الأحد ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
الشاعر «أحمد المباركي»

صاحب الحرف وخليل الأوزان

الهادي عرجون

بادئ ذي بدء لايمكن أن أقول بأنها دراسة نقدية لأن الدراسة تخضع إلى عديد المقومات أهملت بعضها وأخذت ببعضها ولكنها تعبير واضح لمايختلج في كوامن النفس تجاه نصوص شعرية شدّتني إليها فلا أبالغ إذا قلت بأنها لوحات شعرية نتصفح أفكارها ومعانيها كما نتصفح ألوان لوحة فنية رائعة.

فكتاب "يا حامل الحرف" المجموعة الشعرية الثالثة الصادرة عن مؤسسة هديل للنشر و التوزيع سنة 2014 و التي حملت بين طياتها 16 قصيدة في 113 صفحة و هي عبارة عن تجسيد واقعي و سرد زمني للأحداث التي مرت بها البلاد و ما عرفته من مخاض وتحولات اجتماعية و سياسية يقول الشاعر في قصيدة: "يا حامل الحرف" صفحة 68:

يا صاحب الحرف إنّ الفجر في أفق
يصارع اللّيل سكرانا ونشوانا
إنّ الغيوم إذا اسودّ ت براقعها
تذوب حتما متى تشتدّ عيدانا
الكلّ فا ن وتسري أنت مذ أزل
و سط العواصف تبني الآن إنسانا
يا حامل الحرف يا مصباح أمّتنا
شيّد بحبرك آفاقا وأزمانا

و هو بذلك يستعرض مناخات الثورة بما فيها من تمرد و رفض مع الدعوة إلى الثورة (ثورة الإنسان البسيط) كما عبر عنها حيث تكرر فعل الأمر (ثر) أكثر من مرة كلازمة في نص " ثر يا بسيط " صفحة:57:

هذا البسيط يقود اليوم مركبنا
فحيث يمّمت وجها لن ترى القرفا
هذا البسيط تراءى حاملا أملا
دق ّاته ترفع الإغماء والرّسفا
ثر يا بسيط ففي صحرائنا عطب – -
ضاع الجوار وبات القول: وا أسفا
ثر يا بسيط فذي أحلامنا سرقت - -
نامت عيون وقامت غيرها عصفا

و فيها دعوة صريحة للثورة و سعي إلى تحقيقها فالثورة لم تنطلق إلى من البسطاء والجور الذي كانوا يعانونه و انتهت بهم و لكن هذه الثورة سرعان ما بهتت و قل حماسها خاصة عندما تزعم المشهد السياسي الساسة سماسرة الثورات.

يقول الشاعر أحمد المباركي في قصيدة "المهرولون" صفحة 64 و 65:

إنّ البلاد أرامل فوق الثّرى
والدّمع أحرق أنجم الوجنات
إنّ البلاد طفولة تشكو الضّنى
ترجو أمينا ماحِيَ العثرات
إنّ البلاد سفينة وسط الدّ جى
والموج هدّ ار بكل جهات
ر بّانها في غفلة يرنو إلى
حيتانه مستجمع الصّدفات
يرنو إلى أسماكه في رقصة
من ر نّة العيدان والنّغمات
إن البلاد صبيّة بكّاءة
مقروحة الأكباد في الطرقات

فشعره لايختلق معاني وهمية تتطلب منا البحث والتنقيب في خباياها بل يوقظ فينا روح الشعر ولذته لأن الشعر لايمكن أن ينحصر في مساحة جغرافية واحدة.

فالشاعر أحمد المباركي يحمل الأمل يؤمن تمام الإيمان بأن الكلمة الشعرية بمفردها قادرة على أن تمنح الأشياء وجودها على حد تعبير "هيدقير" فالشعر معاناة ذات أبعاد متعددة حمالة أوجه عدة لدى القارئ أو المتلقى على حد السواء.

فشعره له سمة خاصة وأبواب للتأويل عديدة فكأنك عندما تقرأ شعر"المباركي" تشعر أنك تقرأ لأحد فطاحلة الشعر العربي في قوة اللغة وصخبها وثورتها على الموجود، زاد على ذلك تمكن شاعرنا من أبجديات العروض المفقود في شعر معاصريه من الشعراء إلا من رحم.

فالشعر عنده ضرورة إبداعية وليس مجرد ترف عقلي عابر أو متعة تقف حد النشوة الشعرية وتذوب وتنتهي، فالإبداع عنده لاينحت برصيد ثقافي هزيل بل ينبع من ثقافة ورؤى فنية تصل به إلى التميّز والتفرد وهو يعبر عن المجتمع في جوانب حياته تطبع شخصية القارئ لشعره وتشعره بما يدور حوله وهذا مايصبو إليه المتصفح للكثير من القصائد لأنه يعبر عن الانسان البسيط الناشد للتحرر رافضا للموجود والمتحجر من المسلمات الثابتة في الوجود و نرى ذلك في التسلسل الزمني للأحداث للثورة التونسية مما جعل المجموعة الشعرية "يا حامل الحرف" تعتبر مدونة شعرية إن صحت العبارة لمرحلة دقيقة من بلادنا لما فيها من مناخات الثورة على الموجود و قطعا مع الماضي داعيا إلى المنشود الذي يطمح أن يعيشه رغم ما شهدت هذه الثورة من تقلبات و انكسارات.

فالشاعر أحمد المباركي لا يزور أرضا بكرا و لا يكتب نصا من فراغ فهو يتغذى باستمرار من كتابات الآخرين و كلامهم و أفكارهم على حد السواء لذلك نجد تأثرا كبيرا بكبار الشعراء (شعراء الحماسة) و هو بذلك لا يخفي تأثره الكبير بالشعراء قديما و حديثا و المتمعن في نصوص المجموعة يتجلى لديه التناص في عدد من الأبيات مع شعراء نحبهم استقينا جميعنا من منابع شعرهم نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

يقول المتنبي:

ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ
يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ

و هو ما يقابله في نص "الجن و الإعلام" صفحة 54.

ما كنت أحسبني أبقى إلى حِقَب
يتيه فيهالدينا الدّرب والغرض

و كذلك في قوله:

صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً
حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ

و هو ما يقابله في نص "تزأر الكلمات" صفحة 106.

جلست بين الغيوم السّود مبتسما
حتّى تعجّب منّي كلّ من شحبا

يقول عنترة العبسي:

وإذا بُليتَ بظالمٍ كُنْ ظالماً
واذا لقيت ذوي الجهالة ِ فاجهل

و هو ما يقابله في نص "ثورة المهرولون" صفحة 63.

وإذا بليت بمنكب متقدّم
فاقصفه جهرا مثل قصف قناة

يقول الشابي:

شعري نُفَاثة صدري
إنْ جَاشَ فِيه شُعوري

و هو ما يقابله في نص "ملحمة شعر" صفحة 87.

شعري نفاثة روحي كيف تدركه
صمّ الكهوف ومن أعشى ومن دلجا؟

و هذا ليس فيه استنقاص من قيمة الشاعر أحمد المباركي و لكنها ميزة ميزت شعره في استعمال حوشي الكلامي و قويه لأن الشاعر يبحث في المختزنات الذهنية و المعاجم ليعيد للغة الحياة أو يعيد صياغتها صياغة جديدة لإخراجها في ثوب جديد و هذا ما ذهب إليه الشاعر و النقاد الأمريكي شبيلد ماكليش Archibald MacLeish في حديثه عن اصطياد الكلمات و تسخيرها: "فالشعراء يدأبون دائما على الخوض و الإصطياد على حافة نهر اللغة البطيىء الجريان علهم يعثرون على ما يمكنهم اصطياده و تسخيره لإستعمالهم الخاص"

"أحمد المباركي" يرتكب جريمة حب الشعر لذلك لم يجد الشعر إلا أن يحبه ويبادله هواء الشعر ليتنفسا معا المعاني وينحتان منحوتة مكتملة النضج فالظاهر في شعره أنه عسير الولادة يمر بحالات مخاض عدة تموت على أعتابها عدة حروف وكلمات ليبقى في طيات النص روح جديدة سوية لانرى فيها هنات أو كتابة عجلى مهمتها ترصيف الكلام ليقابل الوزن دون البحث عن روح الشعر ومعانيه التي بنيت عليها المدونة الشعرية العربية فهو يستعيد نفسه مع كل ولادة ليتكون جنين شعري جديد إن صحت العبارة لايكرر نفسه مع كل نص بل يقتضي في الحقيقة ويعانق الكتابة في كل لحظاتها فهو حامل لواء الحرف والوصي عليه وعلى اللغة فهو معلم الأجيال عالم برسالته يكاد نصه وشكواه ويحترق بنار الشعر والكلمة حتى لاتحرق غيره ليضئ الساحة الشعرية من حولنا فهو في مكابدته الشعرية وفي رسالته التربوية لايجعل حدا جغرافيا فاصلا على حد تعبير الشاعر نزار قباني بين روحه الشعرية وكونه مربيا يتحرى في كل ما في اللغة من معنى و التي يبين فيها مشاق مهنة التعليم في أيامنا يقول في نص " يا سيد الأشعار "صفحة 71:)مع الاعتذار "لأحمد شوقي" الذي لم يمتهن التّعليم و لم يكتو بعذاباته

ما بال شوقي قد أطال القيلا
"قم للمعلّم وفّه التبجيلا"
هلاّ درى شوقي عياط فراخنا
لأقام فينا مأتما وعويلا
هلاّ رأى فصلي يفور كمرجل
يرغي و يزبد بكرة و أصيلا

ثم يقول في نص "رسالة إعتذار" صفحة 76: و التي أعقبها بتصدير "مع الاعتذار لأحمد شوقي فإن النّكبات إذا لم تتكرّر تتشابه أيّما تشابه" وهذه النكبات هي التي تدفعه إلى الكتابة و مغامرة الكتابة رغم معاناتها يقول في مطلعها:

يا سيّدي..إ نّا نراك عليلا
لمّا كشوقي قد ملئت عويلا
يا سيّدي..عذرا وعذرا إ نّنا
لم ننس درسك بكرة وأصيلا

هذا الشاعر المتنبئ بالمخاض الذي عاشته البلاد في سنوات ماقبل الثورة في عديد القصائد بمجموعته الشعرية "حامل الحرف" قد أورقت وأينعت وحان للثورة أن تحي قطافها وتشرق على حالة نفسية تنبأ فيها فكانت بمثابة مدونة شعرية تؤرخ لمرحلة وتبني لمرحلة تقطع مع ماض عاش فيه الشاعر الرفض فكان التمرد شعرا والنضال كلمة داعيا إلى التعلق بقضايا الأمة (فلسطين، العراق...) والصمود تجاه عدو خفي تارة ومرئي تارة أخرى ينخر جسد الوطن العربي من كل جوانبه فهناك تقسيم في السوادان تقتيل في سوريا، تمزيق طائفي لجسد العراق، دمع في مصر، حرب باليمن السعيد، نبوءة جديدة في ليبيا وجرح عميق منذ النكبة يسمى فلسطين، هكذا ينتقل من الضيق الخاص (الثورة التونسة) إلى المتسع العام في رسم قضايا القومية العربية فلا طبيب يسعه رتق الجرح وتضميد الجسد العربي المريض مستعرضا الأمجاد وهذا ماجعله في عديد من الأحيان يستعمل غريب اللفظ ووحشية لأن تلك الحالة ترجعه إلى شعر المتنبي وإلى النخوة الشعرية ورائحة الصحراء التي تشيع بأنفاسها لينتصر للقصيدة العمودية.

إن شعر"المباركي" يختلط عنده نار الكتابة بالعروض وتمتزج آهاته حاملة للحرف النازف لهيب الثورة في شجن واضح من خلال عديد المعاجم اللغوية المتنافرة حينا والمتقاربة أحيانا أخرى باحثا عن الانعتاق والاحساس بالإنسانية ودوره في تغيير السائد الموجود حتى وإن كان مجرد كلمات نازفة تحترق بين طرفي الصدر والعجز.

الهادي عرجون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى