الأحد ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢١

صداقة

صالح البياتي

كنّا نلتقي يومياً، في الحي الذي نسكن، نتبادل تحية الصباح، وإبداء الإنطباع عن الطقس، فإذا كان جيدا؛ يبادر أحدنا قائلا"يوم جميل مشمس أو رائع"، فيقول الآخر هو كذلك، ويتمنى له يوما لطيفا.

هذه الكلمات القليلة، هي كل ما كان يدور بيننا من كلام، وقد عرفت من لكنته انه مغترب مثلي، لكن لم أعرف من أي بلد هاجر، فهو يتكلم الإنجليزية بطلاقة، اغبطه عليها، وكما العائدة في بداية التعارف؛ ألا تسأل عن أشياء شخصية، إحتراماً للخصوصية المتبعة في هذه البلاد.

انتقلت للعيش في هذا الحي منذ ثمان سنوات، ومعظم سكنته من أبناء المهاجرين، ورغم طول المدة، لم أعقد علاقات صداقة مع الجيران، استطيع ان اصفها بانها ترقى الى مستوى الصداقة، حتى ان علاقتي بجاريَّ الجنب، اقتصرت على التحية فقط، وبالصدفة عندما نرى بعضنا امام المنزل، وبعد سنتين عرفت اسم احدهما، اما الجار الآخر فلا زلت اجهل أسمه، لأنني نادرا ما أراه.

التقيت صديق الطريق كالعادة، بدا الصباح ذاك اليوم مختلفا، لانني كنت راغباً ان أرفع التكلف، نقف ونتحدث كما العادة بين الأصدقاء، تصافحنا وقلت كيف حالك، رد شاكراً أنا بخير، وسألني وأنت، اجبت بخير، وأفترقنا.

كانت تلك خطوة صغيرة الى الأمام، او إن شئت سمها طرق خافت على باب الخصوصية الموارب.

مضت أيام قليلة وتوقفنا ثانية، هذه المرة كنت احب ان يطول الحديث بيننا اكثر قليلا، كمقدمة لتجاوز الرسميات، فسألته"منذ متى وأنت هنا"ولكي أضفي بهجة على الحديث كنت على وشك ان اضيف"الى هذه البلاد التي في أقصى العالم"لكنه اسرع بالإجابة مبتسماً"انتقلت الى هنا منذ حوالى السنة تقريباً"

فكلمة"هنا"التي احتواها السؤال، قد تعني المكان او البلد في آن، فحصل سوء فهم، وخجلت ان اعيد عليه السؤال بصيغة أوضح.

قلت في نفسي لا داعي لذلك، لندع معرفة وطنه الأم تأتي بشكل عفوي، أثناء الحديث في مناسبات أخرى.

نحن في التمشي نتعاكس في الإتجاه، ولكن نلتقي في مكان معين، وبنفس الوقت تقريباً.
عندما أفكر بالبلد الذي هاجر منه، إفترض انه شرق أوسطي، وأستبعد ان يكون أوربيا، إيطاليا مثلا او يونانيا، ولكن أحتمل ان يكون مالطياً، أي عموما من شعوب حوض البحر المتوسط، هذا الإفتراض بنيته على ملامحه.

لابد انه كان صبيا يافعا، عندما حطت قدماه لأول مرة؛على اديم هذه القارة البعيدة، وكان طبعاً بصحبة عائلته المهاجرة، وهو الآن رجل في أواسط العقد السادس، بنيت ذلك الإستدلال على طلاقة لسانه في التحدث بالإنجليزية.

افترض ايضا أنه كان موظفا غير عادي، تقاعد قريبا، ويتقاضى راتبا تقاعدياً جيدا، يكفل له الإستمتاع بحياة مرفه، هذا الإفتراض بدهي لا يحتاج الى ذكاء، واضح من مظهره ومستواه المعيشي الممتاز، إمتلاك بيت جميل بطابقين، وسيارة فاخرة تقف امامه.

مرت السنة الأولى، ولا تزال علا قتنا رسمية، كما كانت اول مرة تعارفنا، وفجأة اختفى صديقي، الذي أعتدت ان اراه يوميا، فقصدت بيته، وجدت السيارة مركونة في مكانها، ضغطت زر الجرس، لم اتلق استجابة من خلال الجهاز المركب عند الباب، صمت مطبق يلف المكان، فكرت أنه ربما سافر لقضاء عطلة رأس السنة في بلد آخر قريب.

اُعلِنَ أثناء غيابه، عن الوباء لأول مرة، ولكن لم تتخذ الحكومات بعد إجراءات جدية، كانت مفاجأة غريبة، استوعبها الناس ببطء، في البدء كان رد الفعل عبارة عن تساؤل: متى وكيف، ثم بعد مرور وقت قصير؛ تحول التساؤل الى إتهام متبادل، مَنْ ولماذا!

ثم بدأت الدول تأخذ الموضوع بجدية أكثر، فوضعت إجراءات صارمة على السفر، وألزمت العائدين من الخارج بالحجر الصحي في فنادق لمدة أسبوعين، وأوصت السلطات الصحية بالتباعد الجسدي بين الناس؛ لمسافة متر ونصف.

عاد صديقي قبل إغلاق الحدود، يتنزه مع كلب من نوع الراعي الألماني، خفت عندما إقترب مني، جمدت في مكاني حين إحتك بي، وراح يلحس ساقي المكشوفة، كنت أرتدي بنطالا قصيراً، وتي شيرت صيفي، فإنزعجت ان يترك لعابه عليها، زجره فتراجع وعاد لمكانه، شكرته، ضحك وطمأنني أنه كلب غير مؤذ، رغم مظهره المرعب، في تلك اللحظة السريعة والحرجة، فكرت لماذا أخاف الكلاب، وأشعر بالإشمئزاز والنجاسة منها، ولكن وقوفي امام صديقي العائد، جعلني أتحايد مع مشاعري، ولا أهتم ان كان برفقة كلب او انه لوحده، سألته هل كنت مسافرا خارج البلاد.."نعم زرت مسقط رأسي.. وإحتفلت هناك مع أقاربي بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة"

زار صديقي إذن موطني الذي جئت منه، ولكن لماذا لم يذكر اسمه الرسمي، وذكر اسم ممكلة غابرة، نشأت في شماله وإنقرضت منذ زمن بعيد.

إقتسمنا صمتاً مترقبا.. سألني حين رأى ابتسامة دهشة تلوح على شفتي، تشي بتساؤل صامت، فقال هل انت من هناك ايضا! قلت نعم يا صديقي..
نقل مقود كلبه من يده اليمنى الى اليسرى، وصافحني، متناسيا التحذير من عدوى الڤايروس القاتل.

في طريق عودتي للبيت لم أهتم كثيراً بِ مِنْ أين إنحدر صديقي، بقدر ما فكرت بالكلب، والإحساس الغريب الذي انتابني؛ حينما مس لسانه ساقي المكشوفة، هل كان ذاك إحساساً بالنجاسة؛ ام بشيء آخر أجهله، فتذكرت الفتية الذين التجأوا للكهف، وكلبهم الذي كان اثناء رقدتهم الطويلة؛ باسطا ذراعيه بالوصيط، ألم يُعـَدُ معهم؛ عند التساؤل عن عددهم، فعلى أي أساس يا ترى ارتكزت هذه النظرة الدونية لهذا الحيوان الأليف، فسألت نفسي لماذا لا أقتني كلبا أتنزه معه أثناء جولتي الصباحية.

صالح البياتي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى