكمن في كون الفلسفة مازالت لم تتخلص بعد بشكل كامل من تبعات الحصار الذي فرض عليها من طرف الدولة في الماضي عندما كانت تنظر إلى هذا الجنس من القول باعتبارها فكرا ثوريا متمردا غاضبا معترضا صامدا رافضا ينفي ويقول "لا"، ويعري كل أشكال الاستبداد والطاعة والاستسلام، واحتكار السلطة والثروة، مما ينعكس سلبا على دعمها وتمويل أنشطتها العلمية. والحصار الذي فرض عليها من طرف العامة باعتبارها رديفة التحذلق في الكلام، والتلاعب بالألفاظ. وعدم المنفعة المادية والبعد عن الواقع، وغيرها من الكليشيهات العامية التي كانت تلصق بها. ولذلك أعتقد بأن غياب مراكز مختصة في الفلسفة سببه قصور في النظر والرؤية، والتماهي مع عصر العلم والتقنية، وغياب المنظور الإنساني المتمحور حول الإنسان، وتأثر ـ إن شئنا استعارة عبارة جاك دريدا ـ بتعصب العقل العلمي ـ التكنولوجي ـ التلفزي، السائد في الغرب الذي يحتقر الفكر التأملي الذي يهتم بالمعنى، ولا يكاد يلتفت إلا إلى المردودية المادية أو الاقتصادية. وهو ما يجعل المؤسسة الوصية لا تخصص ميزانية محترمة للبحث العلمي الذي لابد له من شروط ذاتية وموضوعية، وبنيات تحتية وفوقية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى