الأربعاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

صوتُ العالم وإيمانُ الشّرق

رأيْنا فيما سبقَ كيف استطاع نعيمةُ تصويرَ أصواتِ العالم ومن بينها صوتُ البشريّة في زمنه وهو صوتُ المدنيّة الّتي يقودُها الحلفُ الثّلاثيّ: السّياسةُ والاقتصاد والحربُ.. وكأنّ العالمَ سفينةٌ تائهة في عرضِ البحر لا تعرفُ لها خلاصاً ولا قراراً إلى شاطئِ أمانٍ ترسو عليه؛ لأنّ اهتمامَ ربابينِ السّفينةِ انصبَّ على الجوانبِ المادّيّة متغافلاً عن الجوانبِ الرّوحيّة وفي مقدّمتها الإيمانُ بالله وبالإنسانِ الّذي هو صورةُ اللهِ على الأرض.. ولهذا فالعالمُ يرزحُ تحت وطأةِ أوبئتِه ومآسيهِ وضياعِه، ومن هنا كان لا بدَّ لنعيمةَ من البحثِ عن حلٍّ حقيقيّ لآلام البشريّة، وقد تراءى له أنَّ البلسمَ الشّافي في الإيمانِ الّذي ما أنبتَتْه إلّا أرضُ الشّرقِ، وما فاحَت بعبيرِه غيرُ سماءِ الشّرق، ولكنْ أين هو صوتُ الشّرق من صوتِ العالم؟!

هنا يبدأُ نعيمة باستنهاضِ همم الشّرقِ في إيقادِ شموع الإيمانِ لهدايةِ العالم الغارقِ في ظلماتِ البناءِ الّذي هندسهُ حلفٌ ثلاثيٌّ لا يرى من العالمِ إلّا بهرجةَ الحكمِ، ولمعانَ الدّراهم، ولا يسمعُ إلّا دويَّ المدفع.. فهل للشّرقِ أن يستيقظَ من سباتِه العميقِ؛ ليقودَ العالمَ إلى شاطئِ أمانٍ يسودُه السّلامُ والوئامُ والطّمأنينةُ للوصولِ إلى عالمِ الأبديّة؟!

ويسائلُ نعيمة ذاتَه حول هذا الشرقِ الّذي كان منبعَ الإيمان، وتتنوَّع الأسئلةُ: "إنّي أسائلُ نفسي عن هذا الشّرقِ الّذي كان منبعَ الإيمان -أين أذنُه اليومَ، وماذا يسمعُ، وماذا يقول، وأين صوتُه في صوتِ العالم؟"
وتأتي الإجابةُ منه على تساؤلاتِه على ثلاثِ صورٍ:

الأولى تعتمدُ المشاهدةَ بالعين الّتي لا ترى الشَّرقَ سوى خشبةٍ في عرضِ اليمّ تتقاذفُها التّيَّاراتُ العالميّة كيفَما تشاءُ وأنّى تريد: "ولو صدّقتُ عَيني لا غير لقلتُ إنّه خشبةٌ لا سفينةٌ، تتقاذفُها شتّى التّيّاراتِ العالميّة، ولن يكونَ لها من شأنٍ في خضمِّ الأهواء المسيطرةِ اليومَ أكثرَ ممّا يكونُ لخشبةٍ في عرضِ اليمّ".

أمّا الصّورةُ الثّانية فتعتمدُ على السّماع، سماعِ ما يقولُه الشَّرقُ بلسانِ زعمائِه، وهنا الطّامّةُ الكُبرى الّتي تُخجِلُ وتُبكي: "ولو صدّقتُ ما يقولُه هذا الشّرقُ بلسان زعمائِه والّذين يزعمُون أنّهم زعماؤُه لخجِلتُ به وبكيْتُ عليه" .

وأمّا الصُّورةُ الثالثة فمصدرُها الفؤادُ الّذي يتجاوزُ ما تراهُ العينُ وما تسمعُه الأذنُ، وذاك هو الإيمانُ الّذي يتجاوزُ حدودَ الزّمان والمكان، فيُحيلُ التّشاؤمَ إلى تفاؤلٍ والوهْنَ إلى قوّةٍ واليأسَ إلى أملٍ: "إلّا أنّ في قرارةِ نفسي إيماناً وطيداً بأنّ الشّرقَ ما أضاع إيمانَه، وأنّ جراثيمَ إيمانِه ما تزالُ حيّةً في تربة روحِه رغم جميعِ ما تسرّبَ إلى تلك التربةِ من فسادٍ، وأنّها لا يَمضي طويلُ زمانٍ حتّى تنبتَ فتُورقَ وتزهرَ وتثمرَ من جديد. وسيكون لثمرِها طعمُ ما كان له من قبلُ. وسيأكلُ النّاسُ منه ويفرحُون".

سآمةُ البشريّةِ صوتَ المدنيّة

ولكي يستنهضَ نعيمةُ هممَ الشّرق للنّهوض بموروثِه الرّوحيّ لإنقاذِ العالم، فإنّه يشبّهُ البشريّةَ بقافلةٍ سئِمَت أصواتَ الحُداةِ (السّياسة- الاقتصاد- السّيف) الّذين يقودونها من حفرةٍ إلى حفرة، ومن مأزقٍ إلى مأزق، فهي بأمسّ الحاجةِ إلى حُداةٍ أنبياءَ يسِيرون بها على صوتِ الحقِّ لا المدفعِ، وعلى طريقِ المحبّة لا في مهاوي الكراهيةِ، وعلى نورِ وجهِ الله لا على بريقِ وجه الفِلس: "لقد سئِمَت القافلةُ البشريّةُ أصواتَ حداةٍ ما برحُوا يقودونها من حفرةٍ إلى حفرة، ومن مأزقٍ إلى مأزق. وحاجتُها اليومَ إلى حداةٍ أنبياءَ يسيرون بها لا على صوتِ المدفع بل على صوتِ الحقِّ، وفي طريق المحبّةِ لا في مهاوي الضّغائنِ، وعلى نورِ وجه اللهِ لا على بريقِ وجه الفلسِ. أفليس هذا الشَّرقُ بسامعٍ ما نقول؟".

وها هو نعيمةُ يوجّهُ رسائلَه إلى هذا الشّرقِ، فيفتخرُ بما من طبيعتِه، ولو كان أمراً يسيراً حقيراً، ويحتقرُ ما ليس من جبلّتِه ولو كان مظهراً عجيباً، وتنسابُ هذه الرّسائلُ على لسانِ حكيمٍ عارفٍ بأحوال أمّتِه، كما تنهمرُ نصائحُ شيخٍ عجوز لآلئَ يُهديها إلى أبنائِه وأحفادِه:

لستُ أخجلُ بالشّرقِ يأكلُ خبزَه على صَينيّةٍ ضفّرتْها يدُه من سنابلَ أنبتَتْها تربتُه. وأَخجلُ به يحتَسي الهوانَ بملاعقِ الجُشعاءِ على موائدِ الجُشَعاء.

لستُ أخجلُ بالشّرقِ فارغَ الجيبِ ضامرَ البطن. وأخجلُ به فارغَ القلبِ ضامرَ الإيمان.

لستُ أخجلُ بالشّرق لا يسبقُ الغربَ إلى محْقِ النّاسِ والبهائمِ الآمنين بقذائفَ جهنَّميّةٍ يمطرُها إيّاها من الجوّ، وأخجلُ به يخجلُ بتقصيرِه عن الغربِ في ذلك المضمارِ.

لستُ أخجلُ بالشّرق لا جيوشَ له ولا أساطيلَ. وأخجلُ به يحسبُ القوّةَ في الجيوشِ، والمجدَ في الأساطيلِ، والحقَّ في القوّةِ.

ويَمضي نعيمةُ في حشدِ شواهدِ التّاريخ الّتي يعرفُها الشّرقُ والغرب، الخاصّةُ والعامّة، والّتي ما تزالُ آياتٍ بيّناتٍ على قوّة الحقِّ في وجه الباطلِ وعظمةِ الإيمان أمامَ جبروتِ الطّغيان، فيسردُ تلك العِبرَ السّائرةَ من قصصِ الكتبِ السّماويّةِ الّتي هبطَت من سماءِ الشّرق إلى أرضِه:

ما كان أضعفَ موسى في حضرةِ فرعونَ. لكنّ فرعونَ راحَ، ومعه جيوشُه ومركباتُه. أمّا نورُ موسى فما يزالُ يشعُّ من أعالي طورِ سينا. ذاك لأنّ إيمانَ موسى بنفسِه وبيهوَه كان أقْوى من جيوشِ فرعون.

ما كان أضعفَ ابنَ مريمَ إزاءَ بيلاطس ودولةِ بيلاطس. لكنّ بيلاطس بادَ، ودولتَه تلاشَت كغيمةٍ في السّماء. أمّا ابنُ مريمَ فحيٌّ، ودولتُه ما دالَت ولن تدولَ. ذاك لأنّ إيمانَ ابنِ مريم بنفسِه وبأبيهِ الّذي في السّموات كان أقوى من رومةَ وجحافلِ رومة.

ما كان أضعفَ يتيمَ قريشٍ تجاهَ سادةِ قريش. وها هي رسالتُه ما تزالُ ماشيةً في الأرض. فأين قريشٌ وسادةُ قريش؟ ذاك لأنّ إيمانَ يتيمِ قريش بنفسِه وبربّهِ الرّحمنِ الرّحيم كان أقوى من سلطانِ كلِّ قريش.

ضِنُّ الكاتبِ على الشّرق

وها هو نعيمةُ يسوقُ جملةً من عباراتِ الضّنينِ على هذا الشّرقِ لمكانتِه العظيمة، فهو مصدرُ الحرّيّةِ والحياةِ والطّهر والجمالِ، لكنّه يستَجديها من غيرِه. وهو أرضُ الهيبةِ والقوّةِ والبطولات بجبالِها وبحارِها وصحاريها، لكنّه يُوصدُ قلبَه دونَها، ويمشي بقدميهِ إلى الذّلِّ والهَوان. وأرضُه مهبِطُ الرّسالاتِ السّماويّة ومنبعُ الإيمان، لكنّه أضاعَ إيمانَه في تيّار مدنيّةٍ لا إيمانَ لها، ولا تغرّنّكَ كثرةُ معابدِه وشيوخِه وكهّانِه:

إنّي أضِنُّ بهذا الشّرقِ يستَجدي الحياةَ والحرّيّةَ من دولةٍ أو من إنسانٍ. وشآبيبُ الحرّيّةِ والحياةِ والطّهر والجمالِ تتدفَّقُ عليه في كلِّ لحظةٍ من يدِ الله السّخيَّة.

إنّي أضنُّ بهذا الشّرقِ يفتحُ قلبَه للذُّلِّ ويُوصِدُه دون هيبةِ جبالِه وبحارِه وصحاريه.

وإنّي أضنُّ بهذا الشّرقِ يُضيعُ إيمانَه في تيّار مدنيّةٍ لا إيمانَ لها. وليس يُعزّيني عن قلّةِ إيمانِه كثرةُ معابدِه وشيوخِه وكهّانِه.

ويوضّح نعيمةُ حقيقةَ ضياعِ إيمان الشّرقِ بتعريفِ الدّينِ الّذي لا تشي كثرةُ معابدِه والقائمينَ عليها وتزاحمِ زَرافاتِ العابدين إلى محاريبها بمفهومِ الإيمانِ الحقيقيّ؛ لأنّ الدّينَ في اعتقادِ نعيمة: "كنزٌ في القلبِ لا تسبيحةٌ على الشّفاه، أو تأديةُ فرضٍ محتوم في مكانٍ معلوم. إنّه لشهادةٌ صامتة في أعمقِ أعماقِ الرّوح بأنّ مصدرَ الحياةِ واحدٌ ومرجعُها واحد. مَن أدّى مثلَ هذه الشّهادةِ كان بعيداً عن كلِّ تفرقةٍ ونزاع. فلا وضيعَ عنده ولا رفيعَ. ولا سيّدَ ومَسُود. ولا غريبَ وقريب. بل الكلُّ وحدةٌ متماسكة بسحرِ المحبّة، مسربلةٌ بنورِ الحقّ، مُضمَّخةٌ بعطرِ الجمال".

ويختتم نعيمةُ مقالتَه (صوت العالم) ببيانِ أهمّيّةِ صوت الإيمانِ الّذي منبعُه الشّرقُ ومجراهُ يتجاوزُ الحدودَ والسُّدود الّتي يسعى إليها مهندسُو العالمِ المتحضِّر ، ومصبُّه العالمُ بأسْرِه، ويودُّ نعيمةُ من صميم قلبِه أن يؤدّيَ هذا الشّرقُ إيمانَه بشهادةٍ صامتة من أعماقِ الرّوح تؤمِنُ بأنّ مصدرَ الحياةِ واحدٌ ومرجعُها واحد، بعيداً عن كلِّ فرقةٍ ونزاعٍ، يتساوى فيها الجميعُ في وحدةٍ متماسكةٍ بسحر المحبّة، مسربلةٍ بنورِ الحقّ، مضمَّخةٍ بعطرِ الجمال: "وأنا أودُّ من صميمِ قلبي لهذا الشّرقِ أن يؤدّيَ مثلَ هذه الشّهادةِ. وأن أراهُ - وهو أوّلُ مَن أدرك قوّةَ الإيمان - يحملُ من جديدٍ رسالةَ الإيمان إلى العالم. وأن يُسمِعَ العالمَ في صوتِه صوتَ الإنسانيّةِ المعذَّبة بأصواتِ (مهندسيها) والمنكوبةِ بجلبةِ (بنّائیها) - صوتَ أشواقِها الأبديّة إلى الانفلاتِ من الحدودِ، والانعتاقِ من السّدود، والحظوةِ بجمالِ الحرّيّةِ الّتي لا تستَعبِدُ، والعدلِ الّذي لا يَظلم".

أمنياتُ الكاتبِ لنهوض الشّرق

قد يكونُ من المجدِ لهذا الشّرقِ أن يصبحَ دولةً متراميةَ الأطراف، مهيبةَ الجانب، نافذةَ الكلمة. لكنّه مجدٌ باطلٌ. أمّا المجدُ الّذي أتمنَّاه لهذا الشّرقِ العبِقِ بالسّلام فهو أن تطفحَ قلوبُ بنيهِ بزيتِ السّلام وتفيضَ على العالمِ الصّاخب من حولِه.

والعظمةُ الّتي أترجّاها لهذا الشّرقِ الجميل هي أن يشِعَّ منه جمالُ الإيمانِ الصّحيح على العالمِ الهاربِ سراعاً من ربِّ الحياةِ إلى شياطينِ الموت.

والمأثرةُ الّتي أتوخّاها لهذا الشّرقِ الحَصين هي أن يصبحَ حصناً للدّينِ الّذي يبتدئُ بالله وينتهي بالله - دينِ الأخوّةِ الصّادقةِ والأبوّةِ المتفانية. دينِ المحبّةِ الشّاملة.

وأنا أختتمُ دراستي بأمنياتٍ لهذا العالمِ أن يُخلّصَه اللهُ من عقدِه النّفسيّةِ القائمةِ على الهيمنةِ والسّيطرةِ والغزوِ واستباحةِ حقوقِ الآخرينَ تحت أيِّ شعارٍ سماويّ أو أرضيّ، تارةً باسمِ السّماء، وتارةً باسمِ الحضارةِ والتّمدُّن، وتارةً باسمِ الحربِ على الشّيطان، وأن يخلّصَنا اللهُ من أنظمةٍ قمعيّة تتّخذُ من أوطانِها مزارعَ تعيثُ فيها فساداً ودماراً، فوق ما يستبيحُها الأعداءُ.. واللهُ في عونِ الإنسان ما كان الإنسانُ في عونِ أخيه بعيداً عن أيِّ جنسٍ أو لونٍ أو انتِماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى